غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (49)

42

ثم قال : { ورسولاً } عطفاً على { وجيهاً } وما بعده . { إلى بني إسرائيل } أي إلى كلهم لأنه جمع مضاف . وفيه رد على اليهود القائلين بأنه مبعوث إلى قوم مخصوصين منهم { أني قد جئتكم } يتعلق بمحذوف يدل عليه لفظ الرسول أي ناطقاً بأني قد جئتكم . وإنما وجب هذا الإضمار للعدول عن الغيبة إلى التكلم . وأما قوله : { ومصدقاً لما بين يديّ } فمعطوف على قوله : { بآية } أي مع آية والتقدير : جئتكم مصاحباً لآية من ربكم ومصدقاً لمن بين يديّ ، وجئتكم { لأحل لكم } وفي الكشاف تقديره : ويعلمه الكتاب والحكمة ويقول أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم ومصدقاً لما بين يدي .

أو الرسول والمصدق فيهما معنى النطق فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ، وناطقاً بأني أصدق ما بين يديّ . وعن الزجاج : إن التقدير ويكلم الناس رسولاً بأني قد جئتكم بآية من ربكم . والمراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه عدد أنواعاً من الآيات ، ثم أبدل على الآية قوله : { أني أخلق } فيمن قرأ بفتح { أني } ويحتمل أن يكون " أن " مع ما بعده مرفوعاً أي هي أني أخلق . ومن قرأ { إني أخلق } فللاستئناف أو للبيان كقوله : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } [ آل عمران : 59 ] ثم فسر المثل بقوله : { خلقه من تراب } [ آل عمران : 59 ] وهذا أحسن ليوافق قراءة الفتح . والمعنى أقدّر لكم شيئاً مثل صورة الطير من هيئات الشيء أصلحته . { فأنفخ فيه } أي في ذلك الطير المصور أو الشيء المماثل لهيئة الطير { فيكون طيراً } وهو اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع . يروى أنه خلق أنواعاً من الطير . وقيل : لم يخلق غير الخفاش وعليه قراءة من قرأ { طائراً } وذلك أنه لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات أخذوا يتفننون عليه وطالبوه بخلق خفاش ، فأخذ طيناً وصوّره ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض . قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن عيونهم سقط ميتاً بإذن الله . وبتكوينه وتخليقه قال بعض المتكلمين : دلت الآية على أن الروح جسم رقيق كالريح ولذلك وصفها بالنفخ . وههنا بحث وهو أنه هل يجوز أن يقال إنه تعالى أودع في نفس عيسى خاصية بحيث إنه متى نفخ في شيء كان نفخه موجباً لصيرورة ذلك الشيء حياً ، وذلك أنه تولد من نفخ جبريل في مريم روح محض ، فكانت نفخة عيسى سبباً لحصول الأرواح في الأجساد ؟ أو يقال : ليس الأمر كذلك بل الله تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات ؟ وهذا هو الحق لقوله تعالى { الذي خلق الموت والحياة }[ الملك : 2 ] ولقوله حكاية عن إبراهيم في المناظرة { ربي الذي يحيي ويميت }[ البقرة : 258 ] فلو حصل لغيره هذه الصفة بطل ذلك الاستدلال { وأبرئ الأكمه والأبرص } ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي يولد أعمى . وقيل : هو الممسوح العين . ويقال : لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير . وقيل : الأكمه من عمي بعد أن كان بصيراً ، رواه الخليل . وعن مجاهد أنه الذي لا يبصر بالليل . وأما البرص فإنه بياض يظهر في ظاهر البدن ، وقد لا يعم البدن . وسببه سوء مزاج العضو إلى البرودة وغلبة البلغم على الدم الذي يغذوه ، فتضعف القوة المغيرة عن تمام التشبيه .

وقد يغلب البرد والرطوبة حتى يصير لحمه كلحم الأصداف فيحيل الدم الصائر إليه إلى مزاجه ولونه . وإن كان ذلك الدم جيداً في جوهره نقياً من البلغم حاراً هو داء عياء عسر البرء لا يكاد يبرأ - وخاصة المزمن - منه . والآخذ في الازدياد والذي يرجى برؤه من البرص ما إذا دلك احمرّ بالدلك ويكون معه خشونة ما . والشعر الذي ينبت عليه لا يكون شديد البياض ، وإذا أخذ جلدة بالإبهام والسبابة وأشيل عن اللحم وغرزت فيه الإبرة خرج منه دم أو رطوبة مورّدة ، ولا شك إن إبراءه مثل هذه المرض من قبيل الإعجاز . يروى : ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده { وأحيي الموتى } أحيا عاذراً وكان صديقاً له ، ودعا سام بن نوح من قبره وهم ينظرون فخرج حياً ، ومر على ابن ميت لعجوز فدعا الله عيسى فنزل عن سريره حياً ورجع إلى أهله وبقي وولد له . قال الكلبي : كان عيسى عليه السلام يحيي الموتى ب " يا حي يا قيوم " وكرر قوله : { بإذن الله } رفعاً لوهم من توهم فيه الألوهية { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } قيل : إنه كان من أول أمره يخبر بالغيوب . روى السدي أنه كان يلعب مع الصبيان ثم كان عليه السلام يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم . كان عليه السلام يخبرهم بأن أمك خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء . فقالوا لصبيانهم : لا تلعبوا مع الساحر وجمعوهم في بيت . فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا : ليسوا في البيت . فقال عليه السلام : فمن في هذا البيت ؟ فقالوا : خنازير . فقال عيسى عليه السلام : كذلك يكونون فإذا هم خنازير . وقيل : إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر من وقت نزول المائدة . وذلك أن القوم نهوا عن الادّخار فكانوا يخونون ويدخرون وكان عيسى يخبرهم بذلك . والادخار افتعال من اذتخر قلبت كل من التاء والذال " دالاً " ثم أدغم . واعلم أن الإخبار عما غاب معجز دال على أن ذلك الخبر صار معلوماً بالوحي ما لم يستعن فيه بآلة ولا تقديم مسألة بخلاف ما يقوله المنجمون والكهان فإن ذلك استعانة من أحوال الكواكب أو الجن ، ولهذا يتفق لهم الغلط كثيراً .

/خ60