ثم قال متعجبا لهم{[265]} { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } فإنهم -لو كانوا مؤمنين عاملين بما يقتضيه الإيمان ويوجبه- لم يصدفوا عن حكم الله الذي في التوراة التي بين أيديهم ، لعلهم أن يجدوا عندك ما يوافق أهواءهم .
وحين حكمت بينهم بحكم الله الموافق لما عندهم أيضا ، لم يرضوا بذلك بل أعرضوا عنه ، فلم يرتضوه أيضا .
قال تعالى : { وَمَا أُولَئِكَ } الذين هذا صنيعهم { بِالْمُؤْمِنِينَ } أي : ليس هذا دأب المؤمنين ، وليسوا حريين بالإيمان . لأنهم جعلوا آلهتهم أهواءهم ، وجعلوا أحكام الإيمان تابعة لأهوائهم .
وقد عقب السياق بسؤال استنكاري على موقف يهود - سواء كان في هذه القضية أو تلك فهو موقف عام منهم وتصرف مطرد - فقال :
( وكيف يحكمونك - وعندهم التوراة فيها حكم الله - ثم يتولون من بعد ذلك ) ؟ . .
فهي كبيرة مستنكرة أن يحكموا رسول الله [ ص ] فيحكم بشريعة الله وحكم الله ، وعندهم - إلى جانب هذا - التوراة فيها شريعة الله وحكمه ؛ فيتطابق حكم رسول الله [ ص ] وما عندهم في التوراة ؛ مما جاء القرآن مصدقا له ومهيمنا عليه . . ثم من بعد ذلك يتولون ويعرضون . سواء كان التولي بعدم التزام الحكم ؛ أو بعدم الرضى به . .
ولا يكتفي السياق بالاستنكار . ولكنه يقرر الحكم الإسلامي في مثل هذا الموقف :
فما يمكن أن يجتمع الإيمان ، وعدم تحكيم شريعة الله ، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة . والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم " مؤمنون " ثم هم لا يحكمون شريعة الله في حياتهم ، أو لا يرضون حكمها إذا طبق عليهم . . إنما يزعمون دعوى كاذبة ؛ وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع : ( وما أولئك بالمؤمنين ) . فليس الأمر في هذا هو أمر عدم تحكيم شريعة الله من الحكام فحسب ؛ بل إنه كذلك عدم الرضى بحكم الله من المحكومين ، يخرجهم من دائرة الإيمان ، مهما ادعوه باللسان .
وهذا النص هنا يطابق النص الآخر ، في سورة النساء : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ، ويسلموا تسليمًا ) . . فكلاهما يتعلق بالمحكومين لا بالحكام . وكلاهما يخرج من الإيمان ، وينفي صفة الإيمان عمن لا يرضى بحكم الله ورسوله ، ومن يتولى عنه ويرفض قبوله .
ومرد الأمر كما قلنا في مطلع الحديث عن هذا الدرس . . أن القضية هي قضية الإقرار بألوهية الله - وحده - وربوبيته وقوامته على البشر . أو رفض هذا الإقرار . وأن قبول شريعة الله والرضى بحكمها هو مظهر الإقرار بألوهيته وربوبيته وقوامته ؛ ورفضها والتولي عنها هو مظهر رفض هذا الإقرار .
ثم قال تعالى - منكرًا عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم{[9864]} الزائغة ، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدًا ، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره ، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم - فقال : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }
{ وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمّ يَتَوَلّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُوْلََئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } . .
يعني تعالى ذكره : وكيف يحكمك هؤلاء اليهود يا محمد بينهم ، فيرضون بك حكما بينهم ، وعندهم التوراة التي أنزلتها على موسى ، التي يقرّون بها أنها حقّ وأنها كتابي الذي أنزلته على نبي ، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي ، يعلمون ذلك لا يتناكرونه ولا يتدافعونه ، ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم ، وهم مع عملهم بذلك يَتَولّوْنَ يقول : يتركون الحكم به بعد اعلم بحكمي فيه جراءة عليّ وعصيانا لي . وهذا وإن كان من الله تعالى ذكره خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فإنه تقريع منه لليهود الذين نزلت فيهم هذه الاَية ، يقول لهم تعالى : كيف تقرّون أيها اليهود بحكم نبي محمد صلى الله عليه وسلم مع جحود نبوّته وتكذيبكم إياه ، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرّون به أنه حقّ عليكم واجب جاءكم به موسى من عند الله ؟ يقول : فإذا كنتم تتركون حكمي ليس مَن فعل هذا الفعل : أي من تولى عن حكم الله الذي حكم به في كتابه الذي أنزله على نبيه في خلقه بالذي صدّق الله ورسوله فأقرّ بتوحيده ونبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم لأن ذلك ليس من فعل أهل الإيمان . وأصل التولي عن الشيء : الانصراف عنه كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير : ثُمّ يَتَوَلّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ قال : توليهم ما تركوا من كتاب الله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيها حُكْمُ اللّهِ يعني : حدود الله ، فأخبر الله بحكمه في التوراة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَعِنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيها حُكْمُ اللّهِ : أي بيان الله ما تشاجروا فيه من شأن قتيلهم ، ثمّ يَتَوَلّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الاَية .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال يعني الربّ تعالى ذكره يعيرهم : وكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التّوْرَاةَ فِيها حُكمُ اللّهِ يقول الرجم .
{ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله } تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به ، والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم ، وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع ، وإنما طلبوا به ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم الله تعالى في زعمهم ، و{ فيها حكم الله } حال من التوراة إن رفعتها بالظرف ، وإن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه وتأنيثها لكونها نظيرة المؤنث في كلامهم لفظا كموماة ودوداة . { ثم يتولون من بعد ذلك } ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد التحكيم ، وهو عطف على يحكمونك داخل في حكم التعجيب . { وما أولئك بالمؤمنين } بكتابهم لإعراضهم عنه أولا وعما يوافقه ثانيا ، أو بك وبه .
هذه الجملة عطف على جملة { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعْرض عنهم } [ المائدة : 42 ] . والاستفهام للتعجيب ، ومحلّ العجب مضمون قوله : { ثمّ يتولّون من بعد ذلك } ، أي من العجيب أنّهم يتركون كتابهم ويحكّمونك وهم غير مؤمنين بك ثُمّ يتولّون بعد حكمك إذا لم يرضهم . فالإشارة بقوله : { من بعد ذلك } إلى الحكم المستفاد من { يُحكّمونك } ، أيّ جمعوا عدم الرضى بشرعهم وبحكمك . وهذه غاية التّعنّت المستوجبة للعجب في كلتا الحالتين ، كما وصف الله حال المنافقين في قوله : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين } [ النور : 48 ، 49 ] . ويحتمل أنّ الاستفهام إنكاري ، أي هم لا يحكّمونك حقّاً . ومحلّ الإنكار هو أصل ما يدلّ عليه الفعل من كون فاعله جادّاً ، أي لا يكون تحكيمهم صَادقاً بل هو تحكيم صوري يبتغون به ما يوافق أهواءهم ، لأنّ لديهم التّوراة فيها حكم مَا حَكَّموك فيه ، وهو حكم الله ، وقد نبذوها لعدم موافقتها أهواءهم ، ولذلك قدّروا نبذ حكومتك إن لم توافق هواهم ، فما هم بمحكِّمين حقيقة . فيكون فعل { يحكّمونك } مستعملاً في التظاهر بمعنى الفعل دون وقوعه ، كقوله تعالى : { يحْذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا } [ التوبة : 64 ] الآية . ويجوز على هذا أن تكون الإشارة بقوله : { من بعد ذلك } إلى مجموع ما ذكر ، وهو التّحكيم ، وكون التّوراة عندهم ، أي يتولّون عن حكمك في حال ظهور الحجّة الواضحة ، وهي موافقة حكومتك لحكم التّوراة .
وجملة { وما أولئك بالمؤمنين } في موضع الحال من ضمير الرفع في { يحكّمونك } . ونفي الإيمان عنهم مع حذف متعلّقه للإشارة إلى أنّهم ما آمنوا بالتّوراة ولا بالإسلام فكيف يكون تحكيمهم صادقاً .
وضمير { فيها } عائد إلى التّوراة ، فتأنيثه مراعاة لاسم التّوراة وإن كان مسمّاها كتاباً ولكن لأنّ صيغة فعلاة معروفة في الأسماء المؤنّثة مثل مَومَاة . وتقدّم وجه تسمية كتابهم توراة عند قوله تعالى : { وأنزل التّوراة والإنجيل } في سورة آل عمران ( 3 ) .