قوله تعالى : { فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } يعني : فضربه فانفلق فانشق ، { فكان كل فرق } قطعة من الماء ، { كالطود العظيم } كالجبل الضخم ، قال ابن جريج وغيره : لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح ، والبحر يرمي بموج مثل الجبال ، فقال يوشع : يا مكلم الله أين أمرت فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا ؟ قال موسى : ها هنا ، فخاض يوشع الماء وجاز البحر ، ما يواري حافر دابته الماء : وقال الذي يكتم إيمانه : يا مكلم الله أين أمرت ؟ قال : ها هنا ، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه ، ثم أقحمه البحر ، فارتسب في الماء ، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك ، فلم يقدروا ، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع ، فأوحى الله إليه : أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه فانفلق ، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتل سرجه ولا لبده .
وفي اللحظة الأخيرة ينبثق الشعاع المنير في ليل اليأس والكرب ، وينفتح طريق النجاة من حيث لا يحتسبون :
( فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ) . .
ولا يتمهل السياق ليقول إنه ضرب بعصاه البحر . فهذا مفهوم . إنما يعجل بالنتيجة :
( فانفلق . فكان كل فرق كالطود العظيم ) . .
ووقعت المعجزة ، وتحقق الذي يقول عنه الناس : مستحيل . لأنهم يقيسون سنة الله على المألوف المكرور . والله الذي خلق السنن قادر على أن يجريها وفق مشيئته عندما يريد .
وقعت المعجزة وانكشف بين فرقي الماء طريق . ووقف الماء على جانبي الطريق كالطود العظيم . واقتحم بنو إسرائيل . .
ووقف فرعون من جنوده مبغوتا مشدوها بذلك المشهد الخارق ، وذلك الحادث العجيب .
ولا بد أن يكون قد وقف مبهوتا فأطال الوقوف - وهو يرى موسى وقومه يعبرون الخضم في طريق مكشوف - قبل أن يأمر جنوده بالاقتحام وراءهم في ذلك الطريق العجيب .
فأوحى الله إليه : { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ } .
وقال قتادة : أوحى الله تلك الليلة إلى البحر : أن إذا ضربك موسى بعصاه فاسمع له وأطع ، فبات البحر تلك الليلة ، وله اضطراب{[21741]} ، ولا يدري من أيّ جانب يضربه موسى ، فلما انتهى إليه موسى قال له فتاه يوشع بن نون : يا نبي الله ، أين أمرك ربك ؟ قال : أمرني أن أضرب البحر . قال : فاضربه .
وقال محمد بن إسحاق : أوحى الله - فيما ذكر لي - إلى البحر : أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له . قال : فبات البحر يضرب بعضه بعضًا ، فرقا من الله تعالى ، وانتظارًا لما أمره الله ، وأوحى الله إلى موسى : { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ } ، فضربه بها وفيها ، {[21742]} سلطان الله الذي أعطاه ، فانفلق .
وذكر غير واحد أنه كناه فقال : انفلق عليّ أبا خالد بحول الله{[21743]} .
قال الله تعالى : { فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } أي : كالجبل الكبير . قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومحمد بن كعب ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم .
وقال عطاء الخراساني : هو الفَجّ بين الجبلين .
وقال ابن عباس : صار البحر اثني عشر طريقًا ، لكل سبط طريق - وزاد السدي : وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض ، وقام الماء على حيله كالحيطان ، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته ، فصار يَبَسا{[21744]} كوجه الأرض ، قال الله تعالى : { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى } [ طه : 77 ] .
وقال في هذه القصة : { وأزلفنا } أي : هنالك{[21745]} { الآخرين } .
لما عظم البلاء على بني إسرائيل أمر موسى أن يضرب البحر بعصاه ، وذلك لأنه عز وجل أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل فعله وإلا فضرب العصا ليس بفالق للبحر ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله واختراعه ، ولا انفلق البحر صار فيه اثنا عشر طريقاً على عدد أسباط بني إسرائيل ، ووقف الماء ساكناً كالجبل العظيم ، و " الطود " : الجبل{[8941]} ، وروي عن ابن جريج والسدي وغيرهما أن بني إسرائيل ظن كل فريق منهم أن الباقي قد غرق ، فأمر الله الماء فصار كالشراجب والطيقان وراء بعضهم بعضاً فتأنسوا{[8942]} .
وجه اقتصاره على نفسه أيضاً أن طريق نجاتهم بعد أن أدركهم فرعون وجنده لا يحصل إلا بفعل يقطع دابر العدوّ ، وهذا الفعل خارق للعادة فلا يقع إلا على يد الرسول . وهذا وجه اختلاف المعية بين ما في هذه الآية وبين ما في قوله تعالى في قصة الغار { إذ يقول لصاحبه لا تحزَنْ إن الله معنا } [ التوبة : 40 ] لأن تلك معية حفظهما كليهما بصرف أعين الأعداء عنهما ، وقد أمره الله أن يضرب بعصاه البحر وانفلق البحر طُرقاً مرّت منها أسباط بني إسرائيل ، واقتحم فرعون البحر فمدّ البحرُ عليهم حين توسطوه فغرق جميعهم .
والفِرْق بكسر الفاء وسكون الراء : الجزء المفروق منه ، وهو بمعنى مفعول مثل الفِلق . والطود : الجبل .