البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (194)

{ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } الظاهر أنهم سألوا ربهم أن يعطيهم ما وعدهم على رسله ، ففسر هذا الموعود به بالجنة قاله : ابن عباس .

وقيل : الموعود به النصر على الأعداء .

وقيل : استغفار الأنبياء ، كاستغفار نوح وابراهيم ورسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ، واستغفار الملائكة لهم .

وقوله : على رسلك هو على حذف مضاف ، فقدره الطبري وابن عطية : على ألسنة رسلك .

وقدره الزمخشري : على تصديق رسلك .

قال : فعلى هذه صلة للوعد في قولك : وعد الله الجنة على الطاعة .

والمعنى : ما وعدتنا على تصديق رسلك .

ألا تراه كيف اتبع ذكر المنادي للإيمان وهو الرسول ، وقوله : آمنا وهو التصديق .

ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف أي : ما وعدتنا منزلاً على رسلك ، أو محمولاً على رسلك ، لأنَّ الرسل يحملون ذلك ، فإنما عليه ما حمل انتهى .

وهذا الوجه الذي ذكر آخراً أنه يجوز لبس بجائز ، لأن من قواعد النحويين أن الجارّ والمجرور والظرف متى كان العامل فيهما مقيداً فلا بد من ذكر ذلك العامل ، ولا يجوز حذفه ، ولا يحذف العامل إلا إذا كان كوناً مطلقاً .

مثال ذلك : زيد ضاحك في الدار ، لا يجوز حذف ضاحك ألبتة .

وإذا قلت : زيد في الدار فالعامل كون مطلق يحذف .

وكذلك زيد ناج من بني تميم ، لا يجوز حذف ناج .

ولو قلت : زيد من بني تميم جاز على تقدير كائن من بني تميم ، والمحذوف فيما جوزه الزمخشري وهو قوله : منزلاً أو محمولاً ، لا يجوز حذفه على ما تقرر في علم النحو .

وإذا كان العامل في الظرف أو المجرور مقيداً صار ذلك الظرف أو المجرور ناقصاً ، فلا يجوز أن يقع صلة ، ولا خبر إلا في الحال .

ولا في الأصل ، ولاصفة ، ولا حالاً ، و معنى سؤالهم : أن يعطيهم ما وعدهم ، أن يثيبهم على الإيمان والطاعة حتى يكونوا ممن يؤتيهم الله ما وعد المؤمنين ، ومعلوم أنه تعالى منجز ما وعد ، فسألوا إنجاز ما ترتب على الإيمان .

والمعنى : التثبيت على الإيمان حتى يكونوا ممن يستحق برحمة الله تعالى إنجاز الوعد .

وقيل : هذا السؤال جاء على سبيل الالتجاء إلى الله تعالى والتضرّع له ، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستغفرون ، مع علمهم أنهم مغفور لهم ، يقصدون بذلك التذلل والتضرع إليه والالتجاء .

وقيل : استبطؤوا النصر الذي وعدوا به فسألوا أن يعجل لهم وعده ، فعلى هذا وهو أن يكون الموعود به النصر يكون الإيتاء في الدّنيا ، وعلى أن يكون الجنة يكون الإيتاء في الآخرة .

وقرأ الأعمش : على رسلك بإسكان السين .

{ ولا تخزنا يوم القيامة } فسر الإخزاء هنا بما فسر في فقد أخزيته .

ويوم القيامة معمول لقوله : ولا تخزنا .

ويجوز أن يكون من باب الإعمال ، إذ يصلح أن يكون منصوباً بتخزنا وبآتنا ما وعدتنا ، إذا كان الموعود به الجنة .

{ إنك لا تخلف الميعاد } ظاهره أنه تعليل لقوله : { وآتنا ما وعدتنا } .

وقال ابن عطية : إشارة إلى قوله تعالى : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } فهذا وعده تعالى ، وهو دال على أنّ الخزي إنما هو مع الخلود انتهى .

وانظر إلى حسن محاورة هؤلاء الذاكرين المتفكرين ، فإنهم خاطبوا الله تعالى بلفظة ربنا ، وهي إشارة إلى أنه ربهم أصلحهم وهيأهم للعباد ، فأخبروا أولاً بنتيجة الفكر وهو قولهم : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } ثم سألوه أن يقيهم النار بعد تنزيهه عن النقائص .

وأخبروا عن حال من يدخل النار وهم الظالمون الذين لا يذكرون الله ، ولا يتفكرون في مصنوعاته .

ثم ذكروا أيضاً ما أنتج لهم الفكر من إجابة الداعي إلى الإيمان ، إذ ذاك مترتب على أنه تعالى ما خلق هذا الخلق العجيب باطلاً .

ثم سألوا غفران ذنوبهم ووفاتهم على الإيمان الذي أخبروا به في قولهم : فآمنا .

ثم سألوا الله الجنة وإنْ لا يفضحهم يوم القيامة ، وذلك هو غاية ما سألوه .

وتكرر لفظ ربنا خمس مرات ، كلّ ذلك على سبيل الاستعطاف وتطلب رحمة الله تعالى بندائه بهذا الاسم الشريف الدال على التربية والملك والإصلاح .

وكذلك تكرر هذا الاسم في قصة آدم ونوح وغيرهما .

وفي تكرار ربنا ربنا دلالة على جواز الإلحاح في المسألة ، واعتماد كثرة الطلب من الله تعالى .

وفي الحديث : « ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام » وقال الحسن : ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم .

وهذه مسألة أجمع عليها علماء الأمصار خلافاً لبعض الصوفية ، إذا جاز ذلك فيما يتعلق بالآخرة لا بالدنيا ، ولبعض المتصرفة أيضاً إذ قال الله تعالى : « تولي من اتبع الأمر » واجتنب النهي وارتفع عنه كلف طلباته ودعائه .

خرج أبو نصر الوايلي السجستاني الحافظ في كتاب الإبانة عن أبي هريرة : « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة » يعني : أن في خلق السموات والأرض .

قال العلماء : ويستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه ، ويستفتح قيامه بقراءة هذه العشر آيات اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما ، ثم يصلي ما كتب له ، فيجمع بين التفكر والعمل .

/خ200