محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{۞قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (24)

{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أمر بتبكيت المشركين بحملهم على الإقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة فيهما . وقوله { قُلِ اللَّهُ } أي الذين تعترفون بأنه الخالق : كما قال تعالى{[6278]} { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر ، فسيقولون الله } أي فحينئذ قامت الحجة عليهم منهم .

{ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } أي وإن أحد الفريقين من الموحدين ، الرازق من السماوات والأرض بالعبادة ، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة على ذرة ، لعلى أحد الأمرين من الهدى أو الضلال .

/ قال الزمخشري : وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به : قد أنصفك صاحبك . وفي درجه بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ ، دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ، ومن هو في الضلال المبين . ولكن التعريض والتورية أفضل بالمجادل إلى الغرض ، وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينا ، ونحوه قول الرجل لصاحبه : علم الله الصادق مني ومنك . وإن أحدنا لكاذب . ومنه بيت حسان{[6279]} :

أتهجوه ولست له بكفء *** فشركما لخيركما الفداء

انتهى .

قال الناصر : وهذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب ، رددته على سمعي فزاد رونقا بالترديد . واستعاده الخاطر ، كأني بطيء الفهم حين يفيد . ولا ينبغي أن ينكر بعد ذلك على الطريقة التي أكثر تعاطيها متأخرو الفقهاء في مجادلاتهم ومحاوراتهم . وذلك قولهم : أحد الأمرين لازم على الإبهام . فهذا المسلك من هذا الوادي غير بعيد ، فتأمله ، والله الموفق . انتهى .

قال الشهاب :وهذا فن من فنون البلاغة يسمى ( الكلام المنصف ) . وقيل إن الآية على اللف والنشر المرتب . ونظر فيه بأنه لو قصد اللف بأن يكون على هدى راجعا لقوله { وإنا } و { أو في ضلال } راجعا ل { إياكم } كان العطف بالواو لا بأو . وكونها بمعنى الواو كما في قوله :

سيان كسر رغيفه *** أو كسر عظم من عظامه

/ بعيد جدا . إلا أنه قيل : لو جعل فيه إيماء لذلك لم يبعد . وإيثار ( على ) في ( الهدى ) و ( في ) في مقابله ، للدلالة على استعلاء صاحب الهدى وتمكنه واطلاعه على ما يريد ، كالواقف على مكان عال ، أو الراكب على جواد .  وانغماس الضال في ضلاله حتى كأنه في مهواة مظلمة .


[6278]:[21/الأنبياء/28].
[6279]:من قصيدته التي مطلعها: عفت ذات الأصابع فالجواء*** إلى عذراء منزلها خلاء. يهجو بها أبا سفيان، وكان هجا النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه. (ذات الأصابع والجواء: موضعان بالشام بأكناف دمشق. وعذراء: موضع على بريد من دمشق.وعفت: درست)