{ ثم ارجع البصر كرتين } قال ابن عباس : مرة بعد مرة ، { ينقلب } ينصرف ويرجع ، { إليك البصر خاسئاً } صاغراً ذليلاً مبعداً لم ير ما يهوى ، { وهو حسير } كليل منقطع لم يدرك ما طلب . وروي عن كعب أنه قال : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية من درة بيضاء ، والثالثة حديد ، والرابعة صفراء ، وقال : نحاس ، والخامسة فضة ، والسادسة ذهب ، والسابعة ياقوتة حمراء ، ومن السماء السابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور .
( ثم ارجع البصر كرتين )فربما فاتك شيء في النظرة السابقة لم تتبينه ، فأعد النظر ثم أعده ( ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ) . .
وأسلوب التحدي من شأنه أن يثير الاهتمام والجد في النظر إلى السماوات وإلى خلق الله كله . وهذه النظرة الحادة الفاحصة المتأملة المتدبرة هي التي يريد القرآن أن يثيرها وأن يبعثها . فبلادة الألفة تذهب بروعة النظرة إلى هذا الكون الرائع العجيب الجميل الدقيق ، الذي لا تشبع العين من تملي جماله وروعته ، ولا يشبع القلب من تلقي إيحاءاته وأيماءاته ؛ ولا يشبع العقل من تدبر نظامه ودقته . والذي يعيش منه من يتأمله بهذه العين في مهرجان إلهي باهر رائع ، لا تخلق بدائعه ، لأنها أبدا متجددة للعين والقلب والعقل .
والذي يعرف شيئا عن طبيعة هذا الكون ونظامه - كما كشف العلم الحديث عن جوانب منها - يدركه الدهش والذهول . ولكن روعة الكون لا تحتاج إلى هذا العلم . فمن نعمة الله على البشر أن أودعهم القدرة على التجاوب مع هذا الكون بمجرد النظر والتأمل ؛ فالقلب يتلقى إيقاعات هذا الكون الهائل الجميل تلقيا مباشرا حين يتفتح ويستشرف . ثم يتجاوب مع هذه الإيقاعات تجاوب الحي مع الحي ؛ قبل أن يعلم بفكره وبأرصاده شيئا عن هذا الخلق الهائل العجيب .
ومن ثم يكل القرآن الناس إلى النظر في هذا الكون ، وإلى تملي مشاهده وعجائبه . ذلك أن القرآن يخاطب الناس جميعا ، وفي كل عصر . يخاطب ساكن الغابة وساكن الصحراء ، كما يخاطب ساكن المدينة ورائد البحار . وهو يخاطب الأمي الذي لم يقرأ ولم يخط حرفا ، كما يخاطب العالم الفلكي والعالم الطبيعي والعالم النظري سواء . وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يصله بهذا الكون ، وما يثير في قلبه التأمل والاستجابة والمتاع .
وقوله : { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } قال : مرتين . { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا } قال ابن عباس : ذليلا ؟ وقال مجاهد ، وقتادة : صاغرًا .
{ وَهُوَ حَسِيرٌ } قال ابن عباس : يعني : وهو كليل . وقال مجاهد ، وقتادة ، والسدي : الحسير : المنقطع من الإعياء .
ومعنى الآية : إنك لو كررت البصر ، مهما كررت ، لانقلب إليك ، أي : لرجع إليك البصر ، { خَاسِئًا } عن أن يرى عيبًا أو خللا { وَهُوَ حَسِيرٌ } أي : كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر ، ولا يرى نقصًا .
وقوله : ثُمّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْنِ ، يقول جلّ ثناؤه : ثم ردّ البصر يا ابن آدم كرّتين ، مرّة بعد أخرى ، فانظر هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ أو تفاوت ، يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئا يقول : يرجع إليك بصرك صاغرا مُبْعَدا من قولهم للكلب : اخسأ ، إذا طردوه أي ابعد صاغرا وَهُوَ حَسِيرٌ يقول : وهو مُعْيٍ كالّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ثُمّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْن يقول : هل ترى في السماء من خَللِ يَنْقَلِبْ إليكَ البَصَرُ خاسِئا وَهُوَ حَسِيرٌ بسواد الليل .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله خاسئا وَهُوَ حَسِيرٌ يقول : ذليلاً . . وقوله : وَهُوَ حَسِيرٌ يقول : مرجف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئا أي حاسرا وَهُوَ حَسيرٌ أي مُعْيٍ .
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله خاسِئا قال : صاغرا ، وَهُوَ حَسِيرٌ يقول : مُعْيٍ لم ير خَلَلاً ولا تفاوتا .
وقال بعضهم : الخاسىء والحسير واحد . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ . . . الاَية ، قال : الخاسىء ، والخاسر واحد ، حَسَر طرفُه أن يَرى فيها فَطْرًا ، فرجع وهو حسير قبل أن يرى فيها فَطْرا ، قال : فإذا جاء يوم القيامة انفطرت ثم انشقت ، ثم جاء أمر أكبر من ذلك انكشطت .
وقال منذر بن سعيد : أمر الله تعالى بالنظر إلى السماء وخلقها ثم أمر بالتكرير في النظر ، وكذلك جميع المخلوقات متى نظرها ناظر ، ليرى فيها خللاً أو نقصاً ، فإن بصره ينقلب { خاسئاً } حسيراً ، ورجع البصر ترديده في الشيء المبصر .
وقوله : { كرتين } معناه مرتين ، ونصبه على المصدر ، والخاسئ المبعد بذل عن شيء أراده وحرص عليه ، ومنه الكلب الخاسئ ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد : «اخسأ فلن تعد وقدرك »{[11204]} ، ومنه قوله تعالى للكفار الحريصين على الخروج من جهنم : { اخسؤوا فيها }{[11205]} [ المؤمنون : 108 ] ، وكذلك هنا البصر يحرص على رؤية فطور أو تفاوت فلا يجد ذلك ، فينقلب { خاسئاً } ، والحسير العييّ الكالّ ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
لهن الوجا لم كن عوناً على النوى*** ولا زال منها طالح وحسير{[11206]}