الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَكَيۡفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوۡرَىٰةُ فِيهَا حُكۡمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوۡنَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَۚ وَمَآ أُوْلَـٰٓئِكَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (43)

{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } تعجّب وفيه اختصار إلى وكيف يجعلونك حاكماً ويرضون بمحمد { وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } وهو الرجم فلا يرضون بذلك .

{ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلِكَ } إلى قوله { لِلَّذِينَ هَادُواْ } فإن قيل : وهل فينا غير مسلم ؟ فالجواب أن هؤلاء نبيوا الإسلام لا على أن غيرهم من النبيين لم يتولوا المسلمين وهذا كقوله

{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ } [ الفتح : 29 ]

{ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } [ الأعراف : 158 ] لا يريد أن غيره من الأنبياء لم يؤمنوا باللّه وكلماته . وقيل : لم يرد به الإسلام الذي هو ضد الكفر . إنما المراد به الذين انقادوا لحكم اللّه فلم يكتموه كما كتم هؤلاء ، يعرّض بأهل الكتاب .

وهذا كقوله

{ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ آل عمران : 83 ] .

وقال يزيد بن عمرو بن نفيل : أسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالاً ، وأسلمت وجهي لمن أسلمت له العيون تحمل عذباً زلالاً . وقيل : معناه الذين أسلموا أنفسهم إلى اللّه . كما روي " إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أوى إلى فراشه : " أسلمت نفسي إليك " .

وقيل : معناه : يحكم بها النبيون الذين أسلموا بما في التوراة من الشرائع ولم يعمل به كمثل عيسى ( عليه السلام ) وهو قوله تعالى { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] وهو معنى قول ابن حيّان يحكم بما في التوراة من لدن موسى إلى عيسى عليهما السلام .

وقال الحسن والسدّي أراد محمداً صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كما قال تعالى

{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] وقال : أم تحسدون الناس في الحياة { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ } يعني العلماء وهم ولد هارون ( عليه السلام ) وأحدهم محبر وحبر وهو العالم المحكم للشيء ومنه الكعب بن قانع كعب الأحبار وكعب الحبر .

قال الفرّاء : أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار بكسر الحاء واختلفوا في اشتقاق هذا الإسم .

فقال الكسائي وأبو عبيدة : هو من الحبر الذي يكتب به . وقال النضر بن شميل : سألت الخليل عنه ، فقال : هو من الحبار وهو الأثر الحسن . فأنشد :

لا تملأ الدلو وعرق فيها *** ألا ترى حبّار من يسقيها

قال قطرب : هو من الحبر وهو الجمال والهيئة يدل عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره " [ أي جماله وبهاؤه ] .

" وقال العباس لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم يا ابن أخ فيم الجمال ؟ قال : " في اللسان " .

وقال مصعب بن الزبير لإبنه : يا بني تعلم العلم فإن كان لك مال كان جمالاً وإن لم يكن عندك علم كان لك مالاً ، { بِمَا اسْتُحْفِظُواْ } استودعوا من كتاب اللّه { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } إنه كذلك { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } إلى قوله { الْكَافِرُونَ } واختلف العلماء في معنى الآية وحكمها .

فقال الضحّاك وأبو إسحاق وأبو صالح وقتادة : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود وليس في أهل الإسلام منها شيء فأما هذه الأمّة فمن أساء منهم وهو يعلم إنه قد أساء وليس بدين .

يدلّ على صحة هذا التأويل . ما روى الأعمش عن عبد اللّه بن مرّة عن البرّاء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } والظالمون والفاسقون . قال : كلها في الكافرين .

وقال النخعي والحسن : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضىً لهذه الآية بها فهي على الناس كلّهم واجبة .

عن ابن عباس وطاووس ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعل ذلك وهو به كفر ، وليس كمن يكفر باللّه واليوم [ الآخر ] .

عطاء : هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق .

عكرمة : معناه ومن لم يحكم بما أنزل اللّه جاحداً به فقد كفر . ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق . وهذه رواية الوالبي عن ابن عباس قال : وسمعت أبا القاسم الحبيبي ، قال : سمعت أبا زكريا العنبري ، يحكي عن عبد العزيز بن يحيى الكناني إنه سأل عن هذه الآيات ، قال : إنها تقع على جميع ما أنزل اللّه لا على بعضه فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل اللّه فهو كافر ظالم فاسق .

فأما من يحكم ببعض ما أنزل اللّه من التوحيد [ وترك ] الشرك ثم لم يحكم بهما [ فبين ] ما أنزل اللّه من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات .

قالت الحكماء : هذا إذا ردّ بنص حكم اللّه عياناً عمداً ، فأما من جهله أو أخفي عليه أو أخطأ في تأويل ابتدعه أو دليل اتّجه له فلا ، وأجراها بعضهم على الظاهر .

وقال ابن مسعود ، والسدّي : من ارتشى في الحكم وحكم فيه بغير حكم الله فهو كافر