ثم أرسل إليه الرسل ، وأنزل عليه الكتب ، وهداه الطريق الموصلة إلى الله ، ورغبه{[1304]} فيها ، وأخبره بما له عند الوصول إلى الله .
ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك ، ورهبه منها ، وأخبره بما له إذا سلكها ، وابتلاه بذلك ، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه ، قائم بما حمله الله من حقوقه ، وإلى كفور لنعمة الله عليه ، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية ، فردها ، وكفر بربه ، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك .
ثم زوده إلى جانب المعرفة ، بالقدرة على اختيار الطريق ، وبين له الطريق الواصل . ثم تركه ليختاره ، أو ليضل ويشرد فيما وراءه من طرق لا تؤدي إلى الله :
( إنا هديناه السبيل : إما شاكرا وإما كفورا ) . .
وعبر عن الهدى بالشكر . لأن الشكر أقرب خاطر يرد على قلب المهتدي ، بعد إذ يعلم أنه لم يكن شيئا مذكورا ، فأراد ربه له أن يكون شيئا مذكورا . ووهب له السمع والبصر . وزوده بالقدرة على المعرفة . ثم هداه السبيل . وتركه يختار . . الشكر هو الخاطر الأول الذي يرد على القلب المؤمن في هذه المناسبة . فإذا لم يشكر فهو الكفور . . بهذه الصيغة الموغلة في الدلالة على الكفران .
ويشعر الإنسان بجدية الأمر ودقته بعد هذه اللمسات الثلاث . ويدرك أنه مخلوق لغاية . وانه مشدود إلى محور . وأنه مزود بالمعرفة فمحاسب عليها . وأنه هنا ليبتلى ويجتاز الابتلاء . فهو في فترة امتحان يقضيها على الأرض ، لا في فترة لعب ولهو وإهمال ! ويخرج من هذه الآيات الثلاث القصار بذلك الرصيد من التأملات الرفيقة العميقة ، كما يخرج منها مثقل الظهر بالتبعة والجد والوقار في تصور هذه الحياة ، وفي الشعور بما وراءها من نتائج الابتلاء ! وتغير هذه الآيات الثلاث القصار من نظرته إلى غاية وجوده ، ومن شعوره بحقيقة وجوده ، ومن أخذه للحياة وقيمها بوجه عام .
وقوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } أي : بيناه له ووضحناه وبصرناه به ، كقوله : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فصلت : 17 ] ، وكقوله : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] ، أي : بينا له طريق الخير وطريق الشر . وهذا قول عكرمة ، وعطية ، وابن زيد ، ومجاهد - في المشهور عنه - والجمهور .
ورُوي عن مجاهد ، وأبي صالح ، والضحاك ، والسدي أنهم قالوا في قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } يعني خروجه من الرحم . وهذا قول غريب ، والصحيح المشهور الأول .
وقوله : { إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } منصوب على الحال من " الهاء " في قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } تقديره : فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد ، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل الناس يَغْدو ، فبائع نفسه فموبقها أو مُعْتقها " {[29584]} . وتقدم في سورة " الروم " عند قوله : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] من رواية جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة حتى يُعربَ عنه لسانه ، فإذا أعرب عنه لسانه ، فإما شاكرًا وإما كفورًا " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن عثمان بن محمد ، عن المقبري ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من خارج يخرج إلا ببابه رايتان : رايةٌ بيد مَلَك ، وراية بيد شَيطان ، فإن خرج لما يُحِبّ اللهُ اتبعَه المَلَك برايته ، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته . وإن خرج لما يُسخط الله اتبعه الشيطان برايته ، فلم يزل تحت راية الشيطان ، حتى يرجع إلى بيته " {[29585]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن ابن خُثَيم ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عُجرَة : " أعاذك الله من إمارة السفهاء " . قال : وما إمارة السفهاء ؟ قال : " أمراء يكونون من بعدي ، لا يهتدون بهداي ، ولا يستَنّونَ بسنتي ، فمن صَدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ، فأولئك ليسوا مني ولست منهم ، ولا يَردُون على حوضي . ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يُعِنهم على ظلمهم ، فأولئك مني وأنا منهم ، وسيردون على حوضي . يا كعب بن عُجرَة ، الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، والصلاة قربان - أو قال : برهان - يا كعبَ بنَ عجرَة ، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سُحْت ، النار أولى به . يا كعب ، الناس غَاديان ، فمبتاعُ نفسَه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها " .
ورواه عن عَفّان ، عن وُهَيب{[29586]} ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، به{[29587]} .
إنا هديناه السبيل أي بنصب الدلائل وإنزال الآيات إما شاكرا وإما كفورا حالان من الهاء و إما للتفصيل أو التقسيم أي هديناه في حاليه جميعا أو مقسوما إليهما بعضهم شاكرا بالاهتداء والأخذ فيه وبعضهم كفور بالإعراض عنه أو من السبيل ووصفه بالشكر والكفر مجاز وقرئ أما بالفتح على حذف الجواب ولعله لم يقل كافرا ليطابق قسيمه محافظة على الفواصل وإشعارا بأن الإنسان لا يخلو عن كفران غالبا وإنما المؤاخذ به التوغل فيه .
استئناف بياني لبيان ما نشأ عن جملة { نبتليه } [ الإنسان : 2 ] ولتفصيل جملة { فجعلناه سميعاً بصيراً } [ الإنسان : 2 ] ، وتخلُّصّ إلى الوعيد على الكفر والوَعد على الشكر .
وهداية السبيل : تمثيل لحال المرشدِ . و { السبيل } : الطريق الجادة إلى ما فيه النفع بواسطة الرُسل إلى العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة التي هي سبب فوزه بالنعيم الأبدي ، بحال من يدل السائر على الطريق المؤدية إلى مقصده من سَيْره .
وهذا التمثيل ينحل إلى تشبيهاتتِ أجزاءِ الحالة المركَّبَة المشبَّهة بأجزاء الحالة المشبَّه بها ، فالله تعالى كالهادي ، والإِنسان يشبه السائر المتحير في الطريق ، وأعمال الدين تشبه الطريق ، وفوز المتتبع لهدي الله يشبه البلوغ إلى المكان المطلوب .
وفي هذا نداء على أن الله أرشد الإِنسان إلى الحق وأن بعض الناس أدخلوا على أنفسهم ضلالَ الاعتقاد ومفاسدَ الأعمال ، فمن بَرَّأَ نفسه من ذلك فهو الشاكر وغيره الكفور ، وذلك تقسيم بحسب حال الناس في أول البعثة ، ثم ظهر من خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً .
وتأكيد الخبر ب ( إنَّ ) للرد على المشركين الذين يزعمون أن ما يدعوهم إليه القرآن باطل .
و { إِما شاكراً وإما كفوراً } حالان من ضمير الغيبة في { هديناه } ، وهو ضمير { الإِنسان } [ الإنسان : 2 ] .
و { إما } حرف تفصيل ، وهو حرفٌ بسيط عند الجمهور . وقال سيبويه : هو مركب من حرف ( إِنْ ) الشرطية و ( مَا ) النافية . وقد تجردت ( إنْ ) بالتركيب على الشرطية كما تجردت ( مَا ) عن النفي ، فصار مجموع { إِما } حرف تفصيل ، ولا عمل لها في الاسم بعدها ولا تمنع العامل الذي قبلها عن العمل في معموله الذي بعدها فهي في ذلك مثل ( اَلْ ) حرففِ التعريف . وقدر بعض النحاة { إما } الثانية حرفَ عطف وهو تحكم إذ جعلوا الثانية عاطفة وهي أخت الأولى ، وإنما العاطف الواو و { إِما } مقحمة بين الاسم ومعموله كما في قول تأبط شراً :
هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إِسارٍ ومِنَّةٍ *** وإِمَّا دَمٍ والموتُ بالحُر أجْدَرُ
فإن الاسمين بعد ( إما ) في الموضعين من البيت مجرورَان بالإِضافة ولذلك حذفت النون من قوله : هما خطتَا ، وذلك أفصح كما جاء في هذه الآية .
قال ابن جنيّ : « أما من جرَّ ( إِسار ) فإنه حذف النون للإِضافة ولم يَعتد ( إِمَّا ) فاصلاً بين المضاف والمضاف إليه ، وعلى هذا تقول : هما إِما غلاما زيدٍ وإما عمرو ، وأجودُ من هذا أن تقول : هما خطتَا إِسارٍ ومنةٍ وإِما خطتا دم ثم قال : وأما الرفع فطريق المذهب ، وظاهر أمره أنه على لغة من حذف النون لغير الإِضافة فقد حُكي ذلك » الخ .
ومقتضى كلامه أن البيت روي بالوجهين : الجرِ والرفع وقريب منه كلام المرزوقي وزاد فقال « وحَذف النون إذا رفعتَ ( إسارُ ) استطالة للاسم كأنه استطال خطتا ببدَلِه وهو قوله : إِما إسار » الخ .
والمعنى : إنا هديناه السبيل في حال أنه متردد أمره بين أحد هذين الوصفين وصففِ شاكر ووصففِ كفور ، فأحدُ الوصفين على الترديد مقارنٌ لحال إرشاده إلى السبيل ، وهي مقارنةٌ عرفية ، أي عَقب التبليغ والتأمل ، فإن أخذ بالهدى كان شاكراً وإن أعرض كان كفوراً كمن لم يأخذ بإرشاد من يهديه الطريق فيأخذ في طريق يلقى به السباع أو اللصوصَ ، وبذلك تم التمثيل الذي في قوله : { إِنا هديناه السبيل } .