اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (24)

قوله ( تعالى ){[44588]} : { مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات } المطر «و » من «الأَرْضِ » النبات «قُل اللَّهُ » يعني إن لم يقولوا رازقنا الله فقل أنت رازقكم الله .

قوله : { أو إيّاكُمْ } عطف على اسم «إن » وفي الخبر أوجه :

أحدها : أن الملفوظ به الأول{[44589]} . وحذف خبر الثاني للدلالة عليه أي وإنَّا لعَلَى هُدًى أو في ضلال أو إنكم لَعَلى هدى أو في ضلال .

والثاني : العكس أي حذف الأول والملفوظ به خبر الثاني{[44590]} . وهو خلاف مشهور وتقدم تحقيقه عند قوله : { فالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }{[44591]} [ التوبة : 62 ] . وهذان الوجهان لا ينبغي أي يحملا على ظاهرهما قطعاً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشكّ أنه على هدى ويقين وأن الكفار على ضلال وإنما هذا الكلام جارٍ على ما تتخاطب به العرب من استعمال الإنصاف في محاوراتهم على سبيل الفرض والتقدير{[44592]} ويسميه أهل البيان الاسْتِدْرَاجَ وهو أن يذكر المخاطب أمراً يسلمه وإن كان بخلاف ما يذكر حتى يُصْغِي إلى ما يلقيه إليه إذ لو بدأه بما يكره لم يَصْغَ ، ونظيره قولهم : أخْزَى اللَّهُ الكَاذِبَ مِنِّي ومِنْكَ{[44593]} ومثله قول الآخر :

4131- فَأيِّي مَا وأيُّكَ كَانَ شَرًّا . . . فَقِيدَ إلَى المُقَامَةِ لا يَرَاهَا{[44594]}

وقول حسان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- :

4132- أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ . . . فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ{[44595]}

مع العلم لكل أحد أنه - صلى الله عليه وسلم - خير خلق الله كلهم .

الثالث : أنه من باب اللف والنشر والتقدير : وَإنَّا لَعَلَى هُدًى وإنَّكُمْ لَفِي ضَلاَلٍ مُبين ولكن لفَّ الكَلاَمَيْنِ وأخرجهما كذلك لعدم اللبس{[44596]} ، وهذا لا يتأتي إلا أن تكون «أو » بمعنى الواو . وهي مسألة خلاف{[44597]} ومن مجيء «أو » بمعنى الواو قوله :

4133- قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَيْتَهُمْ . . . مَا بَيْنَ مُلْجِم مُهْرِهِ أَوْ سَافِع{[44598]}

وتقدم تقرير هذا{[44599]} ، وهذا الذي ذكرناه منقول عن أبي عبيدة{[44600]} .

الرابع : قال أبو حيان : و «أو » هنا على موضوعها لكونها لأحد الشيئين وخبر «إنَّا أَوْ إيَّاكُمْ » هو «لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ » ولا يحتاج إلى تقدير حذف إذ المعنى إن أحدنا لفي أحد هذين لقولك : «زَيْدٌ أو عمرو في القصر أو في المسجد » لا يحتاج إلى تقدير حذف إذ معناه أحد هذين في أحد هذين{[44601]} .

وقيل : الخبر محذوف ثم ذكر ما تقدم إلى آخره{[44602]} ، وهذا الذي ذكره تفسير معنى لا تفسير إعراب . ( والناس ){[44603]} نظروا إلى تفسير الإعراب فاحتاجوا إلى ما ذكرناه{[44604]} .

وذكروا في الهدى كلمة «على » وفي الضلال كلمة «في » لأن المهتدي كأنه مرتَفع مطَّلع فذكره بكلمة «التعالي » والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فذكره بكلمة «في »{[44605]} .


[44588]:سقط من "أ".
[44589]:أي خبر الأول وقد نقله أبو البقاء في التبيان 1068 وابن الأنباري في البيان 2/280 ومكي في المشكل 2/209 وقال النحاس: "يكون "لعلى هدى" للأول لا غير لو قلت: أو أنتم فإذا قلت: أو إياكم كان الثاني أولى وحذفت من الأول ويجوز أن يكون للأول وهو اختيار أبي العباس".
[44590]:المراجع السابقة.
[44591]:من الآية 62 من التوبة وذكر هناك أقوالا منها حذف الخبر من الأول لدلالة الثاني عليه أي خبر الثاني وهذا قول سيبويه والعكس وهو قول المبرد وذكر تقديما وتأخيرا والتقدير "والله أحق أن يرضوه ورسوله". ونحن نرجح رأي أبي البقاء ومكي وأبي جعفر النحاس من اختيار الخبر الثاني.
[44592]:هذا كلام السمين في الدر 4/437.
[44593]:أي أخزى الله الكاذب منا ومنك وكقولهم: "هو بيني وبينك" أي هو بيننا. ذكره سيبويه في الكتاب 2/402.
[44594]:البيت من الوافر وهو للعباس بن مرداس، والمقامة: من غير الثلاثي المجلس وجماعة الناس ويروى "فسيق" بدل "فقيد". وكلا الفعلين مبني للمجهول ثلاثيا، وجيء بالبيت على معنى أينا يستحق العمى ويقاد إلى المجلس وهو لا يشك أن المخاطب يستحق ذلك ولكن على الاستدراج حتى يصغى المخاطب إلى ما يلقيه إليه ولأن هذا قصده أفرد "أي" والمشهور إضافتها إليهما معا. وقد تقدم.
[44595]:هو له من بحر الطويل من قصيدة يخاطب أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ويهجوه، ويروى: "ند" بدل كفء و "شر" و "خير" اسما تفضيل على غير بابهما والأصل: "أخير وأشرر" وجيء بالبيت كسابقه شاهدا على الاستدراج فلم يشك أحد أن المصطفى صلى الله عليه وسلم خير خلق الله كلهم وقد تقدم.
[44596]:قاله في الدر المصون 4/439 واللف والنشر منه ما هو مرتب ومنه ما هو غير مرتب والنوع الثاني غير المراد هنا واللف والنشر: ذكر متعدد على جهة التفضيل أو الإجمال ثم ذكر ما لكل واحد من غير تعيين تركا للسامع. قاله في بغية الإيضاح 4/34.
[44597]:مسألة مجيء "أو" بمعنى الواو تكلم فيها كثيرا وقد قال عنها ابن هشام في المغني: وقيل: إن "أو" بمعنى الواو ويؤيده قول المفسرين: أنها نزلت في رجل أنصاري طلق امرأته قبل المسيس وقبل الفرض. وقال السيوطي في الهمع عن هذه الآية التي معنا: "أو" بمعنى الإبهام على السامع. انظر: المغني 66، والهمع 2/134. ونقل ابن جني في الخصائص أن "أو" من الإمكان أن تأتي بمعنى الواو أحيانا مقررا أنه ليس في كل المواضع أن يكون الحرف بدل الحرف قال وذهب قطرب إلى أن "أو" قد تكون لمعنى الواو وأنشد بيت النابغة: ............................ إلى حمامتنا أو نصفه فقد فقال معناه: ونصفه ولعمري إن كذا معناه وكيف لا يكون كذلك ولا بد منه وقد كثرت فيه الرواية أيضا و "نصفه" ثم يقول: لكن هناك مذهب يمكن معه أن يبقى الحرف على أصل وضعه من كون الشك فيه. ويقول: فقول الله سبحانه {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} فلا يكون فيه "أو" على مذهب الفراء بمعنى بل ولا على مذهب قطرب في أنها بمعنى الواو. انظر: الخصائص 2/260 و 461.
[44598]:روي: "من" بدل "ما" و "مسرح" بدل "سافع" وهو لحميد بن ثور من الكامل ونسبه الزمخشري إلى عمرو بن معد يكرب. وقد تقدم.
[44599]:عند قول الله: {أو كصيب من السماء} من الآية 19 البقرة.
[44600]:قاله في المجاز 2/148 قال: "مجازه: إنا لعلى هدى وإياكم إنكم في ضلال مبين لأن العرب تضع "أو" في موضع واو المبالاة".
[44601]:نقلهما في بحره 7/280.
[44602]:نقلهما في بحره 7/280.
[44603]:تصحيح من "ب" فما في "أ" والثاني وهو خطأ وتحريف.
[44604]:قال بذلك السمين في رده على أبي حيان 4/440.
[44605]:هذا كلام الفخر الرازي في تفسيره الكبير 25/257، وفيه "التعلي" لا التعالي.