تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (49)

الآية 49 وقوله تعالى : { ورسولا إلى بني إسرائيل } أي جعله رسولا إلى بني إسرائيل ، وهذا أيضا بشارة لها منه ، وكان عيسى ، صلوات الله على نبينا وعليه ، من أول أمره إلى آخره آية ، لأنه ولد من غير أب على خلاف ما كان سائر البشر{ ويكلم الناس في المهد } [ آل عمران : 46 ] وأقر بالعبودية له ، ولم يكن لأحد من البشر ذلك ، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وإنباء ما كانوا يأكلون ، ويدخرون ، وما كان له مأوى يأوي إليه ، ولا عيش /59- ب/ يتعيش هو به ، والبشر لا يخلو عن ذلك ، ثم ألقي شبهة على غيره ، فقتل به ، ورفع هو إلى السماء ، وذلك كله آية ، وكانت آياته كلها حسية يعلمها كل أحد ، وآيات رسول الله ، عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات ، كانت حسية وعقلية . أما الحسية فهو انشقاق القمر [ ونبع الماء من بين أصابعه ]{[3854]} وكلام الشاة المسمومة وقطع مسيرة شهر في ليلة وغير ذلك من الآيات مما يكثر عددها ، هذه كلها كانت حسية . وأما العقلية فهذا القرآن الذي ينزل عليه ، وهو بين أظهرهم ، وهم فصحاء وبلغاء وحكماء يتلو عليهم

[ قوله ]{[3855]} : { فأتوا بسورة من مثله } الآية [ يونس : 38 ] وقوله : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } [ الإسراء : 88 ] ؛ فلو كان بهم طاقة أو قدرة أن يأتوا بمثله لجهدوا كل جهد ، وتكلفوا كل تكلف ، حتى يطفئوا هذا النور ليتخلصوا من قتلهم وسبي ذراريهم واستحياء نسائهم ، فلما لم يفعلوا ذلك دل أنه آية معجزة ، عجزوا عن إتيان مثله . فأي آية أعظم من هذا ؟ وبالله النجاة .

وقوله تعالى : { أني جئتكم بآية من ربكم } أي بعلامة أني رسول منه إليكم . ثم فسر{[3856]} الآية ، فقال : { أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله } وقوله{[3857]} : { أني أخلق لكم } هو على المجاز لا على التخليق والتكوين [ لوجهين :

الأول ]{[3858]} : لأن الخلق ليس هو من فعل المخلوق ، وإنما هو من فعل الله جل وعلا لأن التخليق هو الإخراج من العدم إلى الوجود ، وذلك فعل الله [ سبحانه وتعالى ]{[3859]} لا يقدر المخلوق على ذلك ، فهو على المجاز . ألا ترى أنه قال في آخره : { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } ؟ [ آل عمران : 50 ] ، وليس إلى الخلق{[3860]} تحليل شيء أو تحريمه ، إنما ذلك إلى الله جل وعلا فمعناه أني أظهر لكم حل بعض ما حرم عليكم . فعلى ذلك قوله : { أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير } أي أظهر لكم بيدي ما خلق الله من الطين طائرا ، فيكون آية لرسالتي إليكم ، وكذلك الآيات ليس مما ينشئ الأنبياء ، ولكن تظهر على أيديهم . وإنما لم تجز إضافة التخليق إلى الخلق لما ذكرنا أنه إخراج الشيء من العدم على الوجود ، وذلك ليس إلى الخلق .

والثاني : أن التخليق هو إخراج الفعل على التقدير ، وفعل العبد إنما يخرج على تقدير الله لا يخرج على تقديره ، كذلك لم تجز إضافة ذلك إلى الخلق إلا على طريق المجاز ، والله أعلم .

قال الشيخ ، رحمه الله : [ الخلق اسم ]{[3861]} المجاز والحقيقة ، والتخليق فعل الحقيقة خاصة ، وآيات الأنبياء عليهم السلام هي التي تخرج على خلاف الأمر المعتاد بينهم يجزيهم الله جل وعلا على أيديهم . إن ذلك [ لم يكن بهم إنما كان ذلك ]{[3862]} بالرسل الذين أرسلهم ليدل على صدقهم ، ولا قوة إلا بالله . وإبراء الأكمه والأبرص هو من آيات النبوة لخروجها عن الأمر المعتاد فيما بينهم ، فإن قيل : إن إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص من آيات النبوة لعجزهم عن إتيان مثله وخروجهم عن المعتاد في ما بينهم ، ولكن أنباء ما يأكلون ، ويدخرون ما{[3863]} كان من آيات النبوة ؟ ويجوز أن يكون ذلك من منجم ، قيل : له جوابان ، إن كان يكن{[3864]} مثل ذلك في النجوم .

أحدهما : أنه مضموم إلى الآيات ، فصار آية بما ضم إليها .

والثاني : أن هذا ، وإن كان بعلم النجوم ، فعيسى ، صلوات الله عليه ، لما علم قومه أنه لم يختلف إلى أحد في تعلم علم النجوم ، ثم عرف ذلك ، وأنبأهم بذلك ، دل أنه إنما علم ذلك بالله ، فكان آية ، وبالله التوفيق ، مع ما كان في وقومه أطباء وحكماء وبصراء لم يدع أحد شيئا من هذه الآيات التي جاء بها{[3865]} عيسى عليه السلام دل ترك اشتغالهم في ذلك على إقرارهم بأنها آية سماوية ، ولكنهم تعاندوا ، وكابروا ، فلم يؤمنوا به{[3866]} .

وقوله تعالى : { بإذن الله } ، قيل : بأمر الله ، وقيل : بمشيئة الله . واختلف في الأكمه : عن مجاهد : قال : ( الأكمه الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل ) وعن ابن عباس رضي الله عنه : ( الأكمه الأعمى الممسوح العين ) وقيل : هو الذي ولد من{[3867]} أمه أعمى ، لا يتلكف أحد من الأطباء إبراء مثله ، ولا اشتغل به ، وإنه دل أنه عرف ذلك بالله تعالى ، والأطباء يتكلفون في دفع العلل العارضة الحادثة ، وأما ما كان خلقه من جبلة فلا .

وقوله تعالى : { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } قيل : قال إن هذا آية لكم إن كنتم صدقتم أني رسول الله إليكم ، وقيل : قال : { إن في ذالك لآية لكم } في رسالتي { إن كنتم مؤمنين } بالرسل ، ويحتمل : إن كنتم تؤمنون : أي بالآيات أنها تعرف ما جعلت{[3868]} له ، والله أعلم .


[3854]:من م.
[3855]:ساقطة من الأصل وم.
[3856]:من م، في الأصل: فئة.
[3857]:الواو ساقطة من الأصل.
[3858]:ساقطة من الأصل وم.
[3859]:في م: تعالى.
[3860]:من م، في الأصل: التخليق.
[3861]:من م، ساقطة في الأصل.
[3862]:من م، ساقطة في الأصل.
[3863]:في الأصل وم: لم.
[3864]:في الأصل وم: يكون.
[3865]:في الأصل وم:به.
[3866]:تكرر بعدها في الأصل وم العبارة المدرجة آنفا: قال الشيخ.. الخلق اسم.. حقيقة خاصة.
[3867]:في الأصل: في.
[3868]:في الأصل جعلتهم، في م: جعلن.