49- ويبعثه رسولا إلى بني إسرائيل ، مستدلا على صدق رسالته بمعجزات من الله ، هي أن يصور لكم من الطين صورة مثل صورة الطير ، ينفخ فيها فتحل فيها الحياة وتتحرك طائراً بإرادة الله ، ويشفي بتقدير الله من وُلِدَ أعمى فيبصر ، ومن به برص فيزول برصه ، ويعيد الحياة إلى من فقدها . كل ذلك بإذن الله وإرادته ، ويخبرهم بما يدَّخرون في بيوتهم من مأكول وغيره ، ويقول لهم : إن هذه الآيات التي أظهرها الله على يديّ حجة على أن رسالتي حق إن كنتم ممن يذعنون له ويصدقون به .
قوله تعالى : { ورسولا } أي ونجعله رسولاً .
قوله تعالى : { إلى بني إسرائيل } . قيل كان رسولاً في حال الصبا ، وقيل : إنما كان رسولاً بعد البلوغ ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف ، وآخرهم عيسى عليهما السلام ، فلما بعث قال :
قوله تعالى : { أني } . قال الكسائي : إنما فتح لأنه أوقع الرسالة عليه ، وقيل : معناه بأني .
قوله تعالى : { قد جئتكم بآية } علامة .
قوله تعالى : { من ربكم } تصدق قولي وإنما قال بآية وقد أتى بآيات لأن الكل دل على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة ، فلما قال ذلك عيسى عليه السلام لبني إسرائيل قالوا : وما هي ؟ قال :
قوله تعالى : { أني } . قرأ نافع بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ الباقون بالفتح على معنى أني .
قوله تعالى : { أخلق } أي أصور وأقدر .
قوله تعالى : { لكم من الطين كهيئة الطير } . قرأ أبو جعفر : كهيئة الطائر ها هنا وفي المائدة ، والهيئة : الصورة المهيأة من قولهم : هيأت الشيء إذا قدرته وأصلحته .
قوله تعالى : { فأنفخ فيه } أي في الطير .
قوله تعالى : { فيكون طيراً بإذن الله } . قراءة الأكثرين بالجمع لأنه خلق طيراً كثيراً ، وقرأ أهل المدينة ويعقوب : فيكون طائراً على الواحد ها هنا ، وفي سورة المائدة ذهبوا إلى نوع واحد من الطير لأنه لم يخلق غير الخفاش ، وإنما خص الخفاش لأنه أكمل الطير خلقاً ، لأن لها ثدياً وأسناناً وهي تحيض .
قال وهب : كان يطير مادام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق ، وليعلم أن الكمال لله عز وجل .
قوله تعالى : { وأبرئ الأكمه والأبرص } أي أشفيهما وأصححهما ، واختلفوا في الأكمه قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة : هو الذي ولد أعمى ، وقال الحسن والسدي : هو الأعمى ، وقال عكرمة : هو الأعمش ، وقال مجاهد ، هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، والأبرص هو الذي به وضح ، وإنما خص هذين لأنهما داءان عياءان ، وكان الغالب في زمن عيسى عليه السلام الطب ، فأراهم المعجزة من جنس ذلك . قال وهب : ربما اجتمع عند عيسى عليه السلام من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً ، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق مشى إليه عيسى عليه السلام ، وكان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان .
قوله تعالى : { وأحيي الموتى بإذن الله } . قال ابن عباس رضي الله عنهما قد أحيا أربعة أنفس ، عازر ، وابن العجوز ، وابنة العاشر ، وسام بن نوح ، فأما عازر فكان صديقاً له ، فأرسلت أخته إلى عيسى عليه السلام أن أخاك عازر يموت ، وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام ، فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام ، فقال لأخته : انطلقي بنا إلى قبره ، فانطلقت معهم إلى قبره ، فدعا الله تعالى فقام عازر وودكه يقطر ، فخرج من قبره وبقي وولد له . وأما ابن العجوز فإنه مر به ميتاً على عيسى عليه السلام على سرير يحمل ، فدعا الله عيسى فجلس على سريره ، ونزل على أعناق الرجال ، ولبس ثيابه ، وحمل السرير على عنقه ، ورجع إلى أهله ، فبقي وولد له . وأما ابنة العاشر : فكان والدها رجلاً يأخذ العشور ، ماتت له بنت بالأمس فدعا الله عز وجل فأحياها ، وبقيت وولدت ، وأما سام بن نوح عليه السلام ، فإن عيسى عليه السلام جاء إلى قبره فدعا باسم الله الأعظم ، فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفاً من قيام الساعة ، ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان ، فقال : قد قامت القيامة ؟ قال لا ، ولكن دعوتك باسم الله الأعظم ، ثم قال له : مت قال : بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل .
قوله تعالى : { وأنبئكم } أخبركم .
قوله تعالى : { بما تأكلون } مما لم أعاينه .
قوله تعالى : { وما تدخرون } ترفعونه .
قوله تعالى : { في بيوتكم } حتى تأكلوه ، وقيل : كان يخبر الرجل بما أكل البارحة ، وبما يأكل اليوم ، وبما ادخره للعشاء . وقال السدي : كان عيسى عليه السلام في الكتاب يحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم ويقول : للغلام : انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ، ورفعوا لك كذا وكذا ، فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون من أخبرك بهذا ؟ فيقول : عيسى عليه السلام ، فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فجمعوهم في بيت ، فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم ، فقالوا : ليسوا هاهنا ، فقال : فما في هذا البيت ؟ قالوا : خنازير ، قال عيسى ، كذلك يكونون ، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير ، ففشا ذلك في بني إسرائيل ، فهمت به بنو إسرائيل فلما خافت عليه أمه حملته على حمار لها ، وخرجت هاربة منهم إلى مصر ، وقال قتادة : إنما كان هذا في المائدة ، وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا كالمن والسلوى ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا للغد ، فخانوا وخبأوا للغد ، فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة ، وبما ادخروا منها ، فمسخهم الله خنازير .
ثم ذكر له كمالا آخر وفضلا زائدا على ما أعطاه الله من الفضائل ، فقال { ورسولا إلى بني إسرائيل } فأرسله الله إلى هذا الشعب الفاضل الذين هم أفضل العالمين في زمانهم يدعوهم إلى الله ، وأقام له من الآيات ما دلهم أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا ولهذا قال { أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين } طيرا ، أي : أصوره على شكل الطير { فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله } أي : طيرا له روح تطير بإذن الله { وأبرى الأكمه } وهو الذي يولد أعمى { والأبرص } بإذن الله { وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } وأي : آية أعظم من جعل الجماد حيوانا ، وإبراء ذوي العاهات التي لا قدرة للأطباء في معالجتها ، وإحياء الموتى ، والإخبار بالأمور الغيبية ، فكل واحدة من هذه الأمور آية عظيمة بمفردها ، فكيف بها إذا اجتمعت وصدق بعضها بعضها ؟ فإنها موجبة للإيقان وداعية للإيمان .
( ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله . وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم . إن في ذلك لآية لكم . إن كنتم مؤمنين )
ويفيد هذا النص أن رسالة عيسى - عليه السلام - كانت لبني إسرائيل ، فهو أحد أنبيائهم . ومن ثم كانت التوراة التي نزلت على موسى - عليه السلام - وفيها الشريعة المنظمة لحياة الجماعة الإسرائيلية ، والمتضمنة لقوانين التعامل والتنظيم ، هي كتاب عيسى كذلك ، مضافا إليها الإنجيل الذي يتضمن إحياء الروح وتهذيب القلب وإيقاظ الضمير .
والآية التي بشر الله أمه مريم أنها ستكون معه ، والتي واجه بها بالفعل بني إسرائيل هي معجزة النفخ في الموات فيدخله سر الحياة ، وإحياء الموتى من الناس ، وإبراء المولود الأعمى ، وشفاء الأبرص ، والإخبار بالغيب - بالنسبة له - وهو المدخر من الطعام وغيره في بيوت بني إسرائيل ، وهو بعيد عن رؤيته بعينه . .
وحرص النص على أن يذكر على لسان المسيح - عليه السلام - كما هو مقدر في غيب الله عند البشارة لمريم ، وكما تحقق بعد ذلك على لسان عيسى - أن كل خارقة من هذه الخوارق التي جاءهم بها ، إنما جاءهم بها من عند الله . وذكر إذن الله بعد كل واحدة منها تفصيلا وتحديدا ؛ ولم يدع القول يتم ليذكر في نهايته إذن الله زيادة في الاحتياط !
وهذه المعجزات في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أو ردها ، أو رد العافية وهي فرع عن الحياة . ورؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية . . وهي في صميمها تتسق مع مولد عيسى ؛ ومنحه الوجود والحياة على غير مثال إلا مثال آدم - عليه السلام - وإذا كان الله قادرا أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه ، فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال . . ولا حاجة إذن لكل الشبهات والأساطير التي نشأت عن هذا المولد الخاص متى رد الأمر إلى مشيئة الله الطليقة ولم يقيد الإنسان الله - سبحانه - بمألوف الإنسان !
وقوله : { وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : [ و ]{[5054]} يجعله رسولا إلى بني إسرائيل ، قائلا لهم : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ } وكذلك كان يفعل : يصور من الطين شكل طير ، ثم ينفخُ فيه ، فيطير عيانًا بإذن الله ، عز وجل ، الذي جعل هذا معجزة يَدُلّ على أن الله أرسله .
{ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ } قيل : هو الذي يبصر نهارًا ولا يبصر ليلا . وقيل بالعكس . وقيل : هو الأعشى . وقيل : الأعمش . وقيل : هو الذي يولد أعمى . وهو أشبه ؛ لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي { والأبرص } معروف .
{ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ } قال كثير من العلماء : بعث الله كل نبي من الأنبياء بمعجزة تناسب أهل زمانه ، فكان الغالب على زمان موسى ، عليه السلام ، السحر وتعظيم السحرة . فبعثه الله بمعجزة بَهَرَت الأبصار وحيرت كل سحار ، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام ، وصاروا من الأبرار . وأما عيسى ، عليه السلام ، فبُعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة ، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه ، إلا أن يكون مؤيدًا من الذي شرع الشريعة . فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد ، أو على مداواة الأكمه ، والأبرص ، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد ؟ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعثه [ الله ]{[5055]} في زمن الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء ، فأتاهم بكتاب من الله ، عز وجل ، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور من مثله ، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدًا ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وما ذاك إلا لأن كلام الرب لا يشبهه كلام الخلق أبدًا .
وقوله : { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } أي : أخبركم بما أكل أحدكم الآن ، وما هو مدخر [ له ]{[5056]} في بيته لغده { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : في ذلك كله { لآيَةً لَكُمْ } أي : على صدْقي فيما جئتكم به . { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رّبّكُمْ أَنِيَ أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّكُمْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَرَسُولاً } : ونجعله رسولاً إلى بني إسرائيل ، فترك ذكر «ونجعله » ، لدلالة الكلام عليه ، كما قال الشاعر :
ورأيتِ زَوْجَكِ في الوَغَى *** مُتَقَلّدا سَيْفا وَرُمْحا
وقوله : { أنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ } بمعنى : ونجعله رسولاً إلى بني إسرائيل بأنه نبيّ وبشير ونذير¹ وحجتي عن صدقي على ذلك ، أني قد جئتكم بآية من ربكم ، يعني بعلامة من ربكم تحقق قولي وتصدّق خبري ، أني رسول من ربكم إليكم .
كما : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَرَسُولاً إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ أنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } أي تحقق بها نبوّتي ، وأني رسول منه إليكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا بِإذْنِ اللّهِ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم . ثم بين عن الاَية ما هي ، فقال : { أنّي أخْلُقُ لَكُمْ } . فتأويل الكلام : ورسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم بأن أخلق لكم من الطين كهيئة الطير . والطير جمع طائر .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض أهل الحجاز : «كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائرا » ، على التوحيد . وقرأه آخرون : { كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا } على الجماع كليهما .
وأعجب القراءات إليّ في ذلك قراءة من قرأ : { كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا } ، على الجماع فيهما جميعا ، لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله ، وأنه موافق لخط المصحف ، واتباع خط المصحف مع صحة المعنى ، واستفاضة القراءة به أعجب إليّ من خلاف المصحف .
وكان خلق عيسى : ما كان يخلق من الطير .
كما : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق : أن عيسى صلوات الله عليه ، جلس يوما مع غلمان من الكتاب ، فأخذ طينا ، ثم قال : أجعل لكم من هذا الطين طائرا ؟ قالوا : وتستطيع ذلك ؟ قال : نعم بإذن ربي ! ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه ، ثم قال : كن طائرا بإذن الله ! فخرج يطير بين كفيه ، فخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم ، فأفشوه في الناس . وترعرع . فهمّت به بنو إسرائيل ، فلما خافت أمه عليه حملته على حُمَيّر لها ثم خرجت به هاربة .
وذكر أنه لما أراد أن يخلق الطير من الطين سألهم : أيّ الطير أشدّ خلقا ؟ فقيل له الخفاش .
كما : حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قوله : { أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ } قال : أيّ الطير أشدّ خلقا ؟ قالوا : الخفاش إنما هو لحم ، قال ففعل .
فإن قال قائل : وكيف قيل : { فأنْفُخُ فِيهِ } وقد قيل : { أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ } ؟ قيل : لأن معنى الكلام : فأنفخ في الطير . ولو كان ذلك : فأنفخ فيها ، كان صحيحا جائزا ، كما قال في المائدة : «فأنْفُخُ فِيها » يريد : فأنفخ في الهيئة ، وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين : «فأنفخها » ، بغير «في » ، وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول : ربّ ليلة قد بتها وبتّ فيها ، قال الشاعر :
ما شُقّ جَيْبٌ ولا قَامَتْكَ نائحةٌ *** ولا بكَتْكَ جِيادٌ عندَ أسْلابِ
بمعنى : ولا قامت*** عليك . وكما قال الاَخر :
إحْدَى بَنِي عَيّذِ اللّهِ اسْتَمَرّ بِهَا *** حُلْوُ العُصَارَةِ حتى يُنْفَخَ الصّورُ
القول في تأويل قوله تعالى : { وأُبْرِىءُ الأكْمَه وَالأبْرَصَ } .
يعني بقوله : { وأبْرِىءُ } : وأشفي ، يقال منه : أبرأ الله المريض : إذا شفاه منه ، فهو يبرئه إبراءً ، وبرأ المريض فهو يبرأ برءا ، وقد يقال أيضا : برىء المريض فهو يبرأ ، لغتان معروفتان .
واختلف أهل التأويل في معنى الأكمه ، فقال بعضهم : هو الذي لا يبصر بالليل ، ويبصر بالنهار . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } قال : الأكمه : الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل ، فهو يَتَكَمّهُ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كنا نحدّث أن الأكمه الذي ولد وهو أعمى مضموم العينين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، في قوله : { وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ } قال : كنا نحدّث أن الأكمه الذي ولد وهو أعمى مضموم العينين .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : الأكمه : الذي يولد وهو أعمى .
وقال آخرون : بل هو الأعمى . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وأُبْرِىءُ الأكمَهَ } : هو الأعمى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاح ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الأعمى .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } قال : الأكمه : الأعمى .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } قال : الأعمى .
وقال آخرون : هو الأعمش . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : { وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } قال : الأعمش .
والمعروف عند العرب من معنى الكَمَهِ : العمى ، يقال منه : كَمِهَتْ عينه ، فهي تَكْمَهُ كمَهَا ، وأكمهتها أنا : إذا أعميتها ، كما قال سويد بن أبي كاهل :
كمِهَتْ عَيْناهُ حتى ابْيَضّتا *** فَهُوَ يَلْحَى نَفْسَهُ لما نَزَعْ
هَرّجْتُ فارْتَدّ ارْتدادَ الأكْمَهِ *** في غائلاتِ الحائِرِ المُتَهْتَهِ
وإنما أخبر الله عزّ وجلّ عن عيسى صلوات الله عليه ، أنه يقول ذلك لبني إسرائيل ، احتجاجا منه بهذه العِبر والآيات عليهم في نبوّته ، وذلك أن الكَمَه والبَرَص لا علاج لهما ، فيقدر على إبرائه ذو طبّ بعلاج ، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله ، إنه لله رسول ، لأنه من المعجزات مع سائر الاَيات التي أعطاه الله إياها دلالة على نبوّته . فأما ما قال عكرمة ، من أن الكمه : العمش ، وما قاله مجاهد : من أنه سوء البصر بالليل ، فلا معنى لهما ، لأن الله لا يحتجّ على خلقه بحجة تكون لهم السبيل إلى معارضته فيها ، ولو كان مما احتجّ به عيسى على بني إسرائيل في نبوّته أنه يبرىء الأعمش ، أو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل لقدروا على معارضته بأن يقولوا : وما في هذا لك من الحجة ، وفينا خلق مما يعالج ذلك وليسوا لله أنبياء ولا رسلاً ، ففي ذلك دلالة بينة على صحة ما قلنا من أن الأكمه : هو الأعمى الذي لا يبصر شيئا لا ليلاً ولا نهارا ، وهو بما قال قتادة : من أنه المولود كذلك أشبه ، لأن علاج مثل ذلك لا يدّعيه أحد من البشر ، إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى ، وكذلك علاج الأبرص .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأُحْيِي المَوْتَى بإذْنِ اللّهِ وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } .
وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله ، يدعو لهم ، فيستجيب له .
كما : حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة ، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر ، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر أن اطلعي به إلى الشام ، ففعلت الذي أمرت به ، فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة ، وكانت نبوّته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله إليه . قال : وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفا ، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه ، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله .
وأما قوله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ } فإنه يعني : وأخبركم بما تأكلونه مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكْلِكُمُوهُ .
{ وما تَدّخِرُونَ } . يعني بذلك : وما ترفعونه فتخبئونه ولا تأكلونه ، يعلمهم أن من حجته أيضا على نبوّته مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوّته وصدقه في خبره ، أن الله أرسله إليهم : من خلق الطير من الطين ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى بإذن الله ، التي لا يطيقها أحد من البشر ، إلا من أعطاه الله ذلك ، علما له على صدقه ، وآية له على حقيقة قوله من أنبيائه ورسله ، ومن أحبّ من خلقه إنباءَه عن الغيب الذي لا سبيل لأحد من البشر الذين سبيلهم سبيله عليه .
فإن قال قائل : وما كان في قوله لهم : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } من الحجة له على صدقه ، وقد رأينا المتنجمة والمتكهنة تخبر بذلك كثيرا فتصيب ؟ قيل : إن المتنجم والمتكهن معلوم منهما عند من يخبره بذلك أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه ، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ، ومن سائر أنبياء الله ورسله ، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال ، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياه من غير أصل تقدّم ذلك¹ احتذاه ، أو بنى عليه أو فزع إليه ، كما يفزع المتنجم إلى حسابه ، والمتكهن إلى رئيّه ، فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها ، وبين علم سائر المتكذبة على الله ، أو المدّعية علم ذلك .
كما : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما بلغ عيسى تسع سنين أو عشرا أو نحو ذلك ، أدخلته أمه الكتاب فيما يزعمون ، فكان عند رجل من المكتبين يعلمه كما يعلم الغلمان ، فلا يذهب يعلمه شيئا مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه ، فيقول : ألا تعجبون لابن هذه الأرملة ، ما أذهب أعلمه شيئا إلا وجدته أعلم به مني .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لما كبر عيسى أسلمته أمه يتعلم التوراة ، فكان يلعب مع الغلمان ، غلمان القرية التي كان فيها ، فيحدّث الغلمان بما يصنع آباؤهم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : كان عيسى ابن مريم إذ كان في الكُتّاب يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدّخرون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، قال : سمعت سعيد بن جبير يقول :
{ وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : إن عيسى ابن مريم كان يقول للغلام في الكتاب : يا فلان إن أهلك قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه ؟
فهكذا فعل الأنبياء وحججها إنما تأتي بما أتت به من الحجيج بما قد يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قبل الله .
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله : { وأُنَبّئُكُمُ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : بما أكلتم البارحة ، وما خبأتم منه¹ عيسى ابن مريم يقوله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح يعني قوله : { وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَما تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : الطعام والشيء يدّخرونه في بيوتهم غيبا علمه الله إياه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : ما تأكلون : ما أكلتم البارحة من طعام ، وما خبأتم منه .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كان يعني عيسى ابن مريم يحدّث الغلمان وهو معهم في الكتاب بما يصنع آباؤهم ، وبما يرفعون لهم ، وبما يأكلون ويقول للغلام : انطلق فقد رفع لك أهلك كذا وكذا ، وهم يأكلون كذا وكذا ، فينطلق الصبيّ فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء ، فيقولون له : من أخبرك بهذا ؟ فيقول : عيسى ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : { وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فجمعوهم في بيت ، فجاء عيسى يطلبهم ، فقالوا : ليس هم ههنا ، فقال : ما في هذا البيت ؟ فقالوا : خنازير ، قال عيسى : كذلك يكونون ! ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير ، فذلك قوله : { عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيَسى ابْنِ مَرْيَمَ } .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } قال : ما تخبئون مخافة الذي يمسك أن لا يخلفه شيء .
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } : ما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم ، وما تدخرون منها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } فكان القوم لما سألوا المائدة ، فكانت جرابا ينزل عليه أينما كانوا ثمرا من ثمار الجنة ، فأمر القوم أن لا يخونوا فيه ، ولا يخبئوا ، ولا يدّخروا لغد ، بلاء ابتلاهم الله به ، فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئا أنبأهم به عيسى ابن مريم ، فقال : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ } قال : أنبئكم بما تأكلون من المائدة ، وما تدّخرون منها . قال : فكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا ، فادّخروا وخانوا ، فجعلوا خنازير حين ادّخروا وخانوا ، فذلك قوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أُعَذّبُهُ أحَدا مِنَ العَالَمِينَ } . قال ابن يحيى : قال عبد الرزاق : قال معمر ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن عمار بن ياسر ذلك .
وأصل يدّخرون من الفعل يَفْتَعِلون ، من قول القائل : ذخرت الشيء بالذال ، فأنا أذخره ، ثم قيل : يدّخر كما قيل : يدّكر ، من ذكرت الشيء ، يراد به يذتخر ، فلما اجتمعت الذال والتاء وهما متقاربتا المخرج ، ثقل إظهارهما على اللسان ، فأدغمت إحداهما في الأخرى وصيرتا دالاً مشددة صيروها عدلاً بين الذال والتاء ، ومن العرب من يغلب الذال على التاء فيدغم التاء في الذال ، فيقول : وما تذّخرون وهو مذّخر لك ، وهو مذّكر ، واللغة التي بها القراءة الأولى ، وذلك إدغام الذال في التاء ، وإبدالهما دالاً مشددة لا يجوز القراءة بغيرها لتظاهر النقل من القراء بها ، وهو اللغة الجُودَى ، كما قال زهير :
إِنّ الكَرِيمَ الذي يُعْطيكَ نائلَهُ *** عَفْوا وَيُظْلَمُ أحْيانا فَيَظّلِمُ
يروى بالظاء ، يريد : فيفتعل من الظلم ، ويروى بالطاء أيضا .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : إن في خلقي من الطين الطير بإذن الله ، وفي إبرائي الأكمه والأبرص ، وإحيائي الموتى ، وإنبائي إياكم بما تأكلون ، وما تدخرون في بيوتكم ، ابتداء من غير حساب وتنجيم ، ولا كهانة وعرافة ، لعبرة لكم ، ومتفكرا تتفكرون في ذلك ، فتعتبرون به أني محقّ في قولي لكم : إني رسول من ربكم إليكم ، وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق ، إن كنتم مؤمنين ، يعني : إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته ، مقرّين بتوحيده ونبيه موسى ، والتوراة التي جاءكم بها .
{ ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم } منصوب بمضمر على إرادة القول تقديره : ويقول أرسلت رسولا بأني قد جئتكم ، أو بالعطف على الأحوال المتقدمة مضمنا معنى النطق فكأنه قال : وناطقا بأني قد جئتكم ، وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثته إليهم أو للرد على من زعم أنه مبعوث إلى غيرهم . { أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير } نصب بدل من أني قد جئتكم ، أو جر بدل من آية ، أو رفع على هي أني أخلق لكم والمعنى : أقدر لكم وأصور شيئا مثل صورة الطير ، وقرأ نافع { إني } بالكسر { فأنفخ فيه } الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل . { فيكون طيرا بإذن الله } فيصير حيا طيارا بأمر الله ، نبه به على أن إحياءه من الله تعالى لا منه . وقرأ نافع هنا وفي المائدة " طائرا " بالألف والهمزة . { وأبرئ الأكمه والأبرص } الأكمه الذي ولد أعمى أو الممسوح العين . روي : أن ربما كان يجتمع عليه ألوف من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه الصلاة والسلام وما يداوي إلا بالدعاء . { وأحيي الموتى بإذن الله } كرر بإذن الله دفعا لتوهم الألوهية ، فإن الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية . { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكون فيها . { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } موفقين للإيمان فإن غيرهم لا ينتفع بالمعجزات ، أو مصدقين للحق غير معاندين .
{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ }
وقوله : { ورسولاً } حال معطوفة على { ويعلمه } إذ التقدير ، ومعلماً الكتاب ، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله { وجيهاً } [ آل عمران : 45 ] ، ويحتمل أن يكون التقدير ، ويجعله رسولاً{[3181]} ، وكانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ، مبيناً حكم التوراة ونادباً إلى العمل بها ومحللاً أشياء مما حرم فيها ، كالشحوم ولحوم الإبل وأشياء من الحيتان والطير . ومن أول القول لمريم إلى قوله { إسرائيل } خطاب لمريم . ومن قوله : { أني قد جئتكم } إلى قوله : { مستقيم } يحتمل أن يكون خطاباً لمريم على معنى يكون من قوله لبني إٍسرائيل : كيت وكيت ، ويكون في آخر الكلام متروكا يدل عليه الظاهر ، تقديره فجاء عيسى بني إسرائيل رسولاً فقال لهم ما تقدم ذكره { فلما أحس } ، ويحتمل أن يكون المتروك مقدراً في صدر الكلام بعد قوله : { إلى بني إسرائيل } ، فيكون تقديره فجاء عيسى كما بشر الله رسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم ، ويكون قوله : { أني قد جئتكم } ليس بخطاب لمريم ، والأول أظهر .
وقرأ جمهور الناس «أني قد جئتكم » بفتح الألف ، تقديره بأني وقرىء في الشاذ «إني قد جئتكم » . وجمهور الناس قرؤوا بآية على الإفراد وفي مصحف ابن مسعود «بآيات » ، وكذلك في قوله بعد هذا { وجئتكم بآيات من ربكم } واختلف القراء في فتح الألف وكسرها من قوله : { أني أخلق } ، فقرأ نافع وجماعة من العلماء ، «إني » بكسر الألف ، وقرأ باقي السبعة وجماعة من العلماء ، «أني » بفتح الألف ، فوجه قراءة نافع ، إما القطع والاستئناف وإما أنه فسر الآية بقوله ، «إني » كما فسر المثل في قوله { كمثل آدم } بقوله : { خلقه من تراب }{[3182]} إلى غير ذلك من الأمثلة ووجه قراءة الباقين البدل من آية ، كأنه قال : «وجئتكم بأني أخلق » ، وقيل : هي بدل من { أني } الأولى ، وهذا كله يتقارب في المعنى و { أخلق } معناه ، أقدر وأُهيىء بيدي ، ومن ذلك قول الشاعر [ زهير بن أبي سلمى ] {[3183]} : [ الكامل ]
وَلأَنْتَ تَفْري مَا خَلَقْتَ وَبَعْ . . . ضُ الْقَوْمِ يَخْلقُ ثمّ لا يفْري
وقوله { لكم } تقييد لقوله ، { أخلق } لأنه يدل دلالة ما ، على أنه لم يرد الإيجاد من العدم ، ويصرح بذلك قوله { بإذن الله } وحقيقة الخلق في الأجرام ، ويستعمل في المعاني ، ومنه قوله تعالى : { وتخلقون إفكاً }{[3184]} ومنه قول الشاعر{[3185]} : [ مجزوء الكامل مرفّل ]
من كان يخلق ما يقو . . . ل فحيلتي فيه قليله
وجمهور الناس قرأ «كهيئة » على وزن فعلة بفتح الفاء وهو مصدر من قولك ، هاء الشيء يهاء هيئاً وهيئة ، إذا ترتب واستقر على حال ما ، وهو الذي تعديه فتقول : هيأت ، وقرأ الزهري «كهِيَّئة الطير » ، بكسر الهاء وياء مفتوحة مشددة ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، «كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائراً » على الإفراد في الموضعين ، فالأول اسم الجنس والثاني مفرد ، أي يكون طائراً من الطيور ، وقرأ نافع وحده ، «كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائراً » بالإفراد في الأخير ، وهكذا قرأ في المائدة الباقون «كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً » بالجمع فيهما ، وكذلك في سورة المائدة ، ومعاني هذه القراءات بينة ، و { الطير } اسم جمع وليس من أبنية الجموع ، وإنما البناء في جمع طائر أطيار ، وجمع الجمع طيور ، وحكاه أبو علي بن أبي الحسن ، وقوله { فأنفخ فيه } ذكر الضمير هنا لأنه يحتمل أن يعود على الطين المهيأ . ويحتمل أن يريد فانفخ في المذكور ، وأنث الضمير في سورة المائدة في قوله : { فتنفخ فيها } [ المائدة : 110 ] لأنه يحتمل أن يعود على الهيئة أو على تأنيث لفظ الجماعة في قوله { الطير } وكون عيسى عليه السلام خالقاً بيده ونافخاً بفيه إنما هو ليبين تلبسه بالمعجزة ، وأنها جاءت من قبله ، وأما الإيجاد من العدم وخلق الحياة في ذلك الطين فمن الله تعالى وحده لا شريك له .
وقوله { بإذن الله } ، معناه بعلم منه تعالى أني أفعل ذلك وتمكين منه لي ، وحقيقة الإذن في الشيء هي العلم بأنه يفعل والتمكين من ذلك ، فإن اقترن بذلك قول فذلك أمكن في الإذن وأبلغ ، ويخرج من حد الإذن إلى حد الأمر ولكن تجده أبداً في قسم الإباحة ، وتأمل قوله تعالى :
{ فهزموهم بإذن الله }{[3186]} ، وقول النبي عليه السلام : { وإذنها صماتها }{[3187]} ، وروي في قصص هذه الآية ، أن عيسى عليه السلام كان يقول لبني إسرائيل : أي الطير أشد خلقة وأصعب أن يحكى ؟ فيقولون : الخفاش ، لأنه طائر لا ريش له ، فكان يصنع من الطين خفافيش ثم ينفخ فيها فتطير ، وكل ذلك بحضرة الناس ومعاينتهم ، فكانوا يقولون : هذا ساحر .
{ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
{ أبرىء } ، معناه أزيل المرض يقال برأ المريض وأبرأه غيره ، ويقال : برىء المريض أيضاً كما يقال في الذنب والدين{[3188]} ، واختلف المفسرون في { الأكمه } فقال مجاهد : { الأكمه } هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، وقال ابن عباس والحسن والسدي : { الأكمه } الأعمى على الإطلاق ، وقال عكرمة : { الأكمه } الأعمش ، وحكى النقاش قولاً : أن { الأكمه } هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم ، الميت الفؤاد ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : { الأكمه } الذي يولد أعمى مضموم العين .
قال القاضي : وقد كان عيسى عليه السلام يبرىء بدعائه ومسح يده كل علة ، ولكن الاحتجاج على بني إسرائيل في معنى النبوة لا يقوم إلا بالإبراء من العلل التي لا يبرىء منها طبيب بوجه ، فليس يتخلص من هذه الأقوال في { الأكمه } إلا القول الأخير ، إذ { الأكمه } في اللغة هو الأعمى ، وكمهت العين عميت ، ولولا ضبط اللغة لكان القول الذي حكى النقاش حسناً في معنى قيام الحجة به ، { والأبرص } معروف ، وهو داء لا يبرأ منه إذا تمكن ، وروي في إحيائه الموتى ، أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر أو الجمجمة ، فيحيي الإنسان ويكلمه ، وروي في أنه أحيى سام بن نوح عليه السلام ، وروي أن الذي كان يحييه كانت تدوم حياته ، وروي أنه كان يعود لموته سريعاً ، وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها ، وإحياء الموتى هي آيته المعجزة المعرضة للتحدي ، وهي بالمعنى متحدى بها وإن كان لم ينص على التحدي بها ، وآيات عيسى عليه السلام إنما تجري فيما يعارض الطب لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان وشغلهم وحينئذ أثيرت فيه العجائب ، فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب ، وذلك إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص علمت الأطباء أن هذه القوة من عند الله ، وهذا كأمر السحرة مع موسى ، والفصحاء مع محمد عليه السلام .
ووقع في التواريخ المترجمة عن الأطباء أن جالينوس ، كان في زمن عيسى عليه السلام وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه فمات في طريقه ذلك .
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وأنبئكم } الآية ، فقال السدي وسعيد بن جبير وابن إسحاق ومجاهد وعطاء : كان عيسى من لدن طفولته وهو في الكتّاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم في منازلهم وبما يؤكل من الطعام ويدخر حتى قال بنو إسرائيل لأبنائهم لا تخالطوا هذا الساحر ، وكذلك إلى أن نبىء ، فكان يقول لكل من سأله عن هذا المعنى ، أكلت البارحة كذا ، وادخرت كذا ، قال ابن إسحاق ، وكان معلمه يريد أن يعلمه الشيء فيسبقه إليه عيسى فيتعجب معلمه من ذلك ويذكره للناس ، وقال قتادة معنى الآية إنما هو في نزول المائدة عليهم . وذلك أنها لما أنزلت أخذ عليهم عهداً أن يأكلوا ولا يخبىء أحد شيئاً ولا يدخره ويحمله إلى بيته فخانوا وجعلوا يخبئون من ثمار الجنة وطعامها الذي كان ينزل على المائدة . فكان عيسى عليه السلام يخبر كل أحد عما أكل وعما ادخر في بيته من ذلك وعوقبوا على ذلك ، وما في قوله { بما تأكلون } يحتمل أن تكون بمعنى الذي وتحتمل المصدرية وكذلك { وما تدخرون } ، وقرأ الجمهور ، «تدّخِرون » بدال مشددة وخاء مكسورة ، وهو تفتعلون من ذخرت أصله ، «تذخرون » استثقل النطق بالذال والتاء ، لتقاربهما في المخرج فأبدلت التاء دالاً وأدغمت الذال في الدال ، كما صنع في مدكر ، ومطلع ، بمعنى مضطلع وغير ذلك نحو قول الشاعر : [ زهير ] [ البسيط ]
إن الكَريمَ الذي يُعطيكَ نَائِلَهُ . . . عَفْواً وَيظْلِمُ أحْياناً فَيَطَّلِمُ{[3189]}
بالطاء غير منقوطة ، وقرأ الزهري ومجاهد وأيوب السختياني وأبو السمال «تدْخَرون » - بدال - ساكنة وخاء مفتوحة ، وقوله : { إن في ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الإحياء والإبراء والإنباء ، وفي مصحف ابن مسعود «لآيات » على الجمع ، وقوله { إن كنتم مؤمنين } ، توقيف والمعنى ، لآيات نافعة هادية إن آمنتم وأبصرتم وإلا فليست بنافعة ولا هادية ، فأما كونها آيات فعلى كل حال آمنوا أو كفروا ، هذا كله على أن المخاطبة لمن لم يؤمن - بعد - وهو ظاهر حاله مع بني إسرائيل ، وإن كان خطابه لمؤمنين ، أو لما{[3190]} كانوا مؤمنين بموسى ، فمعنى الآية التثبيت وهز النفس كما تقول لإنسان تقيم نفسه إلى شيء : ما أنت يا فلان يلزمك أن تفعل كذا وكذا إن كنت من الرجال .