الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (49)

و( رَسُولاً ) أي : ويجعله رسولاً ، فالابتداء به حسن( {[9948]} ) .

وقيل المعنى : ويكلمهم رسولا( {[9949]} ) .

وقيل : هو معطوف على وجيه ، فالابتداء به على ذلك( {[9950]} ) .

ومن فتح ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم ) فهو متعلق برسول ، أي : فإني قد جئتكم بآية تصدقني أني رسول( {[9951]} ) .

والآية بمعنى الآيات( {[9952]} ) ، وهي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وإحداث الطير من الطين . وغير ذلك من : الإنجيل وغيره .

قوله : ( إِنِّيَ أَخْلُقُ ) من فتح أني جعلها بَدَلاً من ( أن )( {[9953]} ) الأولى ، وإن شئت بدلاً من ( آية ) ، ( و )( {[9954]} ) إن شئت على إضمار هي فتكون أن في موضع رفع( {[9955]} ) .

وقرأ يزيد بن القعقاع( {[9956]} ) ( أخلق لكم من الطين كهيأة الطائر( {[9957]} ) ) فيكون طائراً( {[9958]} ) .

وقال ابن إسحاق : حبس [ عيسى ]( {[9959]} ) عليه السلام يوماً مع غلمان في الكتاب [ فأخذ طيناً ]( {[9960]} ) ثم قال( {[9961]} ) : أجعل لكم هذا الطين طائراً ؟ قالوا( {[9962]} ) : وتستطيع ذلك ؟ قال : نعم ، بإذن الله ربي ، قال : ثم هيأه حتى إذا صار في هيأة الطائر نفخ فيه ، ثم قال كن طائراً بإذن الله ، فخرج يطير بإذن [ الله ]( {[9963]} ) بين كفيه فذكر الغلمان ذلك( {[9964]} ) لمعلمهم فأفشوه في الناس ، وترعرع فهمت به بنو إسرائيل ، فلما خافت أمه عليه حملته على حُمير ثم خرجت به هاربة( {[9965]} ) .

قال ابن جريج( {[9966]} ) وغيره : قال لهم : أيُّ الطير أشد خلقاً قالوا : الخفاش ، إنما هو لحم ، ففعل مثله من الطين( {[9967]} ) ، وقال في هذه الصورة ( فَأَنْفُخُ فِيهِ ) رده على الطير ، وفي المائدة ( فَتَنْفُخُ فِيهَا )( {[9968]} ) رده على الهيأة ، ويجوز رد الهاء في هذه السورة ]( {[9969]} ) على الهيأة( {[9970]} ) لأنها ( بمعنى )( {[9971]} ) المثال والشبه ، وتأنيثها غير حقيقي ولا سلطت لا في نسخ( {[9972]} ) .

ولا يجوز في سورة المائدة رجوع الهاء على الطير لأنه اسم جمع( {[9973]} ) .

وقوله : ( وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ ) .

قال مجاهد : هو الذي يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار( {[9974]} ) .

وقال الأوزاعي : هو الذي لا يبصر بالليل ، وهو الذي به عشى( {[9975]} ) .

وقال قتادة : هو الذي ولد أعمى ، وكذلك قال أكثر المفسرين .

وعن ابن عباس وغيره : هو الأعمى حَدَث به ذلك ، أو ولد( {[9976]} ) [ به ]( {[9977]} ) .

وقال عكرمة : هو الأعمش( {[9978]} ) .

وقال وهب : كان عيسى عليه السلام قد هربت [ به ]( {[9979]} ) أمه إلى أرض مصر من قومها( {[9980]} ) فلما بلغ اثني( {[9981]} ) عشر سنة( {[9982]} ) أوحى الله عز وجل إليها( {[9983]} ) أن انطلقي إلى الشام ، ففعلت حتى إذا بلغ ثلاثين سنة ، جاءه الوحي على رأس الثلاثين فكانت نبوته ثلاثين سنة ، ثم رفعه الله إليه( {[9984]} ) .

وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام : أنه نعى( {[9985]} ) نفسه لفاطمة حين بلغ( {[9986]} ) سنّه ستين سنة وقال : " ما من نبي إلا يعمر مثل نصف عمر من قبله ( و )( {[9987]} ) أن عيسى عمّر مائة سنة وقد بلغت ستين سنة وما أراني إلا ميتاً في هذا العام " أو كلام هذا معناه " ( {[9988]} ) .

قال وهب : ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى خمسون ألفاً من أطاق أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق ذلك أتاه عيسى يمشي إليه( {[9989]} ) ، فكان عيسى يداويهم بالدعاء وكان يُحْيي الموتى( {[9990]} ) .

قوله ( وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَاكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ ) [ 48 ] .

أصل تدخرون تدتخرون( {[9991]} ) : تفتعلون من ذخرت ، فلما اختلف الحرفان( {[9992]} ) ، بأن كانت الذال حرفاً مجهوراً( {[9993]} ) ، والتاء حرفاً مهموساً( {[9994]} ) أبدل من التاء حرفا مجهوراً( {[9995]} ) يشبه الدال في الجهر ، ويقرب( {[9996]} ) منها في المخرج وهو الدال ، ثم ادغمت الذال في الدال( {[9997]} ) .

قال ابن إسحاق : لما بلغ [ عيسى ]( {[9998]} ) تسع سنين أو عشراً( {[9999]} ) ، أدخلته أمه الكتاب ، فلا يذهب المؤدب( {[10000]} ) يعلمه شيئاً إلا بادره عيسى صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلمه إياه ، فيقول المؤدب ألا تعجبون لابن هذه الأرملة( {[10001]} ) ، أذهب أعلمه شيئاً إلا وجدته أعلم به مني .

قال ابن جبير وغيره : كان يخبر الصبيان بما صنع في بيوتهم وبما صنع آباؤهم ، ويقول يا فلان : إن أهلك قد خبأوا لك كذا وكذا من طعام ، ويقول للصبي : انطلق فإن أهلك يأكلون كذا وكذا ، ويقول : انطلق فقد خبأ لك أهلك كذا وكذا . فينطلق الصبي يبكي على أهله حتى يعطوه( {[10002]} ) ذلك الشيء ، فيقولون له : من أخبرك بهذا ؟ فيقول : عيسى .

فلما رأى ذلك بنو إسرائيل قالوا لأولادهم : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، وحبسوا أولادهم عنه ، فجمعوهم في بيت فجاء عيسى عليه السلام ( يطلبهم فقالوا( {[10003]} ) : ليس هم هنا( {[10004]} ) ، فقال عيسى عليه السلام( {[10005]} ) ) : وما في هذا البيت ؟ فقالوا : خنازير ! فقال عيسى عليه السلام : كذلك يكونون ، ففتحوا( {[10006]} ) عنهم فإذا هم خنازير( {[10007]} ) ، فذلك قوله ( تعالى )( {[10008]} ) : ( لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ )( {[10009]} ) .

قال قتادة : معنى قوله : ( وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَاكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمُ ) ذلك في أمر المائدة التي نزلت عليهم كانت خواناً تنزل أين ما كانوا بثمر من ثمار الجنة ، وأمروا ألا يخونوا فيه ولا يدخروا لغد ، ابتلاهم الله بذلك فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئاً ، وادخروا( {[10010]} ) لغد أنبأهم عيسى صلى الله عليه وسلم به ، فهو قوله : ( بِمَا تَاكُلُونَ وَمَاتَدَّخِرُونَ ) أي : من المائدة التي نهوا عن ادخار( {[10011]} ) ما ينزل عليهم فيها( {[10012]} ) .

وقرأ مجاهد والزهري( {[10013]} ) تدخرون ، بدال مخففة( {[10014]} ) .

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) ، أي : في جميع ما ذكر آية ، أي : في نبوة عيسى .


[9948]:- استحسن مكي القطع أن جعلت (رَسُولاً) منصوباً على المفعولية بإضمار فعل: ويجعله، وقيل التقدير: ويكلمهم رسولاً فيكون منصوباً على الحال، وهو ما استبعده أبو حيان، انظر: معاني الزجاج 1/413، والقطع 224، ومشكل الإعراب 1/160، والبحر 2/464.
[9949]:- هو اختيار الزجاج كما في إعرابه 1/413.
[9950]:- من عطف (رَسُولاً) على (وَجِيهاً) لم يقف على (الاِنْجِيلَ) انظر: معاني الأخفش 1/408، والقطع: 225 وإعراب النحاس 1/334.
[9951]:- من قرأ أني بالفتح فعلى تقدير: أرسلت بأني قد جئتكم وهي قراءة الجمهور، ومن قرأ إني بالكسر فعلى القطع والاستئناف وهي قراءة شاذة، انظر: معاني الزجاج 1/413 وإعراب النحاس 1/334، والبحر 2/464.
[9952]:- الآية هي العلامة الظاهرة الدالة على شيء من المحسوسات أو المعقولات، انظر: المفردات 28، واللسان 14/16.
[9953]:- ساقط من (ج).
[9954]:- ساقط من (ب) و(د).
[9955]:- قرأ نافع بالكسر، وفتح الباقون، والكسر على أن الكلام مستأنف، فيبتدأ به من غير إضمار، أو أن يضمر رسولاً يقول أني، أو على تفسير الآية، ومن فتح الهمزة ففي ذلك ثلاثة أوجه: (أ) النصب على أن يكون بدلاً من أن الأولى. (ب) الجر على أن يكون بدلاً من آية. (ج) الرفع على أن يكون خبر مبتدأ محذوف (هو أني أخلق). انظر: السبعة 206، وانظر: معاني الزجاج 1/413، وإعراب النحاس 1/334، والحجة 164، والكشاف 1/334.
[9956]:- هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع توفي 132 هـ تابعي، مشهور وأحد القراء العشرة، كبير القدر كثير العلم، انظر: تاريخ الثقات 480، وغاية النهاية 2/382.
[9957]:- (أ): الطير.
[9958]:- انظر: إعراب النحاس 1/334.
[9959]:- ساقط من (أ).
[9960]:- ساقط من (أ) و(ج).
[9961]:- (أ) و(ج) و(د): قال ثم.
[9962]:- (أ): قال.
[9963]:- ساقط من (أ).
[9964]:- ساقط من (أ) و(ج).
[9965]:- انظر: جامع البيان 3/275.
[9966]:- هو أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جرير توفي 150 هـ، كان مقرئاً ومحدثاً وفقيهاً وثقه ابن معين، تاريخ الثقات 310 تذكرة الحفاظ 196، والتهذيب 6/402.
[9967]:- انظر: جامع البيان 3/276.
[9968]:- في كل النسخ فأنفخ فيها وهو خطأ وأورده أيضاً في جامع البيان 3/276، والآية من المائدة: 110.
[9969]:- ساقط من (أ).
[9970]:- (ب): المائدة على الهيأة.
[9971]:- ساقط من (د).
[9972]:- كذا في كل النسخ وهو تحريف عن شيء لم أتبينه.
[9973]:- انظر: معاني الفراء 1/214 والكشف 1/345، ومشكل الإعراب 1/165.
[9974]:- كذا في كل النسخ وهو مخالف لما في تفسير مجاهد من أن الأكمه يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل 1/128، وعقب الطبري عليه بأن ذلك لا معنى له ولو كان مما يحتج به لقدروا على معارضته، انظر: جامع البيان 2/377.
[9975]:- (أ) و(ج): عشاء، والعشى سوء البصر بالليل والنهار، اللسان عشى 15/56.
[9976]:- ساقط من (أ) و(ب) و(د).
[9977]:- انظر: جامع البيان 3/276.
[9978]:- انظر: المصدر السابق.
[9979]:- ساقط من (أ) و(ج).
[9980]:- (أ) و(ج): من قومه.
[9981]:- (ب) و(د): اثنا.
[9982]:- كذا في كل النسخ وهو خطأ صوابه اثنتي عشرة سنة.
[9983]:- (أ) و(ج): إليه أن انطلقي.
[9984]:- انظر: جامع البيان 3/287 والدر المنثور 2/215.
[9985]:- (أ) (ج): نعا وهو خطأ.
[9986]:- (د): سنة وستين سنة.
[9987]:- ساقط من (ج).
[9988]:- الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. انظر: صحيح البخاري باب مناقب المهاجرين 4/210، ومسلم في باب كم سن النبي صلى الله عليه وسلم يوم قبض 7/87 وسنن الدارمي 1/37.
[9989]:- (أ): عليه.
[9990]:- انظر: جامع البيان 3/278 والدر المنثور 2/215.
[9991]:- (د): تدخرون.
[9992]:- (د): في أن كانت.
[9993]:- مجهولاً.
[9994]:- (ب) و(د): والتا حرفاً.
[9995]:- مجهولاً.
[9996]:- (د): ويعرب.
[9997]:- انظر: الكتاب 1/433-436 ومعاني الفراء 1/215 وإعراب النحاس 1/355. [والأولى أن يزاد هنا، وصيرنا دالاً مشددة]. المدقق.
[9998]:- ساقط من (أ) و(ج).
[9999]:- (ب) و(د): عشر، وهو خطأ.
[10000]:- (أ): المأذب.
[10001]:- المرأة وما أثبت يوافق رواية الطبري 3/279.
[10002]:- (أ): أعطوه.
[10003]:- (ج): فقالوا له.
[10004]:- في هذا نظر.
[10005]:- ساقط من (د).
[10006]:- (أ): تفتح.
[10007]:- انظر: جامع البيان 3/280 والدر المنثور 2/221.
[10008]:- ساقط من (ج) و(د).
[10009]:- المائدة آية 78. [وهذا كلام لا يصح، لأنهم إنما جعلوا قردة وخنازير حين عبدوا الطاغوت (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ)]. المدقق.
[10010]:- (د): وادخروا شيئاً لغد.
[10011]:- كذا في كل النسخ والصواب ادخار.
[10012]:- انظر: جامع البيان 3/280 والدر المنثور 2/211.
[10013]:- وتنسب إلى أيوب السختياني، انظر: إعراب النحاس 1/334 أو أبي السَمّال. انظر: المحرر 98.
[10014]:- وهي قراءة شاذة. انظر: مختصر الشواذ 20.