مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمۡ عِندَ ٱلۡبَيۡتِ إِلَّا مُكَآءٗ وَتَصۡدِيَةٗۚ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (35)

قوله تعالى : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون }

اعلم أنه تعالى لما قال في حق الكفار أنهم ما كانوا أولياء البيت ، وهو أن صلاتهم عند البيت وتقربهم وعبادتهم إنما كان بالمكاء والتصدية . قال صاحب «الكشاف » : المكاء فعال بوزن النغاء والرغاء من مكا يمكوا إذا صفر ، والمكاء الصفير . ومنه المكاء وهو طائر يألف الريف ، وجمعه المكاكي سمى بذلك لكثرة مكانه . وأما التصدية فهي التصفيق . يقال : صدى يصدي تصدية إذا صفق بيديه ، وفي أصلها قولان : الأول : أنها من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من جبل . الثاني : قال أبو عبيدة : أصلها تصددة ، فأبدلت الياء من الدال . ومنه قوله تعالى : { إذا قومك منه يصدون } أي يعجزون ، وأنكر بعضهم هذا الكلام ، والأزهري صحح قول أبي عبيدة . وقال : صدى أصله صدى ، فكثرت الدالات الدالة فقلبت إحداهن ياء .

إذا عرفت هذا فنقول : قال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون وقال مجاهد : كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزئون به ويصفرون ويخلطون عليه طوافه وصلاته ، وقال مقاتل : كان إذا صلى الرسول في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفير والتصفيق ليخلطوا عليه صلاته . فعلى قول ابن عباس : كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم ، وعلى قول مجاهد ومقاتل ، كان إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم . والأول أقرب لقوله تعالى : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } .

فإن قيل : المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف يجوز استثناؤهما عن الصلاة ؟

قلنا : فيه وجوه : الأول : أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة ، فخرج هذا الاستثناء على حسب معتقدهم . الثاني : أن هذا كقولك وددت الأمير فجعل جفائي صلتي . أي أقام الجفاء مقام الصلة فكذا ههنا . الثالث : الغرض منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له ، كما تقول العرب ، ما لفلان عيب إلا السخاء . يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له .

ثم قال تعالى : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } أي عذاب السيف يوم بدر ، وقيل : يقال لهم في الآخرة : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } .