في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{۞قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (24)

22

ذلك هو الإيقاع الأول ، في ذلك المشهد الخاشع الواجف المرهوب العسير . . ويليه الإيقاع الثاني عن الرزق الذي يستمتعون به ، ويغفلون عن مصدره ، الدال على وحدة الخالق الرازق . الباسط القابض ، الذي ليس له شريك :

( قل من يرزقكم من السماوات والأرض . . قل الله . وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) . .

والرزق مسألة واقعة في حياتهم . رزق السماء من مطر وحرارة وضوء ونور . . ذلك فيما كان يعرفه المخاطبون ووراءه كثير من الأصناف والألوان تتكشف آناً بعد آن . . ورزق الأرض من نبات وحيوان وعيون ماء وزيوت ومعادن وكنوز . . وغيرها مما يعرفه القدامى ويتكشف غيره على مدار الزمان . .

( قل : من يرزقكم من السماوات والأرض ? ) . .

قل : الله . .

فما يملكون أن يماروا في هذا ولا أن يدعوا سواه .

قل : الله . ثم كل أمرهم وأمرك إلى الله . فأحدكما لا بد مهتد وأحدكما لا بد ضال . ولا يمكن أن تكون أنت وهم على طريق واحد من هدى أو من ضلال :

( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) . .

وهذه غاية النصفة والاعتدال والأدب في الجدال . أن يقول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] للمشركين : إن أحدنا لا بد أن يكون على هدى ، والآخر لا بد أن يكون على ضلال . ثم يدع تحديد المهتدي منهما والضال . ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم ، والرغبة في الجدال والمحال ! فإنما هو هاد ومعلم ، يبتغي هداهم وإرشادهم لا إذلالهم وإفحامهم ، لمجرد الإذلال والإفحام !

الجدل على هذا النحو المهذب الموحي أقرب إلى لمس قلوب المستكبرين المعاندين المتطاولين بالجاه والمقام ، المستكبرين على الإذعان والاستسلام ، وأجدر بأن يثير التدبر الهادىء والاقتناع العميق . وهو نموذج من أدب الجدل ينبغي تدبره من الدعاة . .