الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمۡ عِندَ ٱلۡبَيۡتِ إِلَّا مُكَآءٗ وَتَصۡدِيَةٗۚ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (35)

قوله : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } إلى قوله : { يحشرون }[ 35-36 ] .

روي عن أبي{[27370]} بكر عن عاصم{[27371]} :

{ وما كان صلاتهم } بالنصب ، { إلا مكاء وتصدية } بالرفع{[27372]} ، مثل قول الشاعر{[27373]} :

يكون مزاجها عسل وماء{[27374]} .

ومعنى الآية : وما كان يا محمد ، صلاة هؤلاء المشركين عند البيت الحرام { إلا مكاء } ، أي : تصفيرا{[27375]} ، { وتصدية } أي : تصفيقا .

يقال : مكا{[27376]} يَمكو مكواً ومكاء ، إذا صفر{[27377]} .

وصدَّى يُصدي تصدية ، إذا صفق{[27378]} .

وقال ابن زيد ، وابن جبير : ( التصدية ) : صدهم عن سبيل الله{[27379]} .

وهذا إنما يجوز على أن تقدر أن " الياء " {[27380]} بدل من " دال " ، مثل : تظنيت في تظننت{[27381]} .

وحكى النحاس : أنه يجوز أن يكون معناه : الضجيج والصياح ، من قولهم : " صدّ يصد " {[27382]} إذا ضج{[27383]} .

وتبدل من إحدى " الدالين " " ياء " أيضا كالأول ، وأصله : " تصددة " {[27384]} في القولين جميعا ، ثم أبدلت من " الدال الثانية " " ياء " {[27385]} .

قال ابن عباس : كانت قريش تطوف حول البيت عراة يُصفرون ويصفقون ، فأنزل الله عز وجل { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده }{[27386]} ، فأُمِروا بلبس الثياب{[27387]} .

وقال مجاهد " المُكاء " : إدخالهم أصابعهم في أفواههم ينفخون ، و " التصدية " : الصفير ، يريدون أن يشغلوا بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم عن الصلاة{[27388]} .

وقال قتادة " المُكاء " : الصفير بالأيدي ، و " التصدية " : صياح كانوا يعارضون به القرآن{[27389]} .

وقال السدي " المكاء " : صفير على لحن{[27390]} طير أبيض يقال له : " المكَّاء " ، يكون بأرض الحجاز{[27391]} .

وقوله : { فذوقوا العذاب }[ 35 ] .

هو العذاب بالسيف الذي نزل بهم يوم بدر{[27392]} .

وهذا ذوق بالحس يصل ألمه إلى القلب كما يصل الذوق في مرارته وطيبه إلى القلب فسمي ذوقا لذلك{[27393]} .


[27370]:هو: أبو بكر بن عياش، الأسدي الكوفي الإمام، راوي عاصم قال: "تعلمت من عاصم القرآن كما يتعلم الصبي من المعلم، فلقي مني شدة" وقال: "تعلمت من عاصم خمسا خمسا...،واختلفت إليه نحوا من ثلاث سنين، وفي الحر والشتاء والأمطار". معرفة القراء الكبار 1/134.
[27371]:هو: عاصم بن أبي النجود، بفتح النون وضم الجيم، الأسدي الكوفي الإمام، أحد السبعة. وفي "ر": وعاصم.
[27372]:كتاب السبعة في القراءات 305، وعزاها إلى الأعمش في مشكل إعراب القرآن 1/315. وفيه: "وهذا لا يجوز إلا في شعر عند الضرورة؛ لأن اسم كان هو المعرفة وخبرها هو النكرة، في أصول الكلام والنظر والمعنى". انظر: إعراب القرآن للنحاس 2/186، والمختصر في شواذ القرآن 54، والمحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات 1/278، والمحرر الوجيز 2/523، والبحر المحيط 4/486، والدر المصون 3/417. قال ابن جني، المصدر السابق، في توجيه القراءة: "لسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح، فإنما جاءت منه أبيات شاذة، وهو في ضرورة الشعر أعذر، والوجه اختيار الأفصح الأعرب، ولكن من وراء ذلك ما أذكره. اعلم أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، ألا ترى أنك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه معنى قولك: خرجت فإذا الأسد بالباب، لا فرق بينهما؟ وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدا واحدا معينا، وإنما تريد: خرجت فإذا بالباب واحد من هذا الجنس، وإذا كان كذلك جاز هنا الرفع في {مكاء وتصدية}، جوازا قريبا، حتى كأنه قال: وما كان صلاتهم عند البيت إلا المكاء والتصدية، أي: إلا هذا الجنس من الفعل....".
[27373]:حسان بن ثابت، ديوانه 56.
[27374]:وصدره: كأن سبية من بيت رأس وفي المصباح/سبئ:"....ويقال في الخمر خاصة، سبأتها بالهمز: إذا جلبتها من أرض إلى أرض، فهي: سبيئة". والبيت من شواهد الكتاب 1/49، والجمل للزجاجي 46، والحجة لابن خالويه 171، وفيها: "فالوجه في العربية: إذا اجتمع في اسم كان وخبرها معرفة ونكرة، أن ترفع المعرفة، وتنصب النكرة؛ لأن المعرفة أولى بالاسم، والنكرة أولى بالفعل. والوجه الآخر: يجوز في العربية اتساعا على بُعد أو لضرورة شاعر"، والمحتسب 1/279، وفيه: "...إنما جاز ذلك من حيث كان عسل وماء هما جنسين، فكأنه قال: يكون مَزَاجها العسل والماء، فبهذا تسهل هذه القراءة"، والمحرر الوجيز 2/523، والدر المصون 3/417. وهو غير منسوب في إعراب القرآن للنحاس 2/186، والبحر المحيط 4/486، ومغني اللبيب 591، وهمع الهوامع 2/96، وينظر: معجم شواهد العربية 1/20.
[27375]:في الأصل: أي: تصفير.
[27376]:في الأصل: مكاء، وهو تحريف، وبابه: عدا. المختار/مكا.
[27377]:جامع البيان /، باختصار. وفيه "وقد قيل: إن "المكو" أن يجمع الرجل يديه، ثم يدخلها في فيه، ثم يصيح". انظر: إصلاح المنطق ، والسان / مكا. وقال في مشكل إعراب القرآن 1/314،: "والمكاء: الصفير، وهو مصدر كالدعاء، والهمزة بدل من واو، لقولهم: مكا يمكو: إذا نفخ".
[27378]:جامع البيان 13/522، وهو قول الأزهري في اللسان / صدد.
[27379]:جامع البيان 13/527، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1697، وتفسير الماوردي 2/315، وزاد المسير 3/353، وتفسير ابن كثير 2/307.
[27380]:في المخطوطتين: أن الباء، وهو تصحيف.
[27381]:هذا توجيه الطبري، كما في جامع البيان 13/527، وقبل: "وقد قيل في "التصدية": إنها "الصد عن بيت الله الحرام". وذلك قول لا وجه له؛ لأن "التصدية" مصدر من قول القائل: "صدّيت تصدية". وأما "الصد" فلا يقال منه: "صدَّيت"، إنما يقال منه: "صددت، فإن شددت منها "الدال" على معنى تكرير الفعل قيل: "صدَّدت تصديدا". انظر: إصلاح المنطق 302.
[27382]:صد يصُدُّ ويصِدُّ، بالضم والكسر، صديدا، ضج. المختار / صدد.
[27383]:إعراب القرآن 2/187، بزيادة في لفظه، وأورده المؤلف في مشكل إعراب القرآن 1/314، بلفظ النحاس.
[27384]:في "ر": تصدة، وهو تحريف. قال في مشكل إعراب القرآن 1/314:..."وأصله: تصددة، فأبدلوا من إحدى الدالين ياء". وهو في تفسير البغوي 3/355، وفتح القدير 2/349، وتفسير القرطبي 7/254، وانظر: المحرر الوجيز 2/
[27385]:انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال في القرآن الكريم 159.
[27386]:الأعراف: آية 30.
[27387]:جامع البيان 13/524. والدر المنثور 4/61.
[27388]:التفسير 354، وجامع البيان13/525، والدر المنثور 4/62، بتصرف يسير.
[27389]:جامع البيان 13/526، وفيه: "المكاء": التصفيق بالأيدي. وفي رواية "المكاء": التصفير، من غير كلمة "الأيدي". وضعفه ابن عطية في المحرر الوجيز 2/524.
[27390]:في الأصل: نحم بالميم، وهو تحريف. وأثبت ما في ر. وهو رواية القرطبي في تفسيره 7/254. وفي المصادر أسفله: نحو.
[27391]:جامع البيان 13/526، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1695، والدر المنثور 4/62. وفي اللسان / مكا، "والمكاء، بالضم والتشديد: طائر في ضرب القنبرة إلا أن في جناحيه بلقا، سمي بذلك لأنه يجمع يديه ثم يصفر فيهما صفيرا حسنا". والجمع: المكاكئ، المختار /مكا. قال ابن عطية في المحرر الوجيز 2/523،، "ومن هذا قيل للطائر: "المُكاء" لأنه يمكو، أي: يصفر في تغريده، ووزنه: "فُعال" بشد العين، كـ"خطاف، والأصوات في الأكثر تجيء على "فُعال"، بتخفيف العين، كالبكاء، والصراخ، والدعاء، والجؤار، والنباح، ونحوه". وفي الآية رد على جهلة الصوفية الذين يرقصون ويصفقون ويصعقون، كما في تفسير القرطبي 7/254.
[27392]:وهو تفسير ابن إسحاق، وابن جريج، والضحاك، في جامع البيان 13/528، وينظر: المحرر الوجيز 2/525.
[27393]:انظر: جامع البيان 13/528، وفي مجاز القرآن 1/246، "مجازه، فجربوا، وليس من ذوق الفم". قال الشوكاني في فتح القدير 2/349، "هذا التفات إلى مخاطبة الكفار تهديدا لهم ومبالغة في إدخال الروعة في قلوبهم".