السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (24)

ولما سلب تعالى عن شركائهم أن يملكوا شيئاً من الأكوان ، وأثبت جميع الملك له وحده ، وأمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقررهم بما يلزم منه ذلك بقوله تعالى : { قل من يرزقكم من السماوات } أي : بالمطر { والأرض } أي : بالنبات ، وأفرد الأرض لأنهم لا يعلمون غيرها ، ثم أمره تعالى أن يتولى الإجابة بقوله تعالى : { قل الله } أي : إن لم يقولوا رازقنا الله تعالى فقل أنت : إن رازقكم الله وذلك للإشعار بأنهم يقرون به بقلوبهم إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به ، لأن الذي تمكن من صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته ؛ ولأنهم إن تفوهوا بأن الله تعالى رازقهم لزمهم أن يقال لهم : فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق ، ألا ترى إلى قوله تعالى { قل من يرزقكم من السماء والأرض } ( يونس : 31 ) { أمّن يملك السمع والأبصار } ( يونس : 31 ) حتى قال : { فسيقولون الله } ( يونس : 31 ) ثم قال تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } ( يونس : 32 ) فكأنهم كانوا يقرون بألسنتهم مرة ، ومرة يتلعثمون عناداً وفراراً وحذراً من إلزام الحجة ونحوه قوله عز وجل { قل من رب السماوات والأرض قل الله أفتّخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً } ( الرعد : 16 )

وأمر بأن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه { وإنا أو إياكم } أي : أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق من السماوات والأرض بالعبادة ، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة { لعلى هدى } أي : في متابعة ما ينبغي أن يعمل مستعلين عليه { أو في ضلال } عن الحق { مبين } أي : بين في نفسه داع لكل أحد إلى معرفة أنه ضلال ، وهذا ليس على طريق الشك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك أنه على هدى ويقين ، وأن الكفار على ضلال مبين وإنما هذا الكلام جار على ما تخاطب به العرب من استعمال الإنصاف في محاوراتهم على سبيل الفرض والتقدير ، ويسميه أهل البيان الاستدراج ، وهو أن يذكر لمخاطبه أمراً يسلمه وإن كان بخلاف ما يذكر حتى يصغي إلى ما يلقيه إليه إذ لو بدأه بما يكره لم يصغ ونظيره قولهم : أخزى الله الكاذب مني ومنك ، ومثله قول حسان رضي الله تعالى عنه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا سفيان :

أتهجوه ولست له بكفء *** فشركما لخيركما الفداء

فإن أبي ووالدتي وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء

مع العلم لكل أحد أنه صلى الله عليه وسلم خير خلق الله كلهم .

تنبيه : ذكر تعالى في الهدى كلمة على ، وفي الضلال كلمة في ، لأن المهتدي كأنه مرتفع مطلع فذكر بكلمة التعالي فكأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء ، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فأتى بكلمة في فكأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أين يتوجه قال البغوي : وقال بعضهم : أو بمعنى الواو والألف فيه صلة كأنه يقول : وإنا وإياكم لعلى هدى وفي ضلال مبين يعني : نحن على الهدى وأنتم في الضلال .