بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (49)

ثم قال : { وَرَسُولاً إلى بني إسرائيل } نصب { رسولاً } لمعنيين : أحدهما يجعله رسولاً إلى بني إسرائيل ، والثاني ويكلم الناس ورسولاً أي في حال رسالته إلى بني إسرائيل ، دليله أنه قال : { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } وذكر الزجاج فالمعنى والله أعلم ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم بآية من ربكم . ثم أخبر عن أداء رسالته بعدما أوحى إليه في حال الكبر ، حيث قال لقومه : { إني قد جئتكم بآية من ربكم } ، يعني علامة لنبوتي ، ثم بيّن العلامة فقال : { أَنِى أَخْلُقُ } أي أقدر { لَكُمْ مّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله } ويقال : إن الناس سألوه عنه على وجه التعنت فقالوا له : اخلق لنا خفَّاشاً ، واجعل فيه روحاً إن كنت صادقاً في مقالتك ، فأخذ طيناً ، وجعل منه خفاشاً ، ونفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض ، فكأن تسوية الطين ، والنفخ من عيسى عليه السلام والخلق من الله عز وجل كما أن النفخ من جبريل عليه السلام والخلق من الله عز وجل ويقال : إنما طلبوا منه خلق خفاش ، لأنه أعجب من سائر الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم ، يطير بغير ريش ، ويلد كما يلد الحيوان ، ولا يبيض كما تبيض سائر الطيور ، ويكون له ضرع يخرج منه لبن ، ولا يبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة ، وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جداً ، ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة ، فلما أن رأوا ذلك منه ضحكوا .

وقالوا : هذا سِحْر .

ثم قال تعالى : { وأبرئ الأكمه والأبرص } { الأكمه } الذي ولد أعمى فقالوا : إن لنا أطباء يفعلون مثل هذا ، فذهبوا إلى جالينوس ، وأخبروه بذلك فقال جالينوس : إذا ولد أعمى ، لا يبصر بالعلاج ، والأبرص إذا كان بحال إذا غرزت الإبرة فيه لا يخرج الدم منه لا يبرأ بالعلاج ، فرجعوا إلى عيسى عليه السلام وجاؤوا بالأكمه والأبرص ، فمسح يده عليهما ، فأبصر الأعمى ، وبرأ الأبرص ، فآمن به بعضهم ، وجَحَد بعضهم . وقالوا : هذا سِحْر . ثم قال تعالى : { وأحيي الموتى بإذن الله } فأَخْبَروا بذلك جالينوس . فقال : الميت لا يعيش ، ولا يحيى بالعلاج ، فإن كان هو يحيي الموتى ، فهو نبي ، وليس بطبيب ، فطلبوا منه أن يحيي الموتى ، فأحيا أربعة نفر ، أحدهم عازر ، وكان صديقاً له ، فبلغه أنه مات ، فذهب مع أصحابه ، وقد دفن ، وأتى عليه أيام ، فدعا الله ، فقام بإذن الله تعالى وَوَدَكُه يقطر ، فعاش وَوُلد له . والثاني ابن العجوز ، مَرّ به وهو يحمل على سرير ، فدعا الله ، فقام بإذن الله تعالى ، ولبس ثيابه ، وحمل السرير على عنقه ، ورجع إلى أهله . والثالث ابنة من بنات العاشر ماتت ، وأتى عليها ليلة ، فدعا الله تعالى ، فعاشت بعد ذلك ، وولد لها . والرابع سام بن نوح ، لأن القوم قالوا له : إنك تحيي من كان موته قريباً ، فلعلهم لم يموتوا ، وأصابتهم سكتة ، فأحيي لنا سام بن نوح . فقال : دلوني على قبره ، فخرج وخرج القوم معه حتى انتهوا إلى قبره ، فدعا الله تعالى ، فأحياه وخرج من قبره قد شابت رأسه . فقال له عيسى : كيف شابت رأسك ولم يكن في زمانكم شيب ؟ فقال : يا روح الله إنك لما دعوتني ، سمعت صوتاً يقول أَجِبْ روحَ الله ، فظننت أن القيامة قد قامت ، فمن ذلك الهول شابت رأسي ، فسأله عن النَّزْع .

فقال له : يا روح الله إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي ، وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة ، ثم قال للقوم : صدقوه فإنه نبي الله ، فآمن به بعضهم ، وكذب به بعضهم . وقالوا : هذا ساحر ، فأرنا آية نعلم أنك صادق ، فأخبرنا بما نأكل في بيوتنا ، وما نَدَّخر للغد ، فأخبرهم . فقال : يا فلان أنت أكلت كذا وكذا ، وأنت أكلت كذا وكذا ، وادّخرت كذا وكذا ، فذلك قوله عز وجل : { وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ } فمنهم من آمن به ، ومنهم من كفر .

ويقال إن الله بعث كل نبي إلى قومه ، وأظهر لهم نوع ما كانوا يعرفونه ، فكان في زمن موسى عليه السلام الغالب عليهم السحر ، فبيَّن لهم من جنس ذلك ، ليعرفوا أن ذلك ليس بِسِحْر ، وأنه من الله تعالى ، وكان الغالب في زمن عيسى عليه السلام علم الطب ، فجاءهم عيسى بما عجز الأطباء عنه ، فعرف الأطباء أن ذلك ليس من الطب ، وكان في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والشعر ، فجاءهم بقرآن عجز الفصحاء والشعراء عن إتيان مثله .

ثم قال تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ } يعني فيما صنع عيسى عليه السلام علامة لنبوته { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي مصدقين أنه نبي ، قرأ نافع :

{ فيكون طائرًا } ، وكذلك في سورة المائدة . وقرأ الباقون بغير ألف ، ومعناهما واحد . ويقال : الطائر واحد ، والطير جماعة .