محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمۡ عِندَ ٱلۡبَيۡتِ إِلَّا مُكَآءٗ وَتَصۡدِيَةٗۚ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (35)

35 { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون }

{ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء } أي تصفيرا { وتصدية } أي تصفيقا بالأكف .

روى ابن أبي حاتم أن ابن عمر رضي الله عنهما حكى فعلهم ، فصفر ، وأمال خده ، وصفق بيديه .

وعن ابن عمر أيضا قال : " إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفرون ويصفقون " .

وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس " أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، يصفرون ويصفقون " .

وعن مجاهد أنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته .

وقال الزهري : يستهزئون بالمؤمنين .

وهذه الجملة إما معطوفة على { وهم يصدون } فيكون لتقرير استحقاقهم للعذاب ، أو على قوله { وما كانوا أولياء } فيكون تقريرا لعدم استحقاقهم لولايته .

قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه هذا الكلام ؟ قلت : هو نحو من قوله ( أي الفرزدق ) .

وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه *** أدَاهِمَ سوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرَا

والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء . ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة .

/ ذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال والنساء وهم مشبكون بين أصابعهم ، يصفرون فيها ويصفقون . وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في صلاته ، يخلطون عليه . ما كنت أخشى أي ما كنت أعلم . وأداهم : جمع ( أدهم ) وهو الأسود من الحيات . والعرب تذكر ( الأدهم ) وتريد به ( القيد ) كما في قصة القبعثري . والمحدرجة : السياط . انتهى .

{ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } أي اعتقادا وعملا ، وفيه إشعار بأن هذا الفعل المبطل لحرمة البيت ، كفر ، للاستهانة بشعائره تعالى والسخرية بها . والعذاب المذكور هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي ، كما قاله غير واحد من السلف واختاره ابن جرير .

تنبيه :

قال ابن القيم في ( إغاثة اللهفان ) : المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق والمخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة ، أشباه هؤلاء المشركين قال ابن عرفة وابن الأنباري : المكاء والتصدية ليسا بصلاة ، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا ، مكان الصلاة التي أمروا بها ، المكاء والتصدية . فألزمهم ذلك عظيم الأوزار وهذا كقولك زرته فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة والمقصودان المصففين والصفارين في يراع أو مزمار ، ونحوه ، فيهم شبه من هؤلاء ولو أنه مجرد الشبه الظاهر ، فلهم قسط من الذم ، بحسب تشبههم بهم ، وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم ، والله سبحانه لم يشرع التصفيق{[4365]} للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر ، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح ، لئلا يتشبهوا بالنساء ، فكيف إذا فعلوه ، لا لحاجة ، وقرنوا به أنواعا من المعاصي قولا وفعلا . انتهى .

/ وقال قبله : ومن مكائد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين ، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين ، سماع المكاء والتصدية ، والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان .

وقال شيخه تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى ، في بعض فتاويه : وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ بالشبابات والاجتماع على ذلك ، دينا وطريقا إلى الله وقربة ، فهذا ليس من دين الإسلام ، وليس مما شرعه لهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من خلفائه ، ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين ، بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا عهد أصحابه ولا تابعيهم بإحسان ، ولا تابعي التابعين ، بل لم يكن أحد من أهل الدين من الأعصار الثلاثة ، لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا بالعراق ولا بخراسان ولا المغرب ، ولا مصر ، يجتمع على مثل هذا السماع ، وإنما ابتدع في الإسلام بعد القرون الثلاثة ، ولهذا قال الشافعي – لما رأى ذلك- : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه ( التغيير ) يصدون به الناس عن القرآن . وسئل عنه أحمد فقال : أكرهه ، هو محدث قيل أتجلس معهم ؟ قال : لا ! وكذلك كرهه سائر أئمة الدين ، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه . فلم يحضره مثل إبراهيم بن أدهم ، ولا الفضيل ابن عياض ، ولا معروف الكرخي ، ولا أبو سليمان الداراني ولا أحمد بن أبي الحواريّ ، ولا السري السقطي ، وأمثالهم . والذين حضروه من الشيوخ من المحمودين تركوه في آخر أمرهم . وأعيان المشايخ عابوا أهله ، كما ذكر ذلك الشيخ عبد القادر ، والشيخ أبو البيان ، وغيرهما من الشيوخ : وما ذكره الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه من إحداث الزنادقة ، من كلام إمام خبير بأصول الإسلام . فإن هذا السماع لم يرغب فيه ، ويدعو إليه في الأصل ، إلا من هو متهم بالزندقة كابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم .

/ ثم قال رحمه الله : نعم ! قد حضره أقوام من أهل الإرادة والمحبة ، وممن له نصيب في المحبة ، لما فيه من التحريك لهم ، ولم يعلموا غائلته ، ولا عرفوا مغبته . كما دخل قوم من الفقهاء في أنواع من كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام ظنا منهم أنه حق موافق ، ولم يعلموا غائلته . ولا عرفوا مغبته فإن القيام بحقائق الدين علما وقولا وعملا وذوقا وخبرة لا يستقل به أكثر الناس ، ولكن الدليل الجامع هو الاعتصام بالكتاب والسنة .

ثم قال رحمه الله : ومن كان له خبرة بحقائق الدين ، وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلب منفعة ولا مصلحة ، إلا وفي ضمن ذلك من المفسدة ما هو أعظم منه . فهو للروح ، كالخمر للجسد ، يفعل في النفوس ، أعظم ما تفعله حميَّا الكؤوس .

ثم قال : وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به ، ولا شيئا يبعد عن النار ، إلا وقد حدث به ، وإن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله ورسوله ، فإن الله يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم . . . } {[4366]} الآٍية . وإذا وجد السامع به منفعة لقلبه ، ولم يجد شاهد ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله ، لم يلتفت إليه . كما أن الفقيه إذا رأى قياسا لا يشهد له الكتاب والسنة ، لم يلتفت إليه انتهى .

وقد سلف لناشئ من هذا البحث عند قوله تعالى : { فاذكروني أذكركم } {[4367]} فليراجع .


[4365]:يشير إلى الحديث الشريف الذي رواه البخاري في 10- كتاب الأذان 48 باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول، فتأخر الآخر أو لم يتأخر جازت صلاته والحديث رقم 429 عن سهل بن سعد الساعدي وهو حديث طويل، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم "من رابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء".
[4366]:5 / المائدة / 3.
[4367]:انظر الصفحة رقم 310 من الجزء الثاني من هذا التفسير حسب نرقيم الطبعة القديمة.