فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (49)

وقوله { أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ } معمول لرسول ؛ لأن فيه معنى النطق كما مر ، وقيل : أصله بأني قد جئتكم ، فحذف الجار ، وقيل : منصوب بمضمر أي : تقول أني قد جئتكم ، وقيل : معطوف على الأحوال السابقة . وقوله : { بِآيَةٍ } في محل نصب على الحال ، أي : متلبساً بعلامة كائنة { من ربّكُمْ } . وقوله : { أَنِى أَخْلُقُ } أي : أصوّر ، وأقدّر { لَكُمْ منَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } وهذه الجملة بدل من الجملة الأولى ، وهي : { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ } أو بدل من آية ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي : أني ، وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف . وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر ، «كهيئة الطير » بالتشديد ، والكاف في قوله : { كَهَيْئَةِ الطير } نعت مصدر محذوف ، أي : أخلق لكم خلقاً ، أو شيئاً مثل هيئة الطير .

وقوله : { فَأَنفُخُ فِيهِ } أي : في ذلك الخلق ، أو ذلك الشيء ، فالضمير راجع إلى الكاف في قوله : كهيئة الطير ، وقيل : الضمير راجع إلى الطير ، أي : الواحد منه ، وقيل : إلى الطين ، وقرئ : «فيكون طائراً ، وطيراً » مثل تاجر وتجر ، وقيل : إنه لم يخلق غير الخفاش لما فيه من عجائب الصنعة ، فإن له ثدياً ، وأسناناً ، وأذناً ، ويحيض ، ويطهر ، وقيل : إنهم طلبوا خلق الخفاش لما فيه من العجائب المذكورة ، ولكونه يطير بغير ريش ، ويلد ، كما يلد سائر الحيوانات مع كونه من الطير ، ولا يبيض ، كما يبيض سائر الطيور ، ولا يبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة ، وبعد طلوع الفجر ساعة ، وهو : يضحك ، كما يضحك الإنسان ؛ وقيل : إن سؤالهم له كان على وجه التعنت ، قيل : كان يطير ما دام الناس ينظرونه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الله من فعل غيره وقوله : { بِإِذنِ الله } فيه دليل على أنه لولا الإذن من الله عزّ وجلّ لم يقدر على ذلك ، وأن خلق ذلك كان بفعل الله سبحانه أجراه على يد عيسى عليه السلام . قيل : كانت تسوية الطين ، والنفخ من عيسى ، والخلق من الله عزّ وجلّ . قوله : { وَأُبْرِئ الأكمه } الأكمه : الذي يولد أعمى ، كذا قال أبو عبيدة . وقال ابن فارس : الكمه العمي يولد به الإنسان ، وقد يعرض ، يقال كمه يكمه كمها : إذا عمي ، وكمهت عينه : إذا أعميتها ؛ وقيل : الأكمه : الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل ، وقيل : هو الممسوح العين .

والبرص معروف ، وهو بياض يظهر في الجلد . وقد كان عيسى عليه السلام يبرئ من أمراض عدّة ، كما اشتمل عليه الإنجيل ، وإنما خص الله سبحانه هذين المرضين بالذكر ؛ لأنهما لا يبرآن في الغالب بالمداواة ، وكذلك إحياء الموتى قد اشتمل الإنجيل على قصص من ذلك . قوله : { وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ } أي : أخبركم بالذي تأكلونه ، وبالذي تدّخرونه .