{ وأنا كنا نقعد منها } من السماء ، { مقاعد للسمع } أي : كنا نستمع ، { فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } أرصد له ليرمى به . قال ابن قتيبة : إن الرجم كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يكن مثل ما كان بعد مبعثه في شدة الحراسة ، وكانوا يسترقون السمع في بعض الأحوال ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا من ذلك أصلاً .
{ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْع } فنتلقف من أخبار السماء ما شاء الله . { فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } أي : مرصدا له ، معدا لإتلافه وإحراقه ، أي : وهذا له شأن عظيم ، ونبأ جسيم ، وجزموا أن الله تعالى أراد أن يحدث في الأرض حادثا كبيرا ، من خير أو شر ، فلهذا قالوا :
ويمضي الجن في حكاية ما لقوه وما عرفوه من شأن هذه الرسالة في جنبات الكون ، وفي أرجاء الوجود ، وفي أحوال السماء والأرض ، لينفضوا أيديهم من كل محاولة لا تتفق مع إرادة الله بهذه الرسالة ، ومن كل إدعاء بمعرفة الغيب ، ومن كل قدرة على شيء من هذا الأمر :
( وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا . وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا . وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ? ) . .
وهذه الوقائع التي حكاها القرآن عن الجن من قولهم ، توحي بأنهم قبل هذه الرسالة الأخيرة - ربما في الفترة بينها وبين الرسالة التي قبلها وهي رسالة عيسى عليه السلام - كانوا يحاولون الإتصال بالملأ الأعلى ، واستراق شيء مما يدور فيه ، بين الملائكة ، عن شؤون الخلائق في الأرض ، مما يكلفون قضاءه تنفيذا لمشيئة الله وقدره . ثم يوحون بما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرافين ، ليقوم هؤلاء بفتنة الناس وفق خطة إبليس ! على أيدي هؤلاء الكهان والعرافين الذين يستغلون القليل من الحق فيمزجونه بالكثير من الباطل ، ويروجونه بين جماهير الناس في الفترة بين الرسالتين ، وخلو الأرض من رسول . . أما كيفية هذا وصورته فلم يقل لنا عنها شيئا ، ولا ضرورة لتقصيها . إنما هي جملة هذه الحقيقة وفحواها .
وهذا النفر من الجن يقول : إن استراق السمع لم يعد ممكنا ، وإنهم حين حاولوه الآن - وهو ما يعبرون عنه بلمس السماء - وجدوا الطريق إليه محروسا بحرس شديد ، يرجمهم بالشهب ، فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم . ويعلنون أنهم لا يدرون شيئا عن الغيب المقدر للبشر : ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) . . فهذا الغيب موكول لعلم الله لا يعلمه سواه . فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر الله لعباده في الأرض : قدر أن ينزل بهم الشر . فهم متروكون للضلال ، أم قدر لهم الرشد - وهو الهداية - وقد جعلوها مقابلة للشر . فهي الخير ، وعاقبتها هي الخير .
وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب ، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا ، فقد انقطع كل قول ، وبطل كل زعم ، وانتهى أمر الكهانة والعرافة . وتمحض الغيب لله ، لا يجترئ أحد على القول بمعرفته ، ولا على التنبؤ به . وأعلن القرآن تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل ! وأعلن رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير !
أما أين يقف ذلك الحرس ? ومن هو ? وكيف يرجم الشياطين بالشهب ? فهذا كله مما لم يقل لنا عنه القرآن ولا الأثر شيئا ، وليس لنا مصدر سواهما نستقي منه عن هذا الغيب شيئا ؛ ولو علم الله أن في تفصيله خيرا لنا لفعل . وإذ لم يفعل فمحاولتنا نحن في هذا الاتجاه عبث ؛ لا يضيف إلى حياتنا ولا إلى معرفتنا المثمرة شيئا !
ولا مجال كذلك للاعتراض أو الجدل حول الشهب ، وأنها تسير وفق نظام كوني ، قبل البعثة وبعدها ووفق ناموس يحاول علماء الفلك تفسيره ، بنظريات تخطئ وتصيب . وحتى على فرض صحة هذه النظريات فإن هذا لا يدخل في موضوعنا ، ولا يمنع أن ترجم الشياطين بهذه الشهب عند انطلاقها . وأن تنطلق هذه الشهب رجوما وغير رجوم وفق مشيئة الله الذي يجري عليها القانون !
فأما الذين يرون في هذا كله مجرد تمثيل وتصوير لحفظ الله للذكر من الالتباس بأي باطل ؛ وأنه لا يجوز أن يؤخذ على ظاهره . . فسبب هذا عندهم أنهم يجيئون إلى القرآن بتصورات مقررة سابقة في أذهانهم ، أخذوها من مصادر أخرى غير القرآن . ثم يحاولون أن يفسروا القرآن وفق تلك التصورات السابقة المقررة في أذهانهم من قبل . . ومن ثم يرون الملائكة تمثيلا لقوة الخير والطاعة . والشياطين تمثيلا لقوة الشر والمعصية . والرجوم تمثيلا للحفظ والصيانة . . . الخ لأن في مقرراتهم السابقة - قبل أن يواجهوا القرآن - أن هذه المسميات : الملائكة والشياطين أو الجن ، لا يمكن أن يكون لها وجود مجسم على هذا النحو ، وأن تكون لها هذه التحركات الحسية ، والتأثيرات الواقعية ! ! !
من أين جاءوا بهذا ? من أين جاءوا بهذه المقررات التي يحاكمون إليها نصوص القرآن والحديث ?
إن الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره ، وفي التصور الإسلامي وتكوينه . . أن ينفض الإنسان من ذهنه كل تصور سابق ، وأن يواجه القرآن بغير مقررات تصورية أو عقلية أو شعورية سابقة ، وأن يبني مقرراته كلها حسبما يصور القرآن والحديث حقائق هذا الوجود . ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن . ولا ينفي شيئا يثبته القرآن ولا يؤوله ! ولا يثبت شيئا ينفيه القرآن أو يبطله . وما عدا المثبت والمنفي في القرآن ، فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته . .
نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن . . . وهم مع ذلك يؤلون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة فيعقولهم ، وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود . .
فأما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ، ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل إلى شيء منها ، فهم مضحكون حقا ! فالعلم لا يعلم أسرار الموجودات الظاهرة بين يديه ، والتي يستخدمها في تجاربه . وهذا لا ينفي وجودها طبعا ! فضلا على أن العلماء الحقيقيين أخذت كثرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين ، أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون ! لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم - عن طريقة العلم ذاته - أمام مجاهيل فيما بين أيديهم مما كانوا يحسبون أنهم فرغوا من الإحاطة بعلمه ! فتواضعوا تواضعا علميا نبيلا ليست عليه سمة الادعاء ، ولا طابع التطاول على المجهول ، كما يتطاول مدعو العلم ومدعو التفكير العلمي ، ممن ينكرون حقائق الديانات ، وحقائق المجهول !
إن الكون من حولنا حافل بالأسرار ، عامر بالأرواح ، حاشد بالقوى . وهذه السورة من القرآن - كغيرها - تمنحنا جوانب من الحقائق في هذا الوجود ، تعين على بناء تصور حقيقي صحيح للوجود وما فيه من قوى وأرواح وحيوات تعج من حولنا ، وتتفاعل مع حياتنا وذواتنا . وهذا التصور هو الذي يميز المسلم ويقف به وسطا بين الوهم والخرافة ، وبين الادعاء والتطاول . ومصدره هو القرآن والسنة . وإليهما يحاكم المسلم كل تصور آخر وكل قول وكل تفسير . .
وإن هنالك مجالا للعقل البشري معينا في ارتياد آفاق المجهول : والإسلام يدفعه إلى هذا دفعا . . ولكن وراء هذا المجال المعين ما لا قدرة لهذا العقل على ارتياده ، لأنه لا حاجة به إلى ارتياده . وما لا حاجة له به في خلافة الأرض فلا مجال له إليه ، ولا حكمة في إعانته عليه . لأنه ليس من شأنه ، ولا داخلا في حدود اختصاصه . والقدر الضروري له منه ليعلم مركزه في الكون بالقياس إلى ما حوله ومن حوله ، قد تكفل الله سبحانه ببيانه له ، لأنه أكبر من طاقته . وبالقدر الذي يدخل في طاقته . ومنه هذا الغيب الخاص بالملائكة والشياطين والروح والمنشأ والمصير . .
فأما الذين اهتدوا بهدى الله ، فقد وقفوا في هذه الأمور عند القدر الذي كشفه الله لهم في كتبه وعلى لسان رسله . وأفادوا منه الشعور بعظمة الخالق ، وحكمته في الخلق ، والشعور بموقف الإنسان في الأرض من هذه العوالم والأرواح . وشغلوا طاقاتهم العقلية في الكشف والعلم المهيأ للعقل في حدود هذه الأرض وما حولها من أجرام بالقدر الممكن لهم . واستغلوا ما علموه في العمل والإنتاج وعمران هذه الأرض والقيام بالخلافة فيها ، على هدى من الله ، متجهين إليه ، مرتفعين إلى حيث يدعوهم للارتفاع .
وأما الذين لم يهتدوا بهدى الله فانقسموا فرقتين كبيرتين :
فرقة ظلت تجاهد بعقولها المحدودة لإدراك غير المحدود من ذاته تعالى ، والمعرفة الحقيقية المغيبة عن غير طريق الكتب المنزلة . وكان منهم فلاسفة حاولوا تفسير هذا الوجود وارتباطاته ، فظلوا يتعثرون كالأطفال الذين يصعدون جبلا شاهقا لا غاية لقمته ، أو يحاولون حل لغز الوجود وهم لم يتقنوا بعد أبجدية الهجاء ! وكانت لهم تصورات مضحكة - وهم كبار فلاسفة - مضحكة حقا حين يقرنها الإنسان إلى التصور الواضح المستقيم الجميل الذي ينشئه القرآن . مضحكة بعثراتها . ومضحكة بمفارقاتها . ومضحكة بتخلخلها . ومضحكة بقزامتهابالقياس إلى عظمة الوجود الذي يفسرونه بها . . لا أستثني من هذا فلاسفة الإغريق الكبار ، ولا فلاسفة المسلمين الذين قلدوهم في منهج التفكير . ولا فلاسفة العصر الحديث ! وذلك حين يقاس تصورهم إلى التصور الإسلامي للوجود .
فهذه فرقة . فأما الفرقة الأخرى ، فقد يئست من جدوى هذا الاتجاه في المعرفة . فعدلت عنه إلى حصر نفسها وجهدها في العلم التجريبي والتطبيقي . ضاربة صفحا عن المجهول ، الذي ليس إليه من سبيل وغير مهتدية فيه بهدى الله . لأنها لا تستطيع أن تدرك الله ! وهذه الفرقة كانت في أوج غلوائها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . ولكنها أخذت منذ مطلع هذا القرن تفيق من الغرور العلمي الجامح ، على هروب المادة من بين أيديها وتحولها إلى إشعاع " مجهول الكنه " ويكاد يكون مجهول القانون !
وبقي الإسلام ثابتا على صخرة اليقين . يمنح البشر من المجهول القدر الذي لهم فيه خير . ويوفر طاقتهم العقلية للعمل في خلافة الأرض . ويهيء لعقولهم المجال الذي تعمل فيه في أمن . ويهديهم للتي هي أقوم في المجهول وغير المجهول !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رّصَداً * وَأَنّا لاَ نَدْرِيَ أَشَرّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَداً } .
يقول عزّ وجلّ : وإنا كنا معشر الجنّ نقعد من السماء مقاعد لنسمع ما يحدث ، وما يكون فيها ، فَمَنْ يَسْتَمِع الاَنَ فيها منا يَجدْ لَهُ شِهابا رَصَدا يعني : شهاب نار قد رصد له به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وأنّا لَمَسْنا السّماءَ . . . إلى قوله : فَمَنْ يَسْتَمِعِ الاَنَ يَجدْ لَهُ شِهابا رَصَدا كانت الجنّ تسمع سمع السماء فلما بعث الله نبيه ، حُرست السماء ، ومُنعوا ذلك ، فتفقّدت الجنّ ذلك من أنفسها .
وذُكر لنا أن أشراف الجنّ كانوا بنصيبين ، فطلبوا ذلك ، وضربوا له حتى سقطوا على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه عامدا إلى عكاظ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وأنّا لَمَسْنا السّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسا وشُهُبا . . . حتى بلغ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الاَنَ يَجدْ لَهُ شِهابا رَصَدا فلما وجدوا ذلك رجعوا إلى إبليس ، فقالوا : منع منا السمع ، فقال لهم : إن السماء لم تُحرس قطّ إلا على أحد أمرين : إما لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل الأرض بغتة ، وإما نبيّ مرشد مصلح قال : فذلك قول الله : وأنّا لا نَدْرِي أشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْض أمْ أرَاد بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا .
و { مقاعد } جمع مقعد ، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة قعود الجن أنهم كانوا واحداً فوق واحد ، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه ، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها ثم يزيد الكهان بالكلمة مائة كذبة ، وقوله : { فمن يستمع الآن } الآية قطع على أن كل من استمع الآن أحرقه شهاب .
فليس هنا بعد سمع ، إنما الإحراق عند الاستماع ، وهذا يقتضي أن الرجم كان في الجاهلية . ولكنه لم يكن يستأصل وكان الحرس ولكنه لم يكن شديداً ، فلما جاء الإسلام اشتد الأمر حتى لم يكن فيه ولا يسير سماحة ، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد رأى كوكباً راجماً : «ماذا كنتم تقولون لهذا في الجاهلية ؟ » قالوا كنا نقول : ولد ملك ، مات ملك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ليس الأمر كذلك ، » ثم وصف صورة قعود الجن{[11367]} « . وقد قال عوف بن الجزع وهو جاهلي : [ الكامل ]
فانقض كالدري يتبعه*** نقع يثورُ تخاله طنبا{[11368]}
وهذا في أشعارهم كثير ، و { رصداً } نعت لشهاب ووصفه بالمصدر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأنا كنا نقعد منها} يعني من السماء قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم وتحرس السماء.
{مقاعد للسمع فمن يستمع الآن} إلى السماء إذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم. {يجد له شهابا} يعني رميا من الكواكب و {رصدا} من الملائكة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ وجلّ: وإنا كنا معشر الجنّ نقعد من السماء مقاعد لنسمع ما يحدث، وما يكون فيها،
"فَمَنْ يَسْتَمِع الاَنَ" فيها منا.
"يَجدْ لَهُ شِهابا رَصَدا" يعني: شهاب نار قد رصد له به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: الشهاب من الكواكب، والرصد من الملائكة، والأصل في ذلك أن الجن قد حبسوا وقت مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خبر السماء، وكانوا يسترقون السمع قبل ذلك، حتى ينقطع عن الكهنة؛ إذ لا يجوز أن يأتوا بخبر السماء وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يختلط أمر الكهنة بأمره صلى الله عليه وسلم، فحبسوا عن الصعود إلى السماء وإتيان الخبر عنها حتى ينقطع أمر الكهنة، فجاءهم الرسول بعد ذلك ليعلموا أن ذلك ليس بكهانة، وإنما هو وحي ثابت من السماء؛ إذ لو كان كهانة كان غيره لا يمنع عن مثله كما في سالف الأزمان.
(وثانيها): قال الفراء: أي شهابا قد أرصد له ليرجم به.
(وثالثها): يجوز أن يكون رصدا أي راصدا، وذلك لأن الشهاب لما كان معدا له، فكأن الشهاب راصد له ومترصد له.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي الجن في حكاية ما لقوه وما عرفوه من شأن هذه الرسالة في جنبات الكون، وفي أرجاء الوجود، وفي أحوال السماء والأرض، لينفضوا أيديهم من كل محاولة لا تتفق مع إرادة الله بهذه الرسالة، ومن كل ادعاء بمعرفة الغيب، ومن كل قدرة على شيء من هذا الأمر.
وهذا النفر من الجن يقول: إن استراق السمع لم يعد ممكنا، وإنهم حين حاولوه الآن -وهو ما يعبرون عنه بلمس السماء- وجدوا الطريق إليه محروسا بحرس شديد، يرجمهم بالشهب، فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم. ويعلنون أنهم لا يدرون شيئا عن الغيب المقدر للبشر: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا).. فهذا الغيب موكول لعلم الله لا يعلمه سواه. فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر الله لعباده في الأرض: قدر أن ينزل بهم الشر. فهم متروكون للضلال، أم قدر لهم الرشد -وهو الهداية- وقد جعلوها مقابلة للشر. فهي الخير، وعاقبتها هي الخير. وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا، فقد انقطع كل قول، وبطل كل زعم، وانتهى أمر الكهانة والعرافة. وتمحض الغيب لله، لا يجترئ أحد على القول بمعرفته، ولا على التنبؤ به. وأعلن القرآن تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل! وأعلن رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير! وهذا النفر من الجن يقول: إن استراق السمع لم يعد ممكنا، وإنهم حين حاولوه الآن -وهو ما يعبرون عنه بلمس السماء- وجدوا الطريق إليه محروسا بحرس شديد، يرجمهم بالشهب، فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم. ويعلنون أنهم لا يدرون شيئا عن الغيب المقدر للبشر: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا).. فهذا الغيب موكول لعلم الله لا يعلمه سواه. فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر الله لعباده في الأرض: قدر أن ينزل بهم الشر. فهم متروكون للضلال، أم قدر لهم الرشد -وهو الهداية- وقد جعلوها مقابلة للشر. فهي الخير، وعاقبتها هي الخير. وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا، فقد انقطع كل قول، وبطل كل زعم، وانتهى أمر الكهانة والعرافة. وتمحض الغيب لله، لا يجترئ أحد على القول بمعرفته، ولا على التنبؤ به. وأعلن القرآن تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل! وأعلن رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير!