الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (49)

{ وَرَسُولاً } : أي ونجعله رسولاً .

{ إِلَى بنى إسرائيل } : فترك ذكره لأن الكلام عليه ، كقول الشاعر :

ورأيت بعلك في الوغى *** متقلداً سيفاً ورمحا

أي وحاملاً رمحاً .

وأنشد الفرّاء لرجل من عبد القيس :

علفتها تبناً وماءً باردا *** حتى شتت همالة عيناها

يعني سقيتها ماءً بارداً .

قال الأخفش : وإن شئت جعلت الواو في قوله ( ورسولا ) مضخمة والرسول حالاً للهاء ، تقديره : ويعلّمه الكتاب رسولاً ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى ( عليه السلام ) .

روى محمد بن إسكندر عن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " بُعثت على أثر ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف من بني إسرائيل " فلمّا بعث قال لهم : [ . . . ] .

قال الكسائي : وإنمّا فتح لأنّه أوقع الرسالة عليه وقيل : بأنّي أو لأنّي .

{ قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ } : والآية { مِّن رَّبِّكُمْ } : يصدّق قولي ويحقق رسالتي .

قال الخليل والفرّاء : أصلها بآيّة بتشديد الياء فثقل عليهم التشديد فأبدلوا لانفتاح ما قبل التشديد وتقديرها فعله .

وقال الكسائي : هي في الأصل أييه مثل فاطمة فحذفت أحدى اليائين فلمّا قال ذلك عيسى لبني اسرائيل . قالوا : وما هي ؟ قال : إنّي ، قول نافع بكسر الألف على الاستئناف وإضمار القول .

وقرأ الباقون بالفتح على معنى بأنّي .

{ أَخْلُقُ } : أي أصور وأقدّر .

{ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } : قرأ الزهري وأبو جعفر : كهيّة بتشديد الياء . و الآخرون بالهمزة . والهيئة الصورة المهيّأة ، وهي من قولهم هيأت الشيء إذا قصرته وأصلحته . وقرأ أبو جعفر ( الطاير ) بالألف ، والباقون بغير ألف .

{ فَأَنفُخُ فِيهِ } : أي في الطين .

{ فَيَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِ اللَّهِ } : قرأه العامة على الجمع لأنّه خلق طيراً كثيراً .

وقرأ أهل المدينة : ( طائراً ) على الواحد ذهبوا إلى نوع واحد من الطير ، لأنه لم يخلق غير الخفّاش ، وإنمّا خصّ الخفّاش لأنه أكمل الطير خلقاً ، ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثدياً وأسناناً وهي تحيض وتطير .

وقال وهب : كان يطير ما دام النّاس ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتّاً ليتميّز فعل الخلق من خلق اللّه ، وليعلموا أنّ الكمال للّه تعالى .

{ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ } : أي أشفيهما وأصححهما فقال : أبرأ اللّه المريض من أبرأ وبرئ هو يبرأ وبريء مبرأ برأوا فيهما جميعاً . واختلفوا في الأكمه :

فقال عكرمة والأعمش ، ومجاهد والضحّاك : ( هو الذي ) يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل .

ابن عباس وقتادة : هو الذي ولِدَ أعمى ولم يبصر ضوءً قط ، الحسن والسّدي : هو [ الأعمى ، وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه هو الذي يولد أعمى وهو الذي يعمى وان كان بصيراً ] هو المعروف من كلام العرب يقال : كمُهت عينه تكمه كمهاً وكمهتها أنا إذا أعميتها .

قال سويد بن أبي كاهل :

كمهت عيناه حتى ابيضّتا *** فهو يلحى نفسه لمّا نزع

قال رؤبة : وكيد مطال وخصم [ مَبْده ]

هدجنَ فإن تكلم [ . . . ] الأكمه هرّجت بالسّبع وقد صحت به ، والأبرص الذي به وضح .

وإنمّا خصّ هذين لأنهما عميان وكان [ الغالب ] على زمن عيسى الطبّ فأراهم اللّه المعجزة من جنس ذلك داعياً لا دواء له .

وقال وهب : ثم اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق أتاه عيسى يمشي إليه . إنمّا كان يداويهم بالدّعاء على شرط الإيمان .

{ وَأُحْييِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ } : قيل : أحيا أربعة أنفس : عازر وكان صدّيقاً فأرسل أخته إلى عيسى أنّ أخاك عازر يموت فأته وكان بينه وبين داره ثلاثة أيّام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيّام ، فقال لأخته : انطلقي بنا إلى قبره ، فانطلقت معهم إلى قبره وهو في صخرة مطبقة . فقال عيسى : اللهم ربّ السماوات السّبع والأرضين السّبع ، إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك وأُخبرهم أنّي أُحيي الموتى بإذنك فأحيي عازر . قال : فقام عازر وودكه تقطر ، فخرج من قبره وبقي وولد له .

وابن العجوز مُرّ به ميّتاً على عيسى ( عليه السلام ) على سرير يحمل فدعا اللّه عيسى ( عليه السلام ) فجلس على سريره ونُزّل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له .

والبنت العاقر قيل له : أتُحييها وقد ماتت أمس ؟ فدعا اللّه فعاشت فبقيت وولد لها .

وسام بن نوح دعا عيسى ( عليه السلام ) باسم اللّه الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه . فقال : قد قامت القيامة ؟ قال : لا ولكني دعوتك باسم اللّه الأعظم . قال : ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزّمان .

وكان سام قد عاش خمسمائة سنة وهو شاب ، ثم قال : مُت . فقال : بشرط أن يعيذني اللّه من سكرات الموت . فدعا اللّه عز وجّل ففعل .

قال الكلبي : كان عيسى ( عليه السلام ) يحيي الأموات ب : يا حىّ يا قيّوم .

{ وَأُنَبِّئُكُمْ } : أُخبركم ، { بِمَا تَأْكُلُونَ } : ممّا أعاينه ، { وَمَا تَدَّخِرُونَ } : وما ترزمونه ، { فِي بُيُوتِكُمْ } : حتى تأكلوه ، وهو يفعلون من دخرت وقرأ مجاهد وأيوب السختياني : تذخرون ، بالذال المعجمة وسكونها وفتح الخاء من ذخر يذخر ذخراً .

قال الكلبي : فلما أبرأ عيسى الأكمه والأبرص وأحيي الموتى قالوا : هذا سحر ، ولكن أخبرنا بما نأكل وما ندّخر وكان يخبر الرجل بما أكل من غدائه وبما يأكل في عشائه .

وقال السدي : كان عيسى ( عليه السلام ) إذا كان في الكتّاب يحدّث الغلمان بما يصنع أبوهم ، ويقول للغلام إنطلق ، فقد أكل أهلك كذا وكذا ، ورفعوا لك كذا وكذا ، وهم يأكلون كذا وكذا . فينطلق الصبي إلى أهله ، ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون له من أخبرك بهذا ؟ فيقول : عيسى ، فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فحبسوهم في بيت ، فجاء عيسى يطلبهم . قالوا : ليسوا عندنا . فقال : فما في هذا البيت ؟ قالوا : خنازير . قال عيسى : كذلك يكونون . ففتحوا عليهم ، فإذا هم خنازير ، ففجئنا لذلك في بأس [ . . . ] بنو إسرائيل ، فلمّا خافت عليه أُمه حملته على حميّر لها ، وخرجت به هاربة إلى مصر .

وقال قتادة : إنمّا هذا في المائدة وكان خواناً ينزل عليهم إنمّا كانوا كالمنِّ والسلوى ، وأمر القوم أن لا يخونوا لا يخبئوا لغد ، وحذّرهم البلاء إن فعلوا ذلك [ . . . ] وخونوا . فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وما ادخروا منه . فمسخهم اللّه خنازير .

{ إِنَّ فِي ذلِكَ } الذي ذكرت لكم .

{ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }