قوله تعالى : { ودخل معه السجن فتيان } ، وهما غلامان كانا للريان بن الوليد بن شروان العمليق ملك مصر الأكبر ، أحدهما : خبازه وصاحب طعامه ، والآخر : ساقيه وصاحب شرابه . غضب الملك عليهما فحبسهما . وكان السبب فيه : أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله ، فضمنوا لهذين مالا ، ليسما الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم ، ثم إن الساقي نكل عنه ، وقبل الخباز الرشوة فسم الطعام ، فلما أحضر الطعام والشراب . قال الساقي : لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم ، وقال الخباز لا تشرب فإن الشراب مسموم . فقال الملك للساقي : اشرب فشربه فلم يضره ، وقال للخباز : كل من طعامك ، فأبى فجرب ذلك الطعام على دابة فأكلته فهلكت ، فأمر الملك بحبسهما . وكان يوسف حين دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول إني أعبر الأحلام ، فقال أحد الفتيين لصاحبه : هلم فلنجرب هذا العبد العبراني ، فتراءيا له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا ، قال ابن مسعود ما رأيا شيئا وإنما تحالما ليجربا يوسف . وقال قوم : بل كانا رأيا حقيقة ، فرآهما يوسف وهما مهمومان ، فسألهما عن شأنهما ، فذكرا أنهما صاحبا الملك ، حبسهما ، وقد رأيا رؤيا غمتهما . فقال يوسف : قصا علي ما رأيتما ، فقصا عليه . { قال أحدهما } ، وهو صاحب الشراب ، { إني أراني أعصر خمرا } ، أي : عنبا ، سمي العنب خمرا باسم ما يؤول إليه ، كما يقال : فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبن للآجر . وقيل : الخمر العنب بلغة عمان ، وذلك أنه قال : إني رأيت كأني في بستان ، فإذا بأصل حبلة عليها ثلاث عناقيد من عنب فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه ، وسقيت الملك فشربه . { وقال الآخر } ، وهو الخباز : { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه } ، وذلك أنه قال : إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منه . { نبئنا بتأويله } ، أخبرنا بتفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا . { إنا نراك من المحسنين } ، أي : العالمين بعبارة الرؤيا ، والإحسان بمعنى العلم . وروي أن الضحاك بن مزاحم سئل عن قوله : { إنا نراك من المحسنين } ، ما كان إحسانه ؟ قال : كان إذا مرض إنسان في السجن عاده وقام عليه ، وإذا ضاق عليه المجلس وسع له ، وإذا احتاج إلى شيء جمع له شيئا ، وكان مع هذا يجتهد في العبادة ، ويقوم الليل كله للصلاة . وقيل : إنه لما دخل السجن وجد فيه قوما قد اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم ، فجعل يسليهم ويقول : أبشروا واصبروا تؤجروا ، فيقولون : بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك ، لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى ؟ قال : أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم ، فقال له عامل السجن : يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك ، ولكن سأحسن جوارك فتمكن في أي بيوت السجن حيث شئت . وروي أن الفتيين لما رأيا يوسف قالا له : لقد أحببناك حين رأيناك ، فقال لهما يوسف : أنشدكما بالله أن لا تحباني ، فوالله ما أ حبني أحد قط إلا دخل علي من حبه بلاء ، لقد أحبتني عمتي فدخل علي بلاء ، ثم أحببني أبي فألقيت في الجب ، وأحبتني امرأة العزيز فحبست . فلما قصا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما ، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره في إظهار المعجزة والدعاء إلى التوحيد .
{ 36 - 40 } { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }
أي : { و } لما دخل يوسف السجن ، كان في جملة من { دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ } أي : شابان ، فرأى كل واحد منهما رؤيا ، فقصها على يوسف ليعبرها ، . ف { قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا } وذلك الخبز { تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } أي : بتفسيره ، وما يؤول إليه أمرهما ، وقولهما : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي : من أهل الإحسان إلى الخلق ، فأحسن إلينا في تعبيرك لرؤيانا ، كما أحسنت إلى غيرنا ، فتوسلا ليوسف بإحسانه .
سنعرف من بعد أنهما من خدم الملك الخواص . .
ويختصر السياق ما كان من أمر يوسف في السجن ، وما ظهر من صلاحه وإحسانه ، فوجه إليه الأنظار ، وجعله موضع ثقة المساجين ، وفيهم الكثيرون ممن ساقهم سوء الطالع مثله للعمل في القصر أو الحاشية ، فغضب عليهم في نزوة عارضة ، فألقي بهم في السجن . . يختصر السياق هذا كله ليعرض مشهد يوسف في السجن وإلى جواره فتيان أنسا إليه ، فهما يقصان عليه رؤيا رأياها . ويطلبان إليه تعبيرها ، لما يتوسمانه فيه من الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوك :
( قال أحدهما : إني أراني أعصر خمرا ؛ وقال الآخر : إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه . نبئنا بتأويله ، إنا نراك من المحسنين ) .
قال قتادة : كان أحدهما ساقي الملك ، والآخر خبازه .
قال محمد بن إسحاق : كان اسم الذي على الشراب " نبوا " ، والآخر " مجلث " .
قال السدي : وكان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالآ على سمه في طعامه وشرابه .
وكان{[15164]} يوسف ، عليه السلام ، قد اشتهر في السجن بالجود{[15165]} والأمانة وصدق الحديث ، وحسن السّمت وكثرة العبادة ، صلوات الله عليه وسلامه ، ومعرفة التعبير والإحسان إلى أهل السجن وعيادة
مرضاهم والقيام بحقوقهم . ولما دخل هذان{[15166]} الفتيان إلى السجن ، تآلفا به وأحباه حبا شديدا ، وقالا له : والله لقد أحببناك حبا زائدا . قال{[15167]} بارك الله فيكما ، إنه ما أحبني أحد إلا دخل عليّ من محبته ضرر ، أحبتني عمتي فدخل علي الضرر بسببها ، وأحبني أبي فأوذيت بسببه ، وأحبتني امرأة العزيز فكذلك ، فقالا والله ما نستطيع إلا ذلك ، ثم إنهما رأيا مناما ، فرأى الساقي أنه يعصر خمرا - يعني عنبا - وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود : " إني أراني أعصر عنبا " . ورواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن سِنَان ، عن يزيد بن هارون ، عن شَرِيك ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن ابن مسعود : أنه قرأها : " أعصر عنبا " .
وقال الضحاك في قوله : { إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا } يعني : عنبا . قال : وأهل عمان يسمُّون العنب خمرا .
وقال عكرمة : رأيت{[15168]} فيما يرى النائم أني غرست حَبَلة من عنب ، فنبتت . فخرج فيه عناقيد ، فعصرتهن ثم سقيتهن الملك . قال{[15169]} تمكث في السجن ثلاثة أيام ، ثم تخرج فتسقيه خمرا .
وقال الآخر - وهو الخباز - : { إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }
والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه ، وأنهما رأيا مناما وطلبا تعبيره .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن إبراهيم ، عن عبد الله قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا ، إنما كانا تحالما ليجربا عليه .
وقوله تعالى : { ودخل معه السجن } الآية ، المعنى : فسجنوه فدخل معه السجن غلامان سجنا أيضاً ، وهذه «مع » تحتمل أن تكون باقتران وقت الدخول ، وأن لا تكون بل دخلوا أفذاذاً{[6680]} ، وروي أنهما كانا للملك الأعظم - الوليد بن الريان - أحدهما : خبازه ، والآخر : ساقيه .
و «الفتى » الشاب ، وقد تقع اللفظة على المملوك وعلى الخادم الحر ، ويحتمل أن يتصف هذان بجميع ذلك ، واللفظة من ذوات الياء ، وقولهم : الفتوة شاذ . وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ، ووافقه على ذلك الساقي ، فسجنهما ، قاله السدي ، فلما دخل يوسف السجن استمال الناس فيه بحسن حديثه وفضله ونبله ، وكان يسلي حزينهم ويعود مريضهم ويسأل لفقيرهم ويندبهم إلى الخير ، فأحبه الفتيان ولزماه ، وأحبه صاحب السجن والقيم عليه ، وقال له : كن في أي البيوت شئت فقال له يوسف : لا تحبني يرحمك الله ، فلقد أدخلت علي المحبة مضرات : أحبتني عمتي فامتحنت لمحبتها ، وأحبني أبي فامتحنت لمحبته لي ، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت لمحبتها بما ترى ، وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن : إني أعبر الرؤيا وأجيد ، فروي عن ابن مسعود أن الفتيين استعملا هاتين المنامتين ليجرباه ؛ وروى عم مجاهد أنهما رأيا ذلك حقيقة ، فأرادا سؤاله ، فقال أحدهما واسمه بنو ، فيما روي{[6681]} ، إني رأيت حبلة{[6682]} من كرم لها ثلاثة أغصان حسان ، فيها عناقيد عنب حسان ، فكنت أعصرها وأسقي الملك ؛ وقال الآخر ، واسمه مجلث ، كنت أرى أني أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز ، والطير تأكل من أعلاه .
وقوله { أعصر خمراً } قيل : إنه سمى العنب خمراً بالمآل ، وقيل : هي لغة أزد عمان ، يسمون العنب خمراً ، وقال الأصمعي : حدثني المعتمر ، قال : لقيت أعرابياً يحمل عنباً في وعاء فقلت : ما تحمل ؟ قال : خمراً ، أراد العنب .
وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود «إني أراني أعصر عنباً »{[6683]} .
قال القاضي أبو محمد : ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة ، إذ العصر لها ومن أجلها وقوله { خبزاً } يروى أنه رأى ثريداً فوق رأسه ، وفي مصحف ابن مسعود «فوق رأسي ثريداً تأكل الطير منه » .
وقوله { إنا نراك من المحسنين } قال الجمهور : يريدان في العلم ، وقال الضحاك وقتادة : المعنى : { من المحسنين } في جريه مع أهل السجن وإجماله معهم ، وقيل : إنه أراد إخباره أنهما يريان له إحساناً عليهما ويداً إذا تأول لهما ما رأياه ، ونحا إليه ابن إسحاق .
اتفق جميع القراء على كسر سين { السّجن } هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه ، لأنّ الدخول لا يناسب أن يتعلق إلا بالمكان لا بالمصدر .
وهذان الفتيان هما ساقي المَلك وخبّازُه غضب عليهما الملك فأمر بسجنهما . قيل : اتهما بتسميم الملك في الشراب والطعام .
وجملة { قال أحدهما } ابتداء محاورة ، كما دل عليه فعل القول . وكان تعبير الرؤيا من فنون علمائهم فلذلك أيّد الله به يوسف عليه السّلام بينهم .
وهذان الفتيان توسّما من يوسف عليه السّلام كمال العقل والفهم فظنّا أنه يحسن تعبير الرؤيا ولم يكونا علِما منه ذلك من قبل ، وقد صادفا الصواب ، ولذلك قالا : { إنا نراك من المحسنين } ، أي المحسنين التعبير ، أو المحسنين الفهم .
والإحسان : الإتقان ، يقال : هو لا يحسن القراءة ، أي لا يتقنها . ومن عادة المساجين حكاية المرائي التي يرونها ، لفقدانهم الأخبار التي هي وسائل المحادثة والمحاورة ، ولأنهم يتفاءلون بما عسى أن يبشرهم بالخلاص في المستقبل . وكان علم تعبير الرؤيا من العلوم التي يشتغل بها كهنة المصريين ، كما دل عليه قوله تعالى حكاية عن ملك مصر { أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون } [ سورة يوسف : 43 ] كما سيأتي .
والعصر : الضغط باليد أو بحَجر أو نحوه على شيء فيه رطوبة لإخراج ما فيه من المائع زيتتٍ أو ماءٍ . والعصير : ما يستخرج من المعصور سمي باسم محله ، أي معصور من كذا .
والخبز : اسم لقطعة من دقيق البر أو الشعير أو نحوهما يعجن بالماء ويوضع قرب النار حتى ينضج ليؤكل ، ويسمى رغيفاً أيضاً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ودخل مع يوسف السجن فتيان، فدلّ بذلك على متروك قد ترك من الكلام، وهو: {ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ}، فسجنوه، وأدخلوه السجن، ودخل معه فتيان، فاستغنى بدليل قوله: {وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيانِ}، على إدخالهم يوسف السجن من ذكره. وكان الفتيان فيما ذكر: غلامين من غلمان ملك مصر الأكبر: أحدهما: صاحب شرابه، والآخر: صاحب طعامه... وقوله: {قالَ أحَدُهُما إنّي أرَانِي أعْصِرُ خَمْرا}...
وعنى بقوله: {أعْصِرُ خَمْرا}، أي: إني أرى في نومي أني أعصر عنبا... وقوله: {وَقالَ الآخَرُ إني أرَانِي أحْمِلُ فَوْقَ رأسِي خُبْزا تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنا بتأْوِيلهِ}، يقول تعالى ذكره: وقال الآخر من الفتيين: إني أراني في منامي أحمل فوق رأسي خبزا، يقول: أحمل على رأسي، فوضعت «فوق» مكان «على»، {تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ}، يعني: من الخبز.
وقوله: {نَبّئْنا بتَأْوِيلِهِ}، يقول: أخبرنا بما يؤول إليه ما أخبرناك أنا رأيناه في منامنا ويرجع إليه...
وقوله: {إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ}، اختلف أهل التأويل في معنى الإحسان الذي وصف به الفتيان يوسف؛
فقال بعضهم: هو أنه كان يعود مريضهم، ويعزي حزينهم، وإذا احتاج منهم إنسان جمَع له... سأل رجل الضحاك عن قوله: {إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ}، ما كان إحسانه؟ قال: كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه، وإذا احتاج جمع له، وإذا ضاق عليه المكان أوسع له... عن قتادة، قوله: {إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ}، قال: بلغنا أن إحسانه أنه كان يداوي مريضهم، ويعزّي حزينهم، ويجتهد لربه...
وقال آخرون: معناه: {إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ} إذا نبأتنا بتأويل رؤيانا هذه... وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب القول الذي ذكرناه عن الضحاك وقتادة.
فإن قال قائل: وما وجه الكلام إن كان الأمر إذن كما قلت، وقد علمت أن مسألتهما يوسف أن ينبئهما بتأويل رؤياهما ليست من الخبر عن صفته بأنه يعود المريض ويقوم عليه ويحسن إلى من احتاج في شيء، وإنما يقال للرجل: نبئنا بتأويل هذا فإنك عالم، وهذا من المواضع التي تحسن بالوصف بالعلم لا بغيره؟
قيل: إن وجه ذلك أنهما قالا له: نبئنا بتأويل رؤيانا محسنا إلينا في إخبارك إيانا بذلك، كما نراك تحسن في سائر أفعالك، {إنا نراك من المحسنين}.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{إني أراني أعصر خمراً} أي عنباً. وفي تسميته خمراً وجهان:
أحدهما: لأن عصيره يصير خمراً فعبر عنه بما يؤول إليه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{إنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ}: الشهادة بالإحسان ذريعةٌ، بها يَتَوسُّلُ إلى استجلاب إحسانه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَّعَ} يدل على معنى الصحبة واستحداثها، تقول: خرجت مع الأمير، تريد مصاحباً له، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له {فَتَيَانَ} عبدان للملك: خبازه وشرابيه... أدخلا ساعة أدخل يوسف عليه السلام. {إِنّي أَرَانِي} يعني في المنام، وهي حكاية حال ماضية...
{مّنَ المحسنين} من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، أي: يجيدونها، رأياه يقصّ عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤوّلها له، فقالا له ذلك. أو من العلماء، لأنهما سمعاه يذكر للناس ما علما به أنه عالم. أو من المحسنين إلى أهل السجن. فأحسن إلينا بأن تفرّج عنا الغمة بتأويل ما رأينا إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
... يمكن أن يكون حبسهما مع حبس يوسف أو بعده أو قبله، غير أنهما دخلا معه البيت الذي كان فيه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر السجن، وكان سبباً ظاهراً في الإهانة، شرع سبحانه يقص من أمره فيه ما حاصله أنه جعله سبب الكرامة، كل ذلك بياناً للغلبة على الأمر والاتصاف بصفات القهر، مع ما في ذلك من بيان تحقق ما تقدم به الوعد الوفي ليوسف عليه الصلاة والسلام وغير ذلك من الحكم، فقال تعالى: {ودخل} أي فسجنوه كما بدا لهم ودخل {معه السجن فتيان}: خباز الملك وساقيه، ورفع إليه أن الخباز أراد أن يسمه، وظن أن الساقي مالأه على ذلك، و "مع "تدل على الصحبة واستحداثها، فهي تدل على دخول الثلاثة السجن في آن واحد -قاله أبو حيان، فلما دخلوا السجن كان يوسف عليه الصلاة والسلام يحسن إلى أهله فيسلي حزينهم، ويعود مريضهم، ويسأل لفقيرهم، ويهديهم إلى الخير، ويذكرهم بالله، فمالت إليه القلوب وكلفت به النفوس لحسن حديثه ولطيف تأتيه وما حباه الله به من الفضل والنبل وحسن الخَلق والخُلق... فكأنه قيل: أيّ شيء اتفق لهما بعد الدخول معه؟ فقيل: {قال أحدهمآ} ليوسف عليه الصلاة والسلام... {إني أراني} حكى الحال الماضية في المنام {أعصر} والعصر: الاعتماد على ما فيه مائية ليحتلب منه {خمراً} أي عنباً يؤول إلى الخمر {وقال الآخر} مؤكداً لمثل ما مضى {إني أراني أحمل} والحمل: رفع الشيء بعماد نقله {فوق رأسي خبزاً} أي طعاماً مهيأ للأكل بالخبز، وهو عمل الدقيق المعجون بالبسط واللزق في حامٍ بالنار حتى يصلح للأكل {تأكل الطير منه}... فكأنه قيل: فماذا تريدان من الإخبار بهذا؟ فقالا: {نبئنا} أي أخبرنا إخباراً عظيماً {بتأويله} أي ما يرجع أمره ويصير إليه، فكأنه قيل: وما يدريكما أني أعرف تأويله؟ فقالا: {إنا نراك} على حالٍ علمنا بها علماً هو كالرؤية أنك {من المحسنين} أي العريقين في وصف الإحسان لكل أمر تعانيه، فلذلك لاح لنا أنك تحسن التأويل قياساً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ودخل معه السجن فتيان} هذا عطف على مفهوم ما قبله أي فسجنوه ودخل معه السجن بتقدير الله الخفي الذي يعبر عنه جاهلوه بالمصادفة والاتفاق: فتيان مملوكان تبين فيما بعد أنهما من فتيان ملك مصر. روي عن ابن عباس أن أحدهما خازن طعامه والآخر ساقيه، فماذا كان من شأنه معهما؟ {قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا} أي رأيت في المنام رؤيا واضحة جلية كأني أراها في اليقظة الآن، وقراءة ابن مسعود وأبي في الشواذ "أعصر عنبا "تفسير لا قرآن، وما كل العنب يعصر لأجل التخمير فما نقل من أن عرب غسان وعمان يسمون العنب خمرا فمحمول على هذا النوع المخصوص منه لكثرة مائه وسرعة اختماره، دون ما يؤكل في الغالب تفكها لكثرة حجمه واكتناز شحمه وقلة مائه، ولكل منها أصناف.
{وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه} الطير جمع واحده طائر، وتأنيثه أكثر من تذكيره، وجمع الجمع طيور وأطيار.
{نبئنا بتأويله} أي قال له كل واحد منهما نبئني بتأويل ما رأيت، أي بتفسيره الذي يؤول إليه في الخارج إذا كان حقا لا من أضغاث الأحلام...
{إنا نراك من المحسنين} عللوا سؤالهم إياه عن أمر يهمهم ويعنيهم دونه، برؤيتهم إياه من المحسنين بمقتضى غريزتهم الذين يريدون الخير والنفع للناس وإن لم يكن لهم فيه منفعة خاصة ولا هوى، وقيل من المحسنين لتأويل الرؤى، وما قالا هذا القول إلا بعد أن رأيا من سعة علمه وحسن سيرته مع أهل السجن وما وجه إليه وجوههما، وعلق به أملهما. وهذا من إيجاز القرآن الخاص به.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ودخل معه السجن فتيان). سنعرف من بعد أنهما من خدم الملك الخواص.. ويختصر السياق ما كان من أمر يوسف في السجن، وما ظهر من صلاحه وإحسانه، فوجه إليه الأنظار، وجعله موضع ثقة المساجين، وفيهم الكثيرون ممن ساقهم سوء الطالع مثله للعمل في القصر أو الحاشية، فغضب عليهم في نزوة عارضة، فألقي بهم في السجن.. يختصر السياق هذا كله ليعرض مشهد يوسف في السجن وإلى جواره فتيان أنسا إليه، فهما يقصان عليه رؤيا رأياها. ويطلبان إليه تعبيرها، لما يتوسمانه فيه من الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوك...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
السجن ساحة للدعوة: ودخل يوسف السجن بروحيّة الإنسان المؤمن الذي لا يعتبر السجن مشكلةً ومأساةً، بل يرى فيه موقع الانتصار على النوازع الجسدية، وعلى الضغوط الخارجية التي تتحدى فيه إرادة الإيمان، وقوّة الالتزام. وفي هذا الجوّ كان يفكر بأنّ عليه إلاّ يتجمّد في مشاعر الوحشة والفراغ لينتهي إلى حالة كئيبة من الضياع الروحي، بل أن يستثمر فرص الحركة التي تتيحها الساحة له. وفكّر أنه ليس الوحيد الذي يدخل السجن، فهناك من دخلوا قبله، وهناك من سيدخلون بعده، وفيهم الكافرون والضالون، وحدّد دوره بأن يستفيد من الأجواء الهادئة التي يعيشها السجين، والمشاعر البائسة التي يخضع لها، والآمال الطيبة التي يرجوها في يقظته ونومه، والحالات النفسية الصعبة التي يحتاج فيها إلى من يساعده في مواجهتها مما يفسح المجال للهدوء في فكره، والحياد في موقفه، الأمر الذي يسهل على يوسف دخول قناعاته وتغييرها على أساس الحق والصواب، وذلك هو شأن المؤمن الداعية الذي يعيش همّ الدعوة إلى الله، وهداية الناس إلى طريق الحق، فلا يترك فرصةً إلا ويستفيد منها في حركته نحو الهدف الكبير، فهو في التفاتةٍ دائمةٍ لما حوله، ولمن حوله، وترقّب مستمر للأجواء الملائمة التي تفتح له قلوب الناس وعقولهم على الحق. {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ} فتعرّف إليهما، وتعرّفا إليه، ونشأت بين الثلاثة صحبةٌ وإلفةٌ، لما تفرضه طبيعة الوجود في السجن من حاجة إلى من يستريح إليه السجين ويرتاح للحديث معه، ليخفّف من وحشته، وهكذا بدأ الحديث في شؤونٍ كثيرةٍ متنوّعة، وكان هذان الشخصان قد شاهدا في منامهما، حلمين غريبين أثارا في نفسيهما القلق والحيرة، لأنهما لم يستطيعا فهم السرّ الذي يكمن خلفهما فأحبّا أن يحدّثا يوسف عنهما، فلعلهما يجدان لديه التفسير الواضح الذي يكشف لهما هذا الغموض، فقد لاحظا امتلاكه لفكرٍ هادئ، وعقلٍ متحركٍ، وشخصيةٍ حكيمةٍ، وهذا ما جعلهما يمنحانه الثقة الكبيرة. إحسانه جذبهما إليه {قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} ولم أستطع معرفة المضمون الواقعي لذلك في ما يحيط بحركة الحياة من حولي، {وَقَالَ الآخر إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} فما معنى الخبز؟ وما سرّ حمله على الرأس؟ وماذا يمثل أكل الطير منه من رمز؟ فهل هو رمز للنعمة أو للعطاء، أو هو رمزٌ للنقمة والفناء؟ {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} لأن للأحلام تأثيراً في الكشف عن حركة الإنسان في المستقبل، بما توحيه من تشاؤم أو تفاؤل يعرّف الإنسان كيف يحدد اتجاه موقفه، {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الذين يحبون أن يعطوا من مواقع ما يعرفون، فلا يبخلون بالمعرفة على من يحتاج إليها، لأن ذلك هو معنى الإحسان الذي ينطلق من حسّ الخير في الإنسان، تجاه من حوله. وقد جاء في بعض الكلمات التفسيرية عن الإمام جعفر الصادق في ما روي عنه في قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} قال: «كان يقوم على المريض، ويلتمس المحتاج، ويوسّع على المحبوس». وربما كانت هذه الأمور وما يدخل في جوّها الأخلاقي، هي التي جعلتهما ينجذبان إليه، وينفتحان عليه هذا الانفتاح الروحي الذي يعيش فيه الإنسان جوع المعرفة إلى فكر العارفين. توسل التأويل لهداية الفَتَيان ولم يكن ليوسف شأنٌ بالجانب الذاتي لما سألاه عنه، ولم يكن في صدد الإيحاء بإمكاناته العلمية في تأويل الأحلام، أو في غيره من الأمور، بل كان يتوسّل هدايتهما إلى الصراط المستقيم من خلال ذلك ككل داعيةٍ إلى الله، يتحسس ضرورة استخدام كل طاقاته في سبيل الدعوة والهداية، وتحريك علاقاته بالناس، في هذا الاتجاه. وهذا ما أراد يوسف أن يثيره أمامهما عما وهبه الله من إمكانات علميّة، تمكنه من استيحاء الأحلام ومعرفة ما تحمله من أسرار المستقبل وخفاياه، أو في استلهام الإشراق الروحي الذي أودعه الله في قلبه، واستكشاف آفاق المستقبل في حياة الناس...