الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (49)

وقوله : { وَرَسُولاً إلى بَنِي إسرائيل }[ آل عمران :49 ] .

أي : ويجعله رسولاً ، وكانت رسالةُ عيسى عليه السلام إلى بني إِسرائيل مبيِّناً حُكْمَ التوراة ، ونَادِباً إِلى العَمَل بها ، ومُحَلِّلاً أشياءَ ممَّا حرم فيها ، كَالثُّرُوبِ ولُحُومِ الإِبل ، وأشياء من الحِيتَانِ والطَّيْر ، ومن أول القول ( لِمَرْيم ) إِلى قوله : ( إِسرائيل ) خطابٌ لمريم ، ومن قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } إِلى قوله : { مُّسْتَقِيمٌ } يحتملُ أنْ يكون خطاباً لمريم ، على معنى : يَكُونُ من قوله : ( لِبَنِي إِسرائيل ) كَيْتَ وَكَيْتَ ، ويكون في آخر الكلام محذوفٌ يدُلُّ عليه الظاهرُ ، تقديره : فجاء عيسى بني إِسرائيل رسولاً ، فقال لهم ما تقدَّم ذكْرُهُ ، ويحتملُ أنْ يكون المحذوفُ مقدَّراً في صَدْرِ الكلامِ بعد قوله :

{ إلى بَنِي إسرائيل } ، فيكون تقديره : فجاء عيسى ، كما بَشَّر اللَّهُ رسولاً إلى بني إِسرائيل ، بأنِّي قد جئتكم ، ويكون قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } ليس بخِطَابٍ لِمَرْيَمَ ، والأول أظهر .

وقوله : { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين . . . } الآية ، قرأ نافعٌ : ( إِنِّي أَخْلُقُ ) بكسر الهمزة ، وقرأ باقي السَّبْعة بفَتْحها ، فوجه قراءةِ نافعٍ إِمَّا القَطْعُ والاستئناف ، وإِما أنه فسَّر الآية بقوله : ( إِنِّي ) ، كما فسر المَثَلَ في قوله : { كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] ووجْه قراءة الباقين البَدَلُ من آية ، كأنه قال : وجئْتكم بِأَنِّي أخلْقُ ، و{ أَخْلُقُ } : معناه أقدِّر وأهيئ بيَدِي .

( ص ) : { كَهَيْئَةِ } الهيئةُ : الشَّكْل والصُّورة ، وهو مصدر : هَاءَ الشَّيْءُ يَهِيئُ هَيْئَةً ، وَهَيَّأَ ، إِذا ترتَّب واستقر على حالٍ مَّا ، وتعدِّيه بالتضْعيف ، قال تعالى : { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا } [ الكهف : 16 ] اه .

وقرأ نافعٌ وحْده : ( فَيَكُونُ طَائِرا ) بالإِفراد ، أي : يكون طائراً من الطيورِ ، وقرأ الباقونَ : ( فَيَكُونُ طَيْراً ) ، بالجمع ، وكذلك في سورة المائدة ، والطير : اسمُ جمعٍ ، وليس من أبنيةِ الجُمُوع ، وإِنما البنَاءُ في جَمْعِ طائرٍ : أَطْيارٌ ، وجَمْعُ الجَمْعِ : طُيُورٌ .

وقوله : { فَأَنفُخُ فِيهِ }[ آل عمران :49 ] .

ذكَّر الضميرَ ، لأنه يحتملُ أنْ يعود على الطِّينِ المهيّأ ، ويحتملُ أنْ يريد : فأنفُخُ في المذكور ، وأنَّثَ الضميرَ في سورة المائدة ، لأنه يحتمل أنْ يعود على الهيئة ، أوْ على تأنيثِ لَفْظ الجَمَاعة ، وكَوْنُ عيسى يخلُقُ بيده ، وينفُخُ بِفِيهِ ، إِنما هو ليبيِّن تلبُّسه بالمعجزةِ ، وأنها جاءَتْ من قِبَلِهِ ، وأمَّا الإِيجاد من العَدَمِ ، وخَلْقُ الحياةِ في ذلك الطِّينِ ، فمِنَ اللَّهِ تعالى وحده ، لا شريك له .

ورُوِيَ في قَصَصٍ هذه الآية ، أنَّ عيسى عليه السلام كانَ يَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ : أَيُّ الطَّيْرِ أَشَدُّ خِلْقَةً ، وَأَصْعَبُ أنْ يحكى ؟ فيَقُولُونَ : الخُفَّاشُ ، لأَنَّهُ طَائِرٌ لاَ رِيشَ لَهُ ، فَكَانَ يَصْنَعُ مِنَ الطِّينِ خَفَافِيشَ ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهَا فَتَطِيرُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ ، وَمُعَايَنَتِهِمْ ، فَكَانُوا يَقُولُونَ : هَذَا سَاحِرٌ و{ أُبْرِىءُ } معناه : أزيلُ المَرَض ، و{ الأكمه } : هو الَّذِي يُولَدُ أعمى مضمومَ العَيْنَيْنِ ، قاله ابن عَبَّاسٍ وقتادة .

قال ( ع ) : و( الأَكْمَهُ ) ، في اللغة هو الأعمى ، وقد كان عيسى عليه السلام يبرئ بدعائِهِ ، ومَسْحِ يدِهِ على كل عاهة ، ولكنَّ الاحتجاج على بني إِسرائيل في معنى النبوَّة لا يقومُ إِلاَّ بالإِبراء من العِلَلِ التي لا يُبْرِئُ منها طبيبٌ بوجْهٍ ، ورُوِيَ في إِحيائه الموتى ، أنه كان يَضْرِبُ بعَصَاهُ الميِّتَ ، أو القَبْرَ ، أو الجُمْجُمَةَ ، فَيَحْيَى الإِنسانُ ، ويكلِّمه بإِذن اللَّه ، وفي قصص الإِحياء أحاديثُ كثيرةٌ لا يوقَفُ على صحَّتها ، وآياتُ عيسى عليه السلام إِنما تَجْرِي فيما يُعَارِضُ الطِّبَّ ، لأن علْمَ الطِّبِّ كان شَرَفَ النَّاس في ذلك الزَّمَان وشُغْلَهُمْ ، وحينئذ أُثِيرَتْ فيه العجائبُ ، فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائبَ لا تقتضيها الأمزجةُ وأصولُ الطِّبِّ ، وذلك إِحياءُ الموتى ، وإِبراء الأكْمَهِ والأَبْرَصِ ، عَلِمَتِ الأطبَّاء ، أن هذه القوَّة من عند اللَّه ، وهذا كأمْرِ السَّحَرَةِ مع موسى ، والفُصَحَاءِ مع نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ووقع في التواريخِ المُتَرْجَمَة عن الأطبَّاء ، أنَّ جَالِينُوسَ كانَ في زمنِ عيسى عليه السلام ، وأنه رحَل إِلَيْهِ مِنْ رُومِيَّةَ إِلَى الشَّامِ ، فَمَاتَ فِي طَرِيقِهِ ذلك .

وقوله : { وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ }الآية ، قال مجاهدٌ ، وغيره : كان عيسى عليه السلام مِنْ لَدُنْ طفوليَّته ، وهو في الكُتَّابِ ، يخبرُ الصِّبْيان بما يفعل آباؤهم في منازِلِهِمْ ، وبما يُؤْكَلُ من الطعامِ ، ويُدَّخَرُ ، وكذلك إلى أنْ نُبِّئ ، فكان يقول لكلِّ من سأله عن هذا المعنى : أَكَلْتَ البارحةَ كَذَا ، وادخرت كذا ، وقال قتادةُ : معنَى الآية : إِنما هو في نزول المائدةِ علَيْهم ، وذلك أنَّها لما نزلَتْ ، أخذ عليهم عَهْدَ أنْ يَأْكُلُوا ولا يَخْبََئ أَحدٌ شيئاً ، ولا يدَّخره ولا يَحْمِله إلى بيته ، فَخَانُوا وجعلوا يُخَبِّئُون ، فكان عيسى عليه السلام يُخْبِرُ كلَّ أحدٍ عمَّا أكل ، وعمَّا ادخر في بَيْته من ذلك ، وعوقبوا على ذلك .