قوله تعالى : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً } ، قال ابن عباس والحسن : المكاء : الصفير ، وهو في اللغة اسم طائر أبيض ، يكون بالحجاز له صفير ، كأنه قال : إلا صوت مكاء ، والتصدية التصفيق . قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ، ويصفقون . قال مجاهد : كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ، ويستهزءون به ، ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون ، فذلك المكاء ، والتصدية التصفيق ، ومنه الصدى ، والمكاء جعل الأصابع في الشدق ، والتصدية : الصفر ، ومنه الصدا الذي يسمعه المصوت في الجبل ، قال جعفر بن ربيعة : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله عز وجل { إلا مكاء وتصدية } فجمع كفيه ، ثم نفخ فيهما صفيراً ، قال مقاتل : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى في المسجد قام رجلان عن يمينه فيصفران ، ورجلان عن شماله فيصفقان ، ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته ، وهم من بني عبد الدار . قال سعيد بن جبير : التصدية صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام ، وعن الدين ، والصلاة ، وهي على هذا التأويل : التصددة بدالين ، فقلبت إحدى الدالين ياءً ، كما يقال : تظنيت من الظن ، وتقضي البازي ، إذ البازي كسر ، أي تقضض البازي ، قال ابن الأنباري : إنما سماه صلاة لأنهم أمروا بالصلاة في المسجد الحرام ، فجعلوا ذلك صلاتهم .
35 وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ .
يعني أن اللّه تعالى إنما جعل بيته الحرام ليقام فيه دينه ، وتخلص له فيه العبادة ، فالمؤمنون هم الذين قاموا بهذا الأمر ، وأما هؤلاء المشركون الذين يصدون عنه ، فما كان صلاتهم فيه التي هي أكبر أنواع العبادات إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً أي : صفيرا وتصفيقا ، فعل الجهلة الأغبياء ، الذين ليس في قلوبهم تعظيم لربهم ، ولا معرفة بحقوقه ، ولا احترام لأفضل البقاع وأشرفها ، فإذا كانت هذه صلاتهم فيه ، فكيف ببقية العبادات ؟ " .
فبأي : شيء كانوا أولى بهذا البيت من المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون ، والذين هم عن اللغو معرضون ، إلى آخر ما وصفهم اللّه به من الصفات الحميدة ، والأفعال السديدة .
لا جرم أورثهم اللّه بيته الحرام ، ومكنهم منه ، وقال لهم بعد ما مكن لهم فيه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وقال هنا فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون )
إنهم ليسوا أولياء لهذا البيت وإن كانوا يصلون عنده صلاتهم . فما هذه بصلاة ! إنما كانت صفيراً بالأفواه وتصفيقاً بالأيدي ، وهرجاً ومرجاً لا وقار فيه ، ولا استشعار لحرمة البيت ، ولا خشوع لهيبة الله .
عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ، ويصفقون ويصفرون .
وإن هذا ليخطر بالبال صور العازفين المصفقين الصاخبين الممرغين خدودهم على الأعتاب والمقامات اليوم في كثير من البلاد التي يسمونها " بلاد المسلمين " ! إنها الجاهلية تبرز في صورة من صورها الكثيرة . بعدما برزت في صورتها الواضحة الكبيرة : صورة ألوهية العبيد في الأرض ، وحاكميتهم في حياة الناس . . وإذا وقعت هذه فكل صور الجاهلية الأخرى إنما هي تبع لها ، وفرع منها !
( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . .
وهو ذلك العذاب الذي نزل بهم في بدر بأيدي العصبة المسلمة . فأما العذاب الذي طلبوه - عذاب الاستئصال المعروف - فهو مؤجل عنهم ، رحمة من الله بهم ، وإكراماً لنبيه [ ص ] ومقامه فيهم ، عسى أن ينتهي بهم الأمر إلى التوبة والاستغفار مما هم فيه .
ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام ، وما كانوا يعاملونه به ، فقال : { وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } قال عبد الله{[12925]} بن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَيْر ، وأبو رجاء العطاردي ، ومحمد بن كعب القرظي ، وحُجْر بن عَنْبَس ، ونُبَيْط بن شُرَيْط ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو الصفير - وزاد مجاهد : وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم .
وقال السدي : المُكَاء : الصفير على نحو طير أبيض يقال له : " المُكَاء " ، ويكون بأرض الحجاز .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو خَلاد سليمان بن خلاد ، حدثنا يونس بن محمد المؤدب ، حدثنا يعقوب - يعني ابن عبد الله الأشعري - حدثنا جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } قال : كانت قريش تطوف بالكعبة{[12926]} عراة تصفر وتصفق . والمكاء : الصفير ، وإنما شبهوا بصفير الطير وتصدية التصفيق .
وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعَوْفي ، عن ابن عباس . وكذا روى عن ابن عمر ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، والضحاك ، وقتادة ، وعطية العوفي ، وحُجْر بن عَنْبَس ، وابن أبزَى نحو هذا .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا أبو عمر ، حدثنا قُرَّة ، عن عطية ، عن ابن عمر في قوله : { وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } قال : المكاء : الصفير . والتصدية : التصفيق . قال قرة : وحَكَى لنا عطية فعل ابن عمر ، فصفر ابن عمر ، وأمال خده ، وصفق بيديه .
وعن ابن عمر أيضًا أنه قال : كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويُصَفِّقُون ويُصَفِّرُون . رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عنه .
وقال عكرمة : كانوا يطوفون بالبيت على الشمال .
قال مجاهد : وإنما كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته .
وقال الزهري : يستهزئون بالمؤمنين .
وعن سعيد بن جُبَيْر وعبد الرحمن بن زيد : { وَتَصْدِيَة } قال : صدُّهم الناس عن سبيل الله ، عز وجل .
قوله : { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } قال الضحاك ، وابن جُرَيْج ، ومحمد بن إسحاق : هو ما أصابهم يوم بَدْر من القتل والسَّبْي . واختاره ابن جرير ، ولم يحك غيره .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قال : عذاب أهل الإقرار بالسيف ، وعذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وما لهؤلاء المشركين ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام الذي يصلون لله فيه ويعبدونه ، ولم يكونوا لله أولياء ، بل أولياؤه الذين يصدّونهم عن المسجد الحرام وهم لا يصلون في المسجد الحرام . وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ يعني : بيت الله العتيق ، إلاّ مُكاءً وهو الصفير ، يقال منه : مكا يمكو مَكْوا ومُكاءً ، وقد قيل : إن المكو : أن يجمع الرجل يديه ثم يدخلهما في فيه ثم يصيح ، ويقال منه : مكت استُ الدابة مُكاءً : إذا نفخت بالريح ، ويقال : إنه لا يمكو إلاّ استُ مكشوفة ، ولذلك قيل للاست المَكْوَة ، سميت بذلك ومن ذلك قول عنترة :
وَحَلِيلِ غانِيَةٍ ترَكْتُ مُجَدّلاً ***تَمْكُو فَرِيصَتُهُ كشِدْقِ الأعْلَمِ
فَنَحا لاِولاها بِطَعْنَةِ مُحْفَظٍ ***تَمْكُو جَوَانِبُها مِنَ الإنهَارِ
بمعنى : تصوّت . وأما التصدية فإنها التصفيق ، يقال منه : صَدّى يُصَدّي تَصْدِية ، وصفّق وصفّح بمعنى واحد .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن موسى بن قيس ، عن حجر بن عنبس : إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال : المكاء : التصفير ، والتصدية : التصفيق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : قوله : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً المكاء : التصفير ، والتصدية : التصفيق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً يقول : كانت صلاة المشركين عند البيت مكاء ، يعني : التصفير ، وتصدية يقول : التصفيق .
حدثني محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا فضيل ، عن عطية : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال : التصفيق والصفير .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن قرّة بن خالد ، عن عطية ، عن ابن عمر ، قال : المكاء : التصفيق ، والتصدية : الصفير . قال : وأمال ابن عمر خده إلى جانب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا وكيع ، عن قرة بن خالد ، عن عطية ، عن ابن عمر : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال : المكاء والتصدية : الصفير والتصفيق .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال سمعت محمد بن الحسين يحدّث عن قرة بن خالد ، عن عطية العوفي ، عن ابن عمر ، قال : المكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن عطية ، عن ابن عمر ، في قوله : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال : المكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق . وقال قرة : وحكى لنا عطية فعل ابن عمر ، فصفّر وأمال خده وصفق بيديه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني بكر بن مضر ، عن جعفر بن ربيعة ، قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يقول في قول الله : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال بكر : فجمع لي جعفر كفيه ، ثم نفخ فيهما صفيرا ، كما قال له أبو سلمة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : المكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق .
قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سلمة بن سابور ، عن عطية ، عن ابن عمر : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال تصفير وتصفيق .
قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن ابن عمر ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حبوية أبو يزيد ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون ، فأنزل الله : قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ التي أخْرَجَ لِعِبادِهِ فأمروا بالثياب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، قال : كانت قريش يعارضون النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون به ، يصفرون به ويصفقون ، فنزلت : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : إلاّ مُكاءً قال : كانوا ينفخون في أيديهم ، والتصدية : التصفيق .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال : المكاء : إدخال أصابعهم في أفواههم ، والتصدية : التصفيق ، يخلطون بذلك على محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله ، إلاّ أنه لم يقل صلاته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : المكاء . إدخال أصابعهم في أفواههم ، والتصدية : التصفيق . قال نفر من بني عبد الدار كانوا يخلطون بذلك كله على محمد صلاته .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا طلحة بن عمرو ، عن سعيد بن جبير : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال : من بين الأصابع . قال أحمد : سقط عليّ حرف وما أراه إلاّ الخذف والنفخ والصفير منها وأراني سعيد بن جبير حيث كانوا يمكون من ناحية أبي قبيس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، قال : أخبرنا طلحة بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال : المكاء : كانوا يشبكون بين أصابعهم ويصفرون بها ، فذلك المكاء . قال : وأراني سعيد بن جبير المكان الذي كانوا يمكون فيه نحو أبي قبيس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن حرب ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن جعفر بن ربيعة ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، في قوله : مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال : المكاء : النفخ ، وأشار بكفه قِبَل فيه ، والتصدية : التصفيق .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : المكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال : كنا نحدّث أن المكاء : التصفيق بالأيدي ، والتصدية : صياح كانوا يعارضون به القرآن .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال : المكاء : التصفير ، والتصدية : التصفيق .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً والمكاء : الصفير ، على نحو طير أبيض يقال له المكاء يكون بأرض الحجاز والتصدية : التصفيق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال : المكاء : صفير كان أهل الجاهلية يعلنون به . قال : وقال في المكاء أيضا : صفير في أيديهم ولعب .
وقد قيل في التصدية : إنها الصدّ عن بيت الله الحرام . وذلك قول لا وجه له لأن التصدية مصدر من قول القائل : صدّيت تصدية . وأما الصدّ فلا يقال منه : صدّيت ، إنما يقال منه صَدَدْت ، فإن شدّدت منها الدال على معنى تكرير الفعل ، قيل : صَدّدت تصديدا ، إلاّ أن يكون صاحب هذا القول وجّه التصدية إلى أنه من صدّدت ، ثم قلبت إحدى داليه ياء ، كما يقال : تظنيت من ظننت ، وكما قال الراجز :
***تَقَضّي البازِي إذَا البازِي كَسَرْ ***
يعني : تق البازي ، فقلب إحدى ضاديه ياء ، فيكون ذلك وجها يوجه إليه . ذكر من قال ما ذكرنا في تأويل التصدية :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا طلحة بن عمرو ، عن سعيد بن جبير : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً : صدّهم عن بيت الله الحرام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، قال : أخبرنا طلحة بن عمرو ، عن سعيد بن جبير . وَتَصْدِيَةً قال : التصدية : صدّهم الناس عن البيت الحرام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَتَصْدِيَةً قال : التصدية عن سبيل الله ، وصدّهم عن الصلاة وعن دين الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال : ما كان صلاتهم التي يزعمون أنها يدرأ بها عنهم إلاّ مكاء وتصدية ، وذلك ما لا يرضي الله ولا يحبّ ، ولا ما افترض عليهم ولا ما أمرهم به .
وأما قوله : فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فإنه يعني العذاب الذي وعدهم به بالسيف يوم بدر ، يقول للمشركين الذين قالوا : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ . . . الاَية ، حين أتاهم بما استعجلوه من العذاب : ذوقوا : أي اطعموا ، وليس بذوق بفم ، ولكنه ذوق بالحسّ ، ووجود طعم ألمه بالقلوب . يقول لهم : فذوقوا العذاب بما كنتم تجحدون أن الله معذّبكم به على جحودكم توحيد ربكم ورسالة نبيكم صلى الله عليه وسلم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ : أي ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قال : هؤلاء أهل بدر يوم عذّبهم الله .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكفُرُونَ يعني أهل بدر عذّبهم الله يوم بدر بالقتل والأسر .
معطوفة على جملة { وهم يصدون عن المسجد الحرام } [ الأنفال : 34 ] فمضمونها سبب ثان لاستحقاقهم العذاب ، وموقعها ، عقب جملة : { وما كانوا أولياءه } [ الأنفال : 34 ] يجعلها كالدليل المقرر لانتفاء ولايتهم للمسجد الحرام ، لأن من كان يفعل مثل هذا عند مَسجد الله لم يكن من المتقين ، فكان حقيقاً بسلب ولاية المسجد عنه ، فعطفت الجملة باعتبارها سبباً للعذاب ، ولو فصلت باعتبارها مقررة لسلب أهلية الولاية عنهم لصحَ ذلك ، ولكن كان الاعتبار الأول أرجح ؛ لأن العطف أدل عليه مع كون موقعها يفيد الاعتبار الثاني .
والمُكآء على صيغة مصادر الأصوات كالرغاء والثغاء والبُكاء والنواح ، يقال : مكَا يمْكُو إذا صَفّر بفيه ، ومنه سمي نوع من الطْير المَكّاء بفتح الميم وتشديد الكاف ، وجمعه مَكَاكِيء بهمزة في آخره بعد الياء ، وهو طائر أبيضُ يكون بالحجاز .
وعن الأصمعي قلت لمنتجع بن نبهان « ما تَمكُو » فشبك بين أصابعه ثم وضعها على فمه ونفخ .
والتصدية التصفيق مشتقاً من الصدى وهو الصوت الذي يرده الهواء محاكياً لصوت صالح في البراح من جهة مقابلة .
ولا تعرف للمشركين صلاة ، فتسمية مكائهم وتصديتهم صلاة مشاكلة تقديرية ؛ لأنهم لما صدوا المسلمين عن الصلاة وقراءة القرآن في المسجد الحرام عند البيت . كان من جملة طرائق صدهم إياهم تشغيبهم عليهم وسخريتهم بهم يحاكون قراءة المسلمين وصلاتهم بالمُكاء والتصدية ، قال مجاهد : « فَعَل ذلك نفر من بني عبد الدار يخلطون على محمد صلاته » وبنو عبد الدار هم سدنة الكعبة وأهل عمارة المسجد الحرام فلما فعلوا ذلك للاستسخار من الصلاة سمي فعلهم ذلك صلاة على طريقة المشاكلة التقديرية ، والمشاكلة ترجع إلى استعارة علاقتها المشاكلة اللفظية أو التقديرية فلم تكن للمشركين صلاة بالمكاء والتصدية ، وهذا الذي نحاه حذاق المفسرين : مجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، ويؤيد هذا قوله : { فذُوقوا العذاب بما كنتم تكفُرون } [ الأحقاف : 34 ] لأن شأن التفريع أن يكون جزاء على العمل المحكي قبله ، والمكاء والتصدية لا يعدان كفراً إلاّ إذا كانا صادرين للسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالدين ، وأما لو أريد مجرد لهو عملوه في المسجد الحرام فليس بمقتض كونَه كفراً إلاّ على تأويله بأثر من آثار الكفر كقوله تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر } [ التوبة : 37 ] .
ومن المفسرين من ذكر أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويمكّون ويصفقون روي عن ابن عباس كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفقون ويصغرون ، وعليه فإطلاق الصلاة على المكاء والتصدية مجاز مرسل ، قال طلحة بن عمرو : أراني سعيد بن جبير المكان الذي كانوا يمكّون فيه نحو أبي قبيس ، فإذا صح الذي قاله طلحة بن عمرو فالعندية في قوله : { عند البيت } بمعنى مطلق المقاربة وليست على حقيقة ما يفيده ( عند ) من شدة القرب .
ودل قوله : { فذوقوا العذاب } على عذاب وَاقع بهم ، إذ الأمر هنا للتوبيخ والتغليظ وذلك هو العذاب الذي حل بهم يوم بدر ، من قتل وأسر وحَرَب ( بفتح الراء ) .
{ بما كنتم تكفرون } أي بكفركم ف ( ما ) مصدرية ، و { كان } إذا جعل خبرها جملة مضارعية أفادت الاستمرار والعادة ، كقول عايشة ، « فكانوا لا يقطعون السارق في الشيء التافه » وقول سعيد بن المسيب في « الموطأ » : « كانوا يعطون النفَل من الخُمس » .
وعبر هنا ب { تكفرون } وفي سورة [ الأعراف : 39 ] ب { تكسبون } لأن العذاب المتحدث عنه هنا لأجل الكُفر . والمتحدث عنه في الأعراف لأجل الكفر والإضلال ومَا يجره الإضلال من الكبرياء الروئاسة .