قوله عز وجل :{ قل من يرزقكم من السموات والأرض } فالرزق من السموات : المطر ، ومن الأرض : النبات ، { قل الله } أي : إن لم يقولوا رازقنا الله فقل أنت إن رازقكم هو الله ، { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } ليس هذا على طريق الشك ولكن على جهة الإنصاف في الحاج ، كما يقول القائل للآخر : أحدنا كاذب ، وهو يعلم أنه صادق وصاحبه كاذب . والمعنى : ما نحن وأنتم على أمر واحد بل أحد الفريقين مهتد والآخر ضال ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه على الهدى ، ومن خالفه في ضلال ، فكذبهم من غير أن يصرح بالتكذيب . وقال بعضهم : أو بمعنى الواو ، والألف فيه صلة ، كأنه قال : وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ، يعني : نحن على هدى وأنتم في الضلال . { قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون* }
24 - 27 } { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يأمر تعالى ، نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، أن يقول لمن أشرك باللّه ويسأله عن حجة شركه : { مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فإنهم لا بد أن يقروا أنه اللّه ، ولئن لم يقروا ف { قُلِ اللَّهُ } فإنك لا تجد من يدفع هذا القول ، فإذا تبين أن اللّه وحده الذي يرزقكم من السماوات والأرض ، وينزل [ لكم ] المطر ، وينبت لكم النبات ، ويفجر لكم الأنهار ، ويطلع لكم من ثمار الأشجار ، وجعل لكم الحيوانات جميعها ، لنفعكم ورزقكم ، فلم تعبدون معه من لا يرزقكم شيئا ، ولا يفيدكم نفعا ؟ .
وقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي : إحدى الطائفتين منا ومنكم ، على الهدى ، مستعلية عليه ، أو في ضلال مبين ، منغمرة فيه ، وهذا الكلام يقوله من تبين له الحق ، واتضح له الصواب ، وجزم بالحق الذي هو عليه ، وبطلان ما عليه خصمه .
أي : قد شرحنا من الأدلة الواضحة عندنا وعندكم ، ما به يعلم علما يقينا لا شك فيه ، من المحق منا ، ومن المبطل ، ومن المهتدي ومن الضال ؟ حتى إنه يصير التعيين بعد ذلك ، لا فائدة فيه ، فإنك{[736]} إذا وازنت بين من يدعو إلى عبادة الخالق ، لسائر المخلوقات المتصرف فيها ، بجميع أنواع التصرفات ، المسدي جميع النعم ، الذي رزقهم وأوصل إليهم كل نعمة ، ودفع عنهم كل نقمة ، الذي له الحمد كله ، والملك كله ، وكل أحد من الملائكة فما دونهم ، خاضعون لهيبته ، متذللون لعظمته ، وكل الشفعاء تخافه ، لا يشفع أحد منهم عنده إلا بإذنه العلي الكبير ، في ذاته ، وأوصافه ، وأفعاله ، الذي له كل كمال ، وكل جلال ، وكل جمال ، وكل حمد وثناء ومجد ، يدعو إلى التقرب لمن هذا شأنه ، وإخلاص العمل له ، وينهى عن عبادة من سواه ، وبين من يتقرب إلى أوثان ، وأصنام ، وقبور ، لا تخلق ، ولا ترزق ، ولا تملك لأنفسها ، ولا لمن عبدها ، نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا ، بل هي جمادات ، لا تعقل ، ولا تسمع دعاء عابديها ، ولو سمعته ما استجابت لهم ، ويوم القيامة يكفرون بشركهم ، ويتبرأون منهم ، ويتلاعنون بينهم ، ليس لهم قسط من الملك ، ولا شركة فيه ، ولا إعانة فيه ، ولا لهم شفاعة يستقلون بها دون اللّه ، فهو يدعو مَنْ هذا وصفه ، ويتقرب إليه مهما أمكنه ، ويعادي من أخلص الدين للّه ، ويحاربه ، ويكذب رسل اللّه ، الذين جاءوا بالإخلاص للّه وحده ، تبين{[737]} لك أي الفريقين ، المهتدي من الضال ، والشقي من السعيد ؟ ولم يحتج إلى أن يعين لك ذلك ، لأن وصف الحال ، أوضح من لسان المقال .
ذلك هو الإيقاع الأول ، في ذلك المشهد الخاشع الواجف المرهوب العسير . . ويليه الإيقاع الثاني عن الرزق الذي يستمتعون به ، ويغفلون عن مصدره ، الدال على وحدة الخالق الرازق . الباسط القابض ، الذي ليس له شريك :
( قل من يرزقكم من السماوات والأرض . . قل الله . وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) . .
والرزق مسألة واقعة في حياتهم . رزق السماء من مطر وحرارة وضوء ونور . . ذلك فيما كان يعرفه المخاطبون ووراءه كثير من الأصناف والألوان تتكشف آناً بعد آن . . ورزق الأرض من نبات وحيوان وعيون ماء وزيوت ومعادن وكنوز . . وغيرها مما يعرفه القدامى ويتكشف غيره على مدار الزمان . .
( قل : من يرزقكم من السماوات والأرض ? ) . .
فما يملكون أن يماروا في هذا ولا أن يدعوا سواه .
قل : الله . ثم كل أمرهم وأمرك إلى الله . فأحدكما لا بد مهتد وأحدكما لا بد ضال . ولا يمكن أن تكون أنت وهم على طريق واحد من هدى أو من ضلال :
( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) . .
وهذه غاية النصفة والاعتدال والأدب في الجدال . أن يقول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] للمشركين : إن أحدنا لا بد أن يكون على هدى ، والآخر لا بد أن يكون على ضلال . ثم يدع تحديد المهتدي منهما والضال . ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم ، والرغبة في الجدال والمحال ! فإنما هو هاد ومعلم ، يبتغي هداهم وإرشادهم لا إذلالهم وإفحامهم ، لمجرد الإذلال والإفحام !
الجدل على هذا النحو المهذب الموحي أقرب إلى لمس قلوب المستكبرين المعاندين المتطاولين بالجاه والمقام ، المستكبرين على الإذعان والاستسلام ، وأجدر بأن يثير التدبر الهادىء والاقتناع العميق . وهو نموذج من أدب الجدل ينبغي تدبره من الدعاة . .
يقول تعالى مقررًا تفرُّدَه بالخلق والرزق{[24335]} ، وانفراده بالإلهية أيضا ، فكما كانوا يعترفون بأنه لا يرزقهم من السماء{[24336]} والأرض - أي : بما ينزل من المطر وينبت من الزرع - إلا الله ، فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره .
وقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } : هذا من باب اللف والنشر ، أي : واحد من الفريقين مبطل ، والآخر محق ، لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال ، بل واحد منا مصيب ، ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد ، فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله ؛ ولهذا قال : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } .
قال قتادة : قد قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين : والله ما نحن وإياكم على أمر واحد ، إن أحد الفريقين لمهتد .
وقال عِكْرِمة وزياد بن أبي مريم : معناه : إنا نحن لعلى هدى ، وإنكم لفي ضلال مبين .
{ قل من يرزقكم من السماوات والأرض } يريد به تقرير قوله { لا يملكون } . { قل الله } إذ لا جواب سواه ، وفي إشعار بأنهم سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإلزام فهم مقرون به بقلوبهم . { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } أي وإن أحد الفريقين من الموحدين المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية بالعبادة ، والمشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبينين ، وهو بعد ما تقدم من التقرير البليغ الدال على من هو على الهدى ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح لأنه في صورة الانصاف المسكت للخصم المشاغب ، ونظيره قول حسان :
أتهجوه ولست له بكفء *** فشركما لخيركما الفداء
وقيل إنه على اللف والنشر وفيه نظر ، واختلاف الحرفين لان الهادي كمن صعد منارا ينظر الأشياء ويتطلع عليها أو ركب جوادا يركضه حيث يشاء ، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك لا يرى شيئا أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصى منها .
انتقال من دَمْغ المشركين بضعف آلهتهم وانتفاء جدواها عليهم في الدنيا والآخرة إلى إلزامهم بطلان عبادتها بأنها لا تستحق العبادة لأن مستحق العبادة هو الذي يرزق عباده فإن العبادة شكر ولا يستحق الشكر إلا المنعم ، وهذا احتجاج بالدليل النظري لأن الاعتراف بأن الله هو الرزاق يستلزم انفراده بإلهيته إذ لا يجوز أن ينفرد ببعض صفات الإلهية ويشارك في بعض آخر فإن الإِلهية حقيقة لا تقبل التجزئة والتبعيض .
وأعيد الأمر بالقول لزيادة الاهتمام بالمقول فإن أصل الأمر بالقول في مقام التصدّي للتبليغ دال على الاهتمام ، وإعادة ذلك الأمر زيادة في الاهتمام .
و { مَن } استفهام للتنبيه على الخطأ ولذلك أعقب بالجواب من طرف السائل بقوله : { قل الله } لتحقق أنهم لا ينكرون ذلك الجواب كما في قوله تعالى : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار } إلى قوله : { فسيقولون اللَّه } في سورة يونس ( 31 ) . وتقدم نظير صدر هذه الآية في سورة الرعد .
وعطف على الاستفهام إبراز المقصد بطريقة خفية تُوقع الخصم في شرك المغلوبية وذلك بترديد حالتي الفريقين بين حالة هدى وحالة ضلال لأن حالة كل فريق لما كانت على الضد من حال الفريق الآخر بَيْن موافقة الحق وعدمها ، تعين أن أمر الضلال والهدى دائر بين الحالتين لا يعدوانهما . ولذلك جيء بحرف { أو } المفيد للترديد المنتزع من الشك .
وهذا اللون من الكلام يسمى الكلام المنصِف وهو أن لا يترك المُجادل لخصمه موجب تغيظ واحتداد في الجدال ، ويسمى في علم المناظرة إرخاءَ العنان للمناظِر ، ومع ذلك فقرينة إلزامهم الحجة قرينة واضحة .
ومن لطائفه هنا أن اشتمل على إيماء إلى ترجيح أحد الجانبين في أحد الاحتمالين بطريق مقابلة الجانبين في ترتيب الحالتين باللف والنشر المرتّب وهو أصل اللفّ . فإنه ذكر ضمير جانب المتكلم وجماعته وجانب المخاطبين ، ثم ذكر حال الهدى وحال الضلال على ترتيب ذكر الجانبين ، فأومأ إلى أن الأولِين موجَّهون إلى الهدى والآخِرين موجهُون إلى الضلال المبين ، لا سيما بعد قرينة الاستفهام ، وهذا أيضاً من التعريض وهو أوقع من التصريح لا سيما في استنزال طائر الخصم .
وفيه أيضاً تجاهل العارف فقد التأمَ في هذه الجملة ثلاثة محسنات من البديع ونكتة من البيان فاشتملت على أربع خصوصيات .
وجيء في جانب أصحاب الهدى بحرف الاستعلاء المستعار للتمكن تمثيلاً لحال المهتدي بحال متصرّف في فرسه يركضه حيث شاء فهو متمكّن من شيء يبلغ به مقصده . وهي حالة مُماثلة لحال المهتدي على بصيرة فهو يسترجع مناهج الحق في كل صوب ، متَسعَ النظر ، منشرحَ الصدر : ففيه تمثيلية مكنية وتبعية .
وجيء في جانب الضالّين بحرف الظرفية المستعار لشدة التلبس بالوصف تمثيلاً لحالهم في إحاطة الضلال بهم بحال الشيء في ظرف محيط به لا يتركه يُفارقه ولا يتطلع منه على خلاف ما هو فيه من ضيق يلازمه .
وفيه أيضاً تمثيلية تبعية ، وهذا ينظر إلى قوله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً } [ الأنعام : 125 ] .
فحصل في الآية أربع استعارات وثلاثة محسنات من البديع وأسلوب بياني ، وحجة قائمة ، وهذا إعجاز بديع .
ووُصف الضلال بالمبين دون وصف الهدى بالمبين لأن حقيقة الهدى مقول عليها بالتواطؤ وهو معنى قول أصحابنا الأشاعرة : الإِيمان لا يزيد ولا ينقص في ذاته وإنما زيادته بكثرة الطاعات ، وأما الكفر فيكون بإنكار بعض المعتقدات وبإنكار جميعها وكل ذلك يصدق عليه الكفر . ولذلك قيل كفرٌ دون كفر ، فوصف كفرهم بأنه أشدّ الكفر ، فإن المبين هو الواضح في جنسه البالغ غاية حده .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم الأوثان والأصنام: من يرزقكم من السموات والأرض بإنزاله الغيث عليكم منها حياة لحروثكم، وصلاحا لمعايشكم، وتسخيره الشمس والقمر والنجوم لمنافعكم ومنافع أقواتكم، والأرض بإخراجه منها أقواتكم وأقوات أنعامكم؟ وترك الخبر عن جواب القوم استغناء بدلالة الكلام عليه، ثم ذكره، وهو: فإن قالوا: لا ندري، فقل: الذي يرزقكم ذلك الله.
"وإنا أو إياكم" أيها القوم "لعلى هُدًى أو في ضلال مبين"، قل لهم: إنا لعلى هدى أو في ضلال، أو إنكم على ضلال أو هُدًى، واختلف أهل العربية في وجه دخول «أو» في هذا الموضع، والصواب من القول في ذلك عندي أن ذلك أمر من الله لنبيه بتكذيب من أمره بخطابه بهذا القول بأجمل التكذيب، كما يقول الرجل لصاحب له يخاطبه، وهو يريد تكذيبه في خبر له: أحدنا كاذب، وقائل ذلك يعني صاحبه، لا نفسه، فلهذا المعنى صير الكلام بأو.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قل من يرزقكم من السماوات والأرض} هذا في الظاهر، وإن كان استفهاما فهو على التقرير والإيجاب، لأنا قد ذكرنا أن كل استفهام كان من الله فهو على التقرير والإيجاب... فيقول لهم: فإذا علمتم أن الله هو رازقكم فكيف صرفتم عبادتكم عنه إلى من تعلمونه أنه لا يملك شيئا من رزقكم؟ كقوله: {إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق} [العنكبوت: 17] ذُكر في حرف ابن مسعود وحفصة: {قل من يرزقكم من السماوات والأرض} قالوا الله، قال:
{وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}...
وجائز أن يكون هذا على تعريض الشتم لهم بالضلال والكناية لذلك.
قال قتادة: هذا قول محمد وأصحابه لأهل الشرك، والله أعلم: [ما] نحن وأنتم على أمر واحد، والله إن أحد الفريقين لمهتد، والفريق الآخر في ضلال مبين، فأنتم تعلمون أنا على هدى لما أقمنا من الدلائل والحُجج والبراهين على ذاك، وأنتم لا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم يَقُلْ أحدٌ -مع شِرْكِه- إنه يُحِيلُ في الرزق على أحدٍ غيره، فكما لا شريكَ له في الرزق، ولا شريكَ له في الخَلْق، فلا شريكَ له في استحقاق العبادة والتعظيم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ}... فإن قلت: كيف خولف بين حرفيّ الجرّ الداخلين على الحق والضلال؟ قلت: لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أن يتوجه...
{قل من يرزقكم من السماوات والأرض} إشارة إلى أن جر النفع ليس إلا به ومنه، فإذا إن كنتم من الخواص فاعبدوه لعلوه وكبريائه سواء دفع عنكم ضرا أو لم يدفع، وسواء نفعكم بخير أو لم ينفع، فإن لم تكونوا كذلك فاعبدوه لدفع الضر وجر النفع.
وههنا لطيفة: وهي أن الله تعالى عند الضر ذكر أنهم يقولون الله ويعترفون بالحق حيث قال: {قالوا الحق} وعند النفع لم يقل إنهم يقولون ذلك؛ وذلك لأن لهم حالة يعترفون بأن كاشف الضر هو الله، حيث يقعون في الضر كما قال تعالى: {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه} وأما عند الراحة فلا تنبه لهم لذلك، فلذلك قال: {قل الله} أي هم في حالة الراحة غافلون عن الله...
{وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} وفيه مسائل:
المسألة الثالثة: وصف الضلال بالمبين ولم يصف الهدى لأن الهدى هو الصراط المستقيم الموصل إلى الحق، والضلال خلافه؛ لكن المستقيم واحد وما هو غيره كله ضلال وبعضه بين من بعض، فميز البعض عن البعض بالوصف.
المسألة الرابعة: قدم الهدى على الضلال لأنه كان وصف المؤمنين المذكورين بقوله: {إنآ} وهو مقدم في الذكر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين).. وهذه غاية النصفة والاعتدال والأدب في الجدال. أن يقول رسول الله [صلى الله عليه وسلم] للمشركين: إن أحدنا لا بد أن يكون على هدى، والآخر لا بد أن يكون على ضلال. ثم يدع تحديد المهتدي منهما والضال. ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم، والرغبة في الجدال والمحال! فإنما هو هاد ومعلم، يبتغي هداهم وإرشادهم لا إذلالهم وإفحامهم، لمجرد الإذلال والإفحام! الجدل على هذا النحو المهذب الموحي أقرب إلى لمس قلوب المستكبرين المعاندين المتطاولين بالجاه والمقام، المستكبرين على الإذعان والاستسلام، وأجدر بأن يثير التدبر الهادئ والاقتناع العميق. وهو نموذج من أدب الجدل ينبغي تدبره من الدعاة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من دَمْغ المشركين بضعف آلهتهم وانتفاء جدواها عليهم في الدنيا والآخرة إلى إلزامهم بطلان عبادتها بأنها لا تستحق العبادة لأن مستحق العبادة هو الذي يرزق عباده فإن العبادة شكر ولا يستحق الشكر إلا المنعم، وهذا احتجاج بالدليل النظري لأن الاعتراف بأن الله هو الرزاق يستلزم انفراده بإلهيته إذ لا يجوز أن ينفرد ببعض صفات الإلهية ويشارك في بعض آخر فإن الإِلهية حقيقة لا تقبل التجزئة والتبعيض.
وأعيد الأمر بالقول لزيادة الاهتمام بالمقول؛ فإن أصل الأمر بالقول في مقام التصدّي للتبليغ دال على الاهتمام، وإعادة ذلك الأمر زيادة في الاهتمام.
{مَن} استفهام للتنبيه على الخطأ ولذلك أعقب بالجواب من طرف السائل بقوله: {قل الله} لتحقق أنهم لا ينكرون ذلك الجواب.
أي: قُلْ لهم يا محمد: من يرزقكم من السماوات والأرض؟ لكن إذا كان محمد هو المستفهم منهم، فمَنْ يجيب؟ بالطبع هم لن يجيبوا؛ لذلك أجاب الله (قل الله) فهذه حقيقة لا يستطيعون مجابهتها، ولو اعترفوا بها لقُلْنا لهم إذن: لماذا لم تؤمنوا بالله وهو رازقكم؟
أيليق بكم أنْ تكفروا به وهو الرازق، وتؤمنوا بآلهة أخرى لا تنفعكم ولا تضركم؟ فاعترافهم بهذه الحقيقة يلزمهم الحجة، ويقيم عليهم الدليل على سَفَه تفكيرهم، وكأن الحق سبحانه أراد أنْ يُعفيهم من هذا الحرج، فأجاب بدلاً منهم.
والحق سبحانه يسألهم هذا السؤال؛ لأن الإجابة لن تكون إلا على وَفْق مراده سبحانه وتعالى...
وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.
الهدى: هو الدلالة على الخير والطريق إليه، والضلال: أن تضلَّ عن الخير والدلالة إليه، ومنه قوله تعالى:
{وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ} [الضحى: 7].
والهدى والضلال من المتناقضات في الدين، والمتناقضان لا يجتمعان أبداً، فلا بُدَّ أنْ يكون واحد على هدى والآخر على ضلال. كثيرون لا يفهمون الفرق بين الضد والنقيض، الضد شيء يضادّ شيئاً، لكن لا ينفيه، كما تقول مثلاً: الشيء الفلاني أحمر أم أخضر؟ فيقول لك: لا أحمر ولا أخضر إنما أبيض، إذن: الضِّدان لا يجتمعان وقد يرتفعان معاً، لا هذا ولا هذا، بل شيء آخر. أما النقيضان فإنِ ارتفع واحد ثبتَ الآخر، كما هنا في الهدى والضلال.
فمعنى {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} إنْ كان أحدنا على الهدى فلا بُدَّ أنْ يكون الآخر في الضلال، ولا ثالث لهما، والحديث هنا عن منهج خير في جانب الإيمان، ومنهج شرٍّ في جانب الكفر، فرسول الله يقول لهم: نحن وأنتم على طرفي نقيض، نحن نقول لا إله إلا الله وندعو إلى الخير، وأنتم تكفرون بالله وتدعون إلى الشر، ومع ذلك لا أحكم لي بالهدى، ولا عليكم بالضلال، بل أقول: أنا وأنتم على النقيض، إنْ كان أحدنا على الهدى فالآخر في الضلال.
بالله عليكم، هل رأيتم حِجَاجاً أرقّ من هذا الحِجَاج؟ فرسول الله لم يحكم لنفسه وللمؤمنين معه بالهدى رغم وضوحه في جانبهم، ولم يحكم على الكفار بالضلال رغم وضوحه في جانبهم، ومثال ذلك، لو حلف رجلان على شيء واحد أمام رجل أعمى أيقول لواحد: أنت صادق، وللآخر أنت كاذب؟ لا، بل يقول: واحد منكما صادق، والآخر كاذب، فهذا حكم أوَّلي لا يُلزم أحداً.
لكن، حين تبحث القضية يتضح لك مَنْ على هدى ومَنْ في ضلال {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} كلمة {لَعَلَىٰ هُدًى} على تفيد الاستعلاء، كأن الهدى لا يستعلي عليك، وإنما تستعلي أنت على الهدى وتكون فوقه، كأنه مطية توصِّلك للخير المطلوب وللطريق المستقيم، فساعةَ تقرأ (عَلَى) فاعلم أن هناك مكاناً عالياً، وهناك ما هو دون هذا...
إذن: نقول {لَعَلَىٰ هُدًى..} أى: أن الهدى سيكون مطيتك التي توصلك إلى الجنة وإلى النعيم، أما الضلال فقال {فِي ضَلاَلٍ..} وكأنها ظلمة تحيط بالضالِّ وهو يتخبط فيها، لا يدري أين يذهب، ومعنى {مُّبِينٍ} واضح بيِّن.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«المبين»... يحتمل أيضاً أن يكون هذا الوصف للهدى والضلال على حدّ سواء، لأنّ «الصفة» في مثل هذه الموارد لا تتكرّر لتكون أكثر بلاغة، وعليه فيكون (الهدى) مبيناً و (الضلال) مبيناً.