قوله تعالى : { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } . أي على ألسنة رسلك .
قوله تعالى : { ولا تخزنا } . ولا تعذبنا ، ولا تهلكنا ، ولا تفضحنا ، ولا تهنا .
قوله تعالى : { يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد } . فإن قيل : ما وجه قولهم ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، وقد علموا أن الله لا يخلف الميعاد ؟ قيل : لفظه دعاء ومعناه خبر ، أي : لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك ، تقديره فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا ولا تخزنا يوم القيامة لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك من الفضل والرحمة ، وقيل : معناه ربنا واجعلنا ممن يستحقون ثوابك وتؤتيهم ما وعدتهم على ألسنة رسلك لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة ، فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها ، وقيل : إنما سألوه تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء ، وقالوا قد علمنا أنك لا تخلف ، ولكن لا صبر لنا على حلمك فعجل خزيهم وانصرنا عليهم .
وختام هذا الدعاء . توجه ورجاء . واعتماد واستمداد من الثقة بوفاء الله بالميعاد :
( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، ولا تخزنا يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد )
فهو استنجاز لوعد الله ، الذي بلغته الرسل ، وثقة بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد ، ورجاء في الإعفاء من الخزي يوم القيامة ، يتصل بالرجفة الأولى في هذا الدعاء ، ويدل على شدة الخوف من هذا الخزي ، وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه . مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله .
والدعاء في مجموعة يمثل الاستجابة الصادقة العميقة ، لإيحاء هذا الكون وإيقاع الحق الكامن فيه ، في القلوب السليمة المفتوحة . .
ولا بد من وقفة أخرى أمام هذا الدعاء ، من جانب الجمال الفني والتناسق في الأداء . .
إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها - والقوافي في القرآن غيرها في الشعر ، فيه ليست حرفا متحدا ، ولكنها إيقاع متشابه - مثل : " بصير . حكيم . مبين . مريب " . . " الألباب ، الأبصار ، النار . قرار " . . " خفيا . شقيا . شرقيا . شيئا . " . . . إلخ .
وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير . والثانية في مواضع الدعاء . والثالثة في مواضع الحكاية .
وسورة آل عمران تغلب فيها القافية الأولى . ولم تبعد عنها إلا في موضعين : أولهما في أوائل السورة وفيه دعاء . والثاني هنا عند هذا الدعاء الجديد . .
وذلك من بدائع التناسق الفني في التعبير القرآني . . فهذا المد يمنح الدعاء رنة رخية ، وعذوبة صوتية . تناسب جو الدعاء والتوجه والابتهال .
وهناك ظاهرة فنية أخرى . . إن عرض هذا المشهد : مشهد التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، يناسبه دعاء خاشع مرتل طويل النغم ، عميق النبرات . فيطول بذلك عرض المشهد وإيحاءاته ومؤثراته ، على الأعصاب والأسماع والخيال ، فيؤثر في الوجدان ، بما فيه من خشوع وتنغيم وتوجه وارتجاف . . وهنا طال المشهد بعباراته وطال بنغماته مما يؤدي غرضا أصيلا من أغراض التعبير القرآني ، ويحقق سمة فنية أصيلة من سماته .
{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } قيل : معناه : على الإيمان برسلك . وقيل : معناه : على ألسنة رسلك . وهذا أظهر .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن محمد ، عن أبي عِقَال ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عَسْقَلان أحد العروسين ، يبعث الله منها يوم القيامة سبعين{[6372]} ألفًا لا حساب عليهم ، ويبعث منها خمسين{[6373]} ألفا شهداء وُفُودًا إلى الله ، وبها صُفُوف الشهداء ، رؤوسهم مُقَّطعة في أيديهم ، تَثِجّ أوداجهم دما ، يقولون : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } فيقول : صَدَق عبدي ، اغسلوهم بنهر البيضة . فيخرجون منه نقاء بيضًا ، فيسرحون في الجنة حيث شاؤوا " .
وهذا الحديث يُعد من غرائب المسند ، ومنهم من يجعله موضوعا ، والله أعلم{[6374]} .
{ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : على رؤوس الخلائق { إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } أي : لا بد من الميعاد الذي أخبرتَ عنه رسُلَك ، وهو القيام يوم القيامة بين يديك .
وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحارث بن سُرَيْج{[6375]} حدثنا المعتمر ، حدثنا الفضل بن عيسى ، حدثنا محمد بن المنكدر ؛ أن جابر بن عبد الله حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العار والتخزية تبلغ{[6376]} من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله ، عز وجل ، ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار " حديث غريب{[6377]} .
لمّا سألوا أسباب المثوبة في الدنيا والآخرة ترقّوا في السؤال إلى طلب تحقيق المثوبة ، فقالوا : { وآتنا ما وعدتنا على رسلك } .
وتحتمل كلمة ( على ) أن تكون لتعدية فعل الوعد ، ومعناها التعليل فيكون الرسل هم الموعود عليهم ، ومعنى الوعد على الرسل أنّه وعد على تصديقهم فتعيّن تقدير مضاف ، وتحتمل أن تكون ( على ) ظرفاً مستقرّاً ، أي وعداً كائناً على رُسلك أي ، منزلاً عليهم ، ومتعلَّق الجار في مثله كونٌ غير عامّ بل هو كون خاصّ ، ولا ضير في ذلك إذا قامت القرينة ، ومعنى ( على ) حينئذ الاستعلاء المجازي ، أو تجعل ( على ) ظرفاً مستقرّاً حالاً { ممّا وعدتنا } أيضاً ، بتقدير كون عامّ لكن مع تقدير مضاف إلى رسلك ، أي على ألْسِنَةِ رسلك .
والموعود على ألسنة الرسل أو على التصديق بهم الأظهر أنّه ثواب الآخرة وثواب الدنيا : لقوله تعالى : { فآتاهم اللَّه ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } [ آل عمران : 148 ] وقوله : { وعد اللَّه الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } [ النور : 55 ] الآية ، وقوله : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] . والمراد بالرسل في قوله : { على رسلك } خصوص محمد صلى الله عليه وسلم أطلق عليه وصف « رسل » تعظيماً لقوله تعالى : { فلا تحسبن اللَّه مخلف وعده رسله } [ إبراهيم : 47 ] . ومنه قوله تعالى : { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم } [ الفرقان : 37 ] .
فإن قلتَ : إذا كانوا عالمين بأنّ الله وعدهم ذلك وبأنَّه لا يخلف الميعاد فما فائدة سُؤالهم ذلك في دعائهم ؟ قلت : له وجوه : أحدها : أنّهم سألوا ذلك ليكون حصوله أمارة على حصول قُبول الأعمال التي وعد الله عليها بما سألوه فقد يظنّون أنفسهم آتين بما يبلّغهم تلك المرتبة ويخشون لعلّهم قد خلطوا أعمالهم الصالحة بما يبطلها ، ولعلّ هذا هو السبب في مجيء الواو في قولهم : { وآتنا ما وعدتنا } دون الفاء إذ جعلوه دعوة مستقلّة لتتحقّق ويتحقّق سببها ، ولم يجعلوها نتيجة فعل مقطوع بحصوله . ويدلّ لصحّة هذا التأويل قوله بعدُ : { فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم } [ آل عمران : 195 ] مع أنّهم لم يطلبوا هنا عدم إضاعة أعمالهم .
الثاني : قال في « الكشّاف » : أرادوا طلب التوفيق إلى أسباب ما وعدهم الله على رسله . فالكلام مستعمل كناية عن سبب ذلك من التوفيق للأعمال الموعود عليها .
الثالث : قال فيه ما حاصله : أن يكون هذا من باب الأدب مع الله حتّى لا يظهروا بمظهر المستحقّ لتحصيل الموعود به تذلّلاً ، أي كسؤال الرسل عليهم السلام المغفرة وقد علموا أنّ الله غفر لهم .
الرابع : أجاب القرافي في الفرق ( 273 ) بأنّهم سألوا ذلك لأنّ حصوله مشروط بالوفاة على الإيمان ، وقد يؤيّد هذا بأنّهم قدّموا قبله قولهم : { وتوقنا مع الأبرار } لكن هذا الجواب يقتضي قصر الموعود به على ثواب الآخرة ، وأعادوا سؤال النجاة من خزي يوم القيامة لشدّته عليهم .
الخامس : أنّ الموعود الذي سألوه هو النصر على العدوّ خاصّة ، فالدعاء بقولهم : { وآتنا ما وعدتنا على رسلك } مقصود منه تعجيل ذلك لهم ، يعني أنّ الوعد كان لمجموع الأمّة ، فكلّ واحد إذا دعا بهذا فإنّما يعني أن يجعله الله ممَّن يرى مصداق وعد الله تعالى خشية أن يفوتهم . وهذا كقول خبّاب بن الأرتّ : هاجرنا مع النبي نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمِنَّا مَن أيْنَعَتْ له ثمرته فهو يهدبُها ، ومنَّا من مات لم يأكُل من أجره شيئاً ، منهم مصعب بن عمير ، قتل يوم أحُد ، فلم نجد له ما نكفّنه إلاّ بُردة » إلخ .
وقد ابتدأوا دعاءهم وخلّلوه بندائه تعالى : خمس مرات إظهار للحاجة إلى إقبال الله عليهم . وعن جعفر بن محمد رضي الله عنه « مَن حَزبه أمر فقال : يا ربّ خمس مرات أنجاه الله ممّا يخاف وأعطاه ما أراد » ، واقرأوا : { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً } إلى قوله : { إنك لا تخلف الميعاد } .