{ فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر } هو القلزم على الصحيح ، وقيل : بحر من وراء مصر يقال له أساف ، وقيل : النيل ، والظاهر أن هذا الإيحاء كان بعد القول المذكور ولم يكن مأموراً بالضرب يوم الأمر بالإسراء ، فقد أخرج ابن عبد الحكم عن مجاهد أنه لما انتهى موسى عليه السلام وبنو إسرائيل إلى البحر قال مؤمن آل فرعون : يا نبي الله أين أمرت فإن البحر أمامك وقد غشينا آل فرعون فقال : أمرت بالبحر فاقتحم مؤمن آل فرعون فرسه فرده التيار فجعل موسى عليه السلام لا يدري كيف يصنع وكان الله تعالى قد أوحى إلى البحر أن أطع موسى وآية ذلك إذا ضربك بعصاه فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر .
وأخرج أيضاً من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن موسى لما انتهى إلى البحر أقبل يوشع بن نون على فرسه فمشى على الماء واقتحم غيره خيولهم فرسوا في الماء ، وقال أصحاب موسى : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] فدعا موسى ربه فغشيتهم ضبابة حالت بينهم وبينه ؛ وقيل : له اضرب بعصاك البحر ؛ وأخرج ابن جرير . وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى وأطلع إذا ضربك فبات البحر له أفكل أي رعدة لا يدري من أي جوانبه يضربه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر قال : يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء اجعل لنا مخرجاً فأوحى الله تعالى إليه أن أضرب بعصاك البحر .
وروى أنه عليه السلام قال : اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وإليك المستغاث وأنت المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وفي «الدر المنثور » من رواية ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً ما يدل على أنه عليه السلام قال ذلك حين الانفلاق { فانفلق } أي فضربه فانفلق فالفاء فصيحة ، وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب ، وفاء انفلق والفاء الموجودة هي فاء ضرب وهذا أشبه شيء بلغي العصافير وكأنه كان سكران حين قاله ، وفي هذا الحذف إشارة إلى سرعة امتثاله عليه السلام ، وإنما أمر عليه السلام بالضرب فضرب وترتب الانفلاق عليه إعظاماً لموسى عليه السلام بجعل هذه الآية العظيمة مترتبة على فعله ولو شاء عز وجل لفلقه بدون ضربه بالعصا ، ويروى أنه لم ينفلق حتى كناه بأبي خالد فقال انفلق أبا خالد : وكان بأمر الله تعالى إياه بذلك ، وعن قيس بن عباد أنه عليه السلام حين جاءه قال له : انفلق أبا خالد فقال : لن أنفق لك يا موسى أنا أقدم منك وأشد خلقاً فنودي عند ذلك اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ، وفي رواية ابن مسعود أنه عليه السلام حين انتهى إليه قال : انفرق فقال له : لقد الستكبرت يا موسى وهل انفرقت لأحد من ولد آدم فأوحى الله تعالى إليه أن أضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ، وفي حديث أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق عن أبي الدرداء مرفوعاً أنه عليه السلام ضربه فتأطط كما يتأطط العرش ثم ضربه الثانية فمثل ذلك ثم ضربه الثالثة فانصدع وهذا صريح في أن الضرب كان ثلاثاً ، وقيل : ضربه مرة واحدة فانفلق ، وقيل : ضربه اثنتي عشرة مرة فانفلق في كل مرة عن مسلك لسبط .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال : كان البحر ساكناً لا ستحرك فلما كان ليلة ضربه موسى بالعصا صار يمد ويجزر ولا أظن لهذا صحة ، والظاهر أن المد والجزر كانا قبل أن يخلق الله تعالى موسى عليه السلام ولا ينبغي لعاقل اعتقاد غيره ، ومثل هذا عندي كثير من الأخبار السابقة ، وإلا سلم الاقتصار على ما قص الله تعالى من أنه أوحى سبحانه إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } أي كالجبل المنيف الثابت في مقره ، وظاهر الآية أن الطود مطلق الجبل ، وقال في «الصحاح » الطود الجبل العظيم .
والمراد بالفرق قطعة من الماء ارتفعت فصار ما تحتها كالسرداب على ما ذكره بعض الأجلة ، وحينئذ لا إشكال في قول من قال : إن الفروق اثنا عشرة والمسالك كذلك بعدة أسباط بني إسرائيل وقد سلك كل سبط منهم في مسلك منها ، والمشهور أن الفرق قطعة انفصلت من الماء عما يقابلها وحينئذ لا يتأتى ذلك القول بل لا بد عليه على ماقيل من كون الفروق ثلاثة عشر حتى يحصل في خلالها اثنا عشر مسلكاً بعدد الأسباط ، وقيل : إذا كانت الفروق اثني عشر فلا بد أن تكون المسالك ثلاثة عشر لأن الفرق الأول والثاني عشر لا بد أن يكون منفصلين عما يحاذيهما من البحر فيكون بين كل منهما وبين ما يحاذيه من البحر مسلك وإن لم يكن كسائر المسالك بين فرقين إذ لو اتصلا لم يميزا عنه ولم يتحقق حينئذ اثنا عشر فرقاً بل أقل ، ولا بعد في أن يختار كون الفروق اثني عشر والمسالك ثلاثة عشر بجعل الفرق الأول والثاني عشر منفصلين عما يحاذيهما من البحر بين كل منهما وبينه مسلك ، ويقال : إن كل سبط من الأسباط الإثني عشر سلك في مسلك وسلك في الثالث عشر من آمن بموسى عليه السلام من القبط انتهى .
وأورد عليه أنه لم يذكر في الآثار أن المسالك ثلاثة عشر وإنما المذكور فيها أنها اثنا عشر ومن ادعى لك فعليه البيان ، والأبعد عن القيل والقال ما تقدم عن بعض الأجلة وأثر قدرة الله تعالى عليه أعظم ، وخلق الداعية إلى سلوك ذلك في قلوب الداخلين لاسيما قوم فرعون أغرب وكذا الاحتياج إلى الكوى أظهر .
فقد روى أن بني إسرائيل قالوا : نخاف أن يغرق بعضنا ولا نشعر فجعل الله تعالى بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضاً ، نعم قيل عليه : إن في بعض الآثار ما يأباه ، فقد أخرج أبو العباس محمد بن إسحق السراج في «تاريخه » . وابن عبد البر في «التمهيد » من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صاحب الردم كتب إلى معاوية يسأله عن أشياء منها مكان طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولا بعد فيه فلم يعلم معاوية جواب ذلك فكتب يسأل ابن عباس فأجاب عن كل إلى أن قال : وأما المكان الذي طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولا بعد فيه فالمكان الذي انفلق من البحر لبني إسرائيل فإن كون الفرق مقبباً كالسرداب مانع من طلوع الشمس وشروقها على الأرض من غير واسطة كما هو الظاهر من السؤال .
وأجيب بأنه بعد تسليم صحة الخبر لا إباء لجواز شروق الشمس على أرض الفرق المقبب من غير واسطة من جهة المدخل والمخرج أو شروقها على أرض البحر قبل التقبيب ولم يتعرض المفسرون هنا فيما وقفت عليه لكيفية الانطلاق ، وقد رأيت فيما ينسب إلى كليات أبي البقاء أنه قد ورد أن بني إسرائيل لما دخلوا البحر خرجوا من الجانب الذي دخلوا منه وحينئذ لا يتأتى ذلك على كون الانفلاق خطياً وإنما يتأتى على كونه قوسياً ثم إنه ذكر في عدة الفروق والمسالك كلاماً ظاهره الاختلال ، وقد تصدى بعض الفضلاء لشرحه وتوجيهه بما لا يخلو عن تعسف ، وحاصل ما ذكره ذلك البعض مع زيادة مع أنه يحتمل إذا كان انفلاق البحر إلى اثني عشر فرقاً أن يكون الفرق الأول والثاني عشر متصلين بالبر الشطي بأن يكون الماء الواقع حذاء كل منهما من جهة البر مرتفعاً ومنضماً إلى كل ومعدود من أجزائه بحيث يصير الماء المرتفع المنضم والفرق الأصلي المنضم إليه فرقاً واحداً متصلاً طرفه بالبر من غير فصل بينه وبينه بشيء . وأورد عليه أنه يلزم عليه أن تكون المسالك أحد عشر فيحتاج إلى سلوك سبطين معاً أو متعاقباً في مسلك واحد أوسع من سائر المسالك أو مساو له ولا خفاء في أنه خلاف الظاهر والمأثور ، وأيضاً يلزم أن يكون كل من الفرقين الأول والثاني عشر أعظم غلظاً من كل من البواقي لما سمعت من الانضمام والظاهر تساويها فيه ، وأيضاً يلزم خروج الماء الملاصق للبر عما الأصل فيه من غير داع إليه ويحتمل أن يكون الماء الواقع حذاء كل من الأول والثاني عشر من جهة البر مرتفعاً بمعنى ذاهباً ويكون الفرقان المذكوران متصلين بالبر باعتبار أنهما متصلان بالمسلكين الظاهرين من تحت الماء الذاهب المتصلين بالبر .
ويرد عليه بعض ما ورد على سابقه وبقاء سبط من بني إسرائيل أو سبطين بلا حاجب لهم عن فرعون وجنوده من الماء .
ويحتم أن يكونا منفصلين عن البر بأن يبقى الماء المتصل به على حاله بحراً من غير ارتفاع وحينئذ يحتمل أن تكون المسالك ثلاثة عشر باعتبار انكشاف الأرض بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله المتصل بالبر فيكون هذا المسلك خارج الطول الأول وانكشافها بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حاله المتصل بالبر من الجانب الآخر فيكون هذا المسلك خارج الفرق الثاني عشر ، وعلى هذا الاحتمال يلزم تعطل أحد المسالك أو التزام سلوك من آمن من القبط فقط فيه ، ويحتمل أن تكون المسالك اثني عشر كالفروق بأن يكون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حالة المتصل بالبر من جهة فرعون وجنوده فقط أو يكون الانكشاف بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حاله من الجانب الآخر فقط ، وهذا بعيد لعظم هذا القوس المنكشف جداً وطول زمان قطعه ، فالظاهر وقوع احتمال كون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله من جهة فرعون ، وبالجملة احتمال انفصال الفرقين الأول والأخير وكون الانكشاف بين الأول والبحر مما يلي فرعون دون الأخير والبحر مما يلي الجانب الآخر واتحاد المسالك والفروق في كون كل اثني عشر هو الأقرب للوقوع اه .
ولا يخفى أنه يلزم عليه أن لا يكون جميع المسالك في خلال الفروق فإن لم يتعين القول بكون جميعها فيه إذ ليس في الآثار أكثر من كون المسالك اثني عشر مسلكاً فلا بأس به ، وإن استحسنت ما تقدم عن بعض الأجلة في المراد بالفرق فاعتبره على تقدير كون الانفلاق قوسياً أيضاً ، ثم إن ما ذكر من كون الخروج من جهة الدخول لم أره في غير ما ينسب إلى كليات أبي البقاء وهو أوفق بالقول برجوع موسى عليه السلام وقومه إلى مصر بعد الخروج من البحر وإغراق فرعون وجنوده فيه وتوقف ذلك على كون الانفلاق قوسياً لأنه لو كان خطياً يلزم أن يكون الرجوع في طريق الدخول وهو ظاهر البطلان لأن الأعداء في أثرهم ، واحتمال أن تكون المسالك الخطية ثلاثة عشر وأن بني إسرائيل سلكوا اثني عشر منها واتبعهم فيها فرعون وجنوده وخرجوا قبل أن يصلوا إليهم ودخلوا جميعاً في المسلك الثالث عشر من الجانب المخالف لجانب دخولهم متوجهين فيه إلى جانب دخولهم فلم يخرجوا حتى صار جميع أعدائهم في تلك المسالك الإثني عشر التي اتبعوهم فيها فخرجوا وغشي أعداءهم من اليمن ما غشيهم لا يخفى ما فيه ، والقول بالعود إلى مصر مع القول بأن الانفلاق كان خطياً يتوقف على هذا أو على الانفلاق مرة أخرى أو على العبور بالسفن أو سلوك طريق إلى مصر غير الطريق الذي سلكوه خارجين منها إلى البحر .
والظاهر أنه لم يكن شيء من ذلك ، ولا بأس على ما قيل بالقول بكون الانفلاق قوسياً سواء قلنا بالرجوع إلى مصر أم لا ، وما يقال عليه من أنه يلزم حينئذ أن تكون مداخل تلك المسالك ومخارجها في جانب فرعون وجنوده وذلك مما يوجب خوف بني إسرائيل من الدخول لاحتمال أن يدخل عليهم أعداؤهم من الطرف الآخر الذي هو محل الخروج فيلاقوهم في الطريق على طرف الثمام كما لا يخفى على ذوي الأفهام .
وجوز على القول بأن الانفلاق كان قوسياً أن يكون دخول عيسى عليه السلام وقومه من أحد طرفي القوس ودخول فرعون وجنوده من الطرف الآخر ليلاقوا موسى عليه السلام وقومه حتى إذا كمل الجمعان دخولاً رجع موسى عليه السلام وقومه القهقري حتى إذا خرجوا جميعاً أغرق الله تعالى فرعون وجنوده أو حتى إذا كمل جمع موسى عليه السلام دخولاً وبأن لهم أول الداخلين لملاقاتهم رجعوا القهقهري حتى إذا خرجوا جميعاً وقد كمل جمع فرعون دخولاً أهلك الله تعالى عدوهم فغشيه من اليمن ما غشيه وهو كما ترى .
/ والذي ذهب إليه أهل الكتاب أن الانفلاق كان خطياً وأن المسالك اثني عشر مسلكاً لكل سبط مسلك ولا تقبيب هناك وأنه قد فتحت لهم كوى ليرى القريب قريبه ويرى الرجل من سبط زوجته من سبط آخر وأنهم خرجوا من الجهة المقابلة لجهة دخولهم وتوجهوا إلى أرض الشام ، وليس في كتابنا ما هو نص في تكذيبه بل في الاخبار ما يشهد بصحة بعضه ، واتحاد الفروق والمسالك في العدد يحتاج إلى نقل صحيح يثبته ، والآية هنا لا تدل على أكثر من تعدد الفروق والله تعالى أعلم ، وحكى يعقوب عن بعض القراء أنه قرأ { كُلٌّ } باللام بدل الراء ، قال الراغب : الفرق يقارب الفلق لكن الفلق يقال اعتباراً بالانشقاق والفرق يقال اعتباراً بالانفصال ، ومنه الفرقة للجماعة المنفردة من الناس .