قوله تعالى : { قال رب احكم بالحق } قرأ حفص عن عاصم قال : ( رب احكم ) وقرأ والآخرون : { قل رب احكم } يعني : افصل بيني وبين من كذبني بالحق ، فإن قيل : كيف قال احكم بالحق والله لا يحكم إلا بالحق ؟ قيل : الحق ها هنا بمعنى العذاب لأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر ، نظيره قوله تعالى : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } قال أهل المعاني معناه : رب احكم بحكمك الحق فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه ، والله تعالى يحكم بالحق طلب منه أو لم يطلب ، ومعنى الطلب : ظهور الرغبة من الطالب في حكمه الحق { و ربنا الرحمن المستعان على ما تصفون } من الكذب والباطل .
{ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } أي : بيننا وبين القوم الكافرين ، فاستجاب الله هذا الدعاء ، وحكم بينهم في الدنيا قبل الآخرة ، بما عاقب الله به الكافرين من وقعة " بدر " وغيرها .
{ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي : نسأل ربنا الرحمن ، ونستعين به على ما تصفون ، من قولكم سنظهر عليكم ، وسيضمحل دينكم ، فنحن في هذا ، لا نعجب بأنفسنا ، ولا نتكل على حولنا وقوتنا ، وإنما نستعين بالرحمن ، الذي ناصية كل مخلوق بيده ، ونرجوه أن يتم ما استعناه به من رحمته ، وقد فعل ، ولله الحمد .
وهنا يتوجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى ربه . وقد أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة . وآذنهم على سواء ، وحذرهم بغتة البلاء . . يتوجه إلى ربه الرحمن يطلب حكمه الحق بينه وبين المستهزئين الغافلين ، ويستعينه على كيدهم وتكذيبهم . وهو وحده المستعان :
( قال : رب احكم بالحق ، وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ) . .
وصفة الرحمة الكبيرة هنا ذات مدلول . فهو الذي أرسله رحمة للعالمين ، فكذب به المكذبون واستهزأ به المستهزئون . وهو الكفيل بأن يرحم رسوله ويعينه على ما يصفون .
وبهذا المقطع القوي تختم السورة كما بدأت بذلك المطلع القوي . فيتقابل طرفاها في إيقاع نافذ قوي مثير عميق .
{ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } أي : افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق .
قال قتادة : كان الأنبياء ، عليهم السلام ، يقولون : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [ الأعراف : 89 ] ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك .
وعن مالك ، عن زيد بن أسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالا قال : { رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } .
وقوله : { وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي : على ما يقولون ويفترون من الكذب ، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك ، والله المستعان عليكم في ذلك{[19956]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبّ احْكُم بِالْحَقّ وَرَبّنَا الرّحْمََنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد : يا ربّ افصل بيني وبين من كذّبني من مشركي قومي وكفر بك وعبد غيرك ، بإحلال عذابك ونقمتك بهم وذلك هو الحقّ الذي أمر الله تعالى نبيه أن يسأل ربه الحكم به ، وهو نظير قوله جلّ ثناؤه : رَبّنا افْتَحْ بَيْنَنَا وبَينَ قَوْمِنا بالحَقّ وأنْتَ خَيْرُ الفاتِحين .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : قالَ رَبّ احْكُمْ بالحَقّ قال : لا يحكم بالحقّ إلا الله ، ولكن إنما استعجل بذلك في الدنيا ، يسأل ربه على قومه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا شهد قتالاً قال : «رَبّ احْكُمْ بالحَقّ » .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : قُلْ رَبّ احْكُمْ بكسر الباء ، ووصل الألف ألف «احكم » ، على وجه الدعاء والمسألة ، سوى أبي جعفر ، فإنه ضمّ الباء من «الربّ » ، على وجه نداء المفرد ، وغير الضحاك بن مزاحم ، فإنه رُوي عنه أنه كان يقرأ ذلك : «رَبّي أحْكَمُ » على وجه الخبر بأن الله أحكَمُ بالحقّ من كلّ حاكم ، فيثبت الياء في «الربّ » ، ويهمز الألف من «أحْكَمُ » ، ويرفع «أَحْكُم » ، على أنه للربّ تبارك وتعالى .
والصواب من القراءة عندنا في ذلك : وصل الباء من الربّ وكسرها ب «احْكُمْ » ، وترك قطع الألف من «احْكُمْ » ، على ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحُجة من القرّاء عليه وشذوذ ما خالفه . وأما الضحاك فإن في القراءة التي ذُكرت عنه زيادة عنه زيادة حرف على خطّ المصاحف ، ولا ينبغي أن يزاد ذلك فيها ، مع صحة معنى القراءة بترك زيادته . وقد زعم بعضهم أن معنى قوله : رَبّ احْكُمْ بالحَقّ قل : ربّ احكم بحكمك الحقّ ، ثم حذف الحكم الذي الحقّ نعت له وأقيم الحقّ مقامه . ولذلك وجه ، غير أن الذي قلناه أوضح وأشبه بما قاله أهل التأويل ، فلذلك اخترناه .
وقوله : وَرَبّنا الرّحْمَنُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ يقول جلّ ثناؤه : وقل يا محمد : وربنا الذي يرحم عباده ويعُمهم بنعمته ، الذي أستعينه عليكم فيما تقولون وتصفون من قولكم لي فيما أتيتكم به من عند الله إنْ هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أفَتَأْتُونَ السّحْرَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ ، وقولكم : بَلِ افْتَرَاه بَلْ هُوَ شاعِرٌ ، وفي كذبكم على الله جلّ ثناؤه وقيلكم : اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدا فإنه هين عليه تغيير ذلك وفصل ما بيني وبينكم بتعجيل العقوبة لكم على ما تصفون من ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.