البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (24)

ثم رجع إلى خطاب الكفار فسألهم عمن يرزقهم ، محتجاً عليهم بأن رازقهم هو الله ، إذ لا يمكن أن يقولوا إن آلهتهم ترزقهم وتسألهم أنهم { لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } ، وأمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله : { قل الله } ، لأنهم قد لا يجيبون حباً في العناد وإيثاراً للشرك .

ومعلوم أنه لا جواب لهم ولا لأحد إلا بأن يقول هو الله .

{ وإنا } : أي الموحدين الرازق العابدين ، { أو إياكم } : المشركين العابدين الأصنام والجمادات .

{ لعلى هدى } : أي طريقة مستقيمة ، أو في حيرة واضحة بينة .

والمعنى : أن أحد الفريقين منا ومنكم لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال ، أخرج الكلام مخرج الشك والاحتمال .

ومعلوم أن من عبد الله ووحده هو على الهدى ، وأن من عبد غيره من جماد أو غيره في ضلال .

وهذه الجملة تضمنت الإنصاف واللطف في الدعوى إلى الله ، وقد علم من سمعها أنه جملة اتصاف ، والرد بالتورية والتعريض أبلغ من الرد بالتصريح ، ونحوه قول العرب : أخزى الله الكاذب مني ومنك ، يقول ذاك من يتيقن أن صاحبه هو الكاذب ، ونظيره قوله الشاعر :

فأني ماوأيك كان شراً *** فسيق إلى المقادة في هوان

وقال حسان :

أتهجوه ولست له بكفؤ *** فشركما لخيركما الفداء

وهذا النوع يسمى في علم البيان : استدراج المخاطب .

يذكر له أمراً يسلمه ، وإن كان بخلاف ما ذكر حتى يصغي إليه إلى ما يلقيه إليه ، إذ لو بدأ به بما يكره لم يصغ ، ولا يزال ينقله من حال إلى حال حتى يتبين له الحق ويقبله .

وهنا لما سمعوا الترداد بينه وبينهم ، ظهر لهم أنه غير جازم أن الحق معه ، فقال لهم بطريق الاستدلال : إن آلهتكم لا تملك مثقال ذرة ، ولا تنفع ولا تضر ، لأنها جماد ، وهم يعلمون ذلك ، فتحقق أن الرازق لهم والنافع والضار هو الله سبحانه .

وقيل : معنى الجملة استنقاص المشركين والاستهزاء بهم ، وقد بينوا أن آلهتهم لا ترزقهم شيئاً ولا تنفع ولا تضر ، فأراد الله من نبيه ، وأمره أن يوبخهم ويستنقصهم ويكذبهم بقول غير مكشوف ، إن كان ذلك أبلغ في استنقاصهم ، كقولك : إن أحدنا لكاذب ، وقد علمت أن من خاطبته هو الكاذب ، ولكنك وبخته بلفظ غير مكشوف .

وأوهنا على موضوعها لكونها لأحد الشيئين ، أو الأشياء .

وخبر { إنا أو إياكم } هو { لعلى هدى أو في ضلال مبين } ، ولا يحتاج إلى تقدير حذف ، إذ المعنى : أن أحدنا لفي أحد هذين ، كقولك : زيد أو عمرو في القصر ، أو في المسجد ، لا يحتاج هذا إلى تقدير حذف ، إذ معناه : أحد هذين في أحد هذين .

وقيل : الخبر محذوف ، فقيل : خبر لا وله ، والتقدير : وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين ، فحذف لدلالة خبر ما بعده عليه ، فلعلى هدى أو في ضلال مبين المثبت خبر عنه ، أو إياكم ، إذ هو على تقدير إنا ، ولكنها لما حذفت اتصل الضمير ، وقيل : خبر الثاني ، والتقدير : أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وحذف لدلالة خبر الأول عليه ، وهو هذا المثبت { لعلى هدى أو في ضلال مبين } ، ولا حاجة لهذا التقدير من الحذف لو كان ما بعد أو غير معطوف بها ، نحو : زيد أو عمرو قائم ، كان يحتاج إلى هذا التقدير ، وإن مع ما يصلح أن يكون خبراً لأن اسمها عطف عليه بأو ، والخبر معطوف بأو ، فلا يحتاج إليه .

وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو ، فيكون من باب اللف والنشر ، والتقدير : وإنا لعلى هدى ، وإياكم في ضلال مبين ، فأخبر عن كل بما ناسبه ، ولا حاجة إلى إخراج أو عن موضوعها .

وجاء في الهدى بعلى ، لأن صاحبه ذو استعلاء ، وتمكن مما هو عليه ، يتصرف حيث شاء .

وجاء في الضلال بعن لأنه منغمس في حيرة مرتبك فيها لا يدري أين يتوجه .