75- قل - أيها الرسول - لهؤلاء : من كان في الضلالة والكفر أمهله الرحمن ، وأملي له في العمر ليزداد طغياناً وضلالا ، وسيردد الكفار قولهم للمؤمنين : أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نديا ؟ إلي أن يشاهدوا ما يوعدون : إما تعذيب المسلمين إياهم في الدنيا بالقتل والأسر ، وإما خزي القيامة لهم ، فحينئذ يعلمون أنهم شر منزلا وأضعف أنصارا .
قوله تعالى : { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً } ، هذا أمر بمعنى الخبر ، معناه : يدعه في طغيانه ويمهله في كفره ، { حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب } ، وهو الأسر والقتل في الدنيا ، { وإما الساعة } يعني : القيامة ، فيدخلون النار ، { فسيعلمون } عند ذلك { من هو شر مكاناً } منزلاً { وأضعف جنداً } ، أقل ناصراً أهم أم المؤمنون ؟ لأنهم في النار ، والمؤمنون في الجنة وهذا رد عليهم في قوله { أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً } .
{ 75 } { قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا }
لما ذكر دليلهم الباطل ، الدال على شدة عنادهم ، وقوة ضلالهم ، أخبر هنا ، أن من كان في الضلالة ، بأن رضيها لنفسه ، وسعى فيها ، فإن الله يمده منها ، ويزيده فيها حبا ، عقوبة له على اختيارها على الهدى ، قال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
{ حَتَّى إِذَا رَأَوْا } أي : القائلون : { أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } { مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ } بقتل أو غيره { وَإِمَّا السَّاعَةَ } التي هي باب الجزاء على الأعمال { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا } أي : فحينئذ يتبين لهم بطلان دعواهم ، وأنها دعوى مضمحلة ، ويتيقنون أنهم أهل الشر ، { وَأَضْعَفُ جُنْدًا } ولكن لا يفيدهم هذا العلم شيئا ، لأنه لا يمكنهم الرجوع إلى الدنيا ، فيعملون غير عملهم الأول .
يعقب السياق بتلك اللفتة ثم يأمر الرسول [ ص ] أن يدعو عليهم في صورة مباهلة - بأن من كان من الفريقين في الضلالة فليزده الله مما هو فيه ؛ حتى يأتي وعده في الدنيا أو في الآخرة :
( قل : من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ، حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا ) . .
فهم يزعمون أنهم أهدى من أتباع محمد [ ص ] لأنهم أغنى وأبهى . فليكن ! وليدع محمد ربه أن يزيد الضالين من الفريقين ضلالا ، وأن يزيد المهتدين منهما اهتداء . . حتى إذا وقع ما يعدهم ؛ وهو لا يعدو أن يكون عذاب الضالين في الدنيا بأيدي المؤمنين ، أو عذابهم الأكبر يوم الدين - فعندئذ سيعرفون : أي الفريقين شر مكانا وأضعف جندا .
القول في تأويل قوله تعالى { قُلْ مَن كَانَ فِي الضّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرّحْمََنُ مَدّاً حَتّىَ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمّا العَذَابَ وَإِمّا السّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرّ مّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم ، القائلين : إذا تتلى عليهم آياتنا ، أيّ الفريقين منا ومنكم خير مقاما وأحسن نديا ، من كان منا ومنكم في الضلالة جائرا عن طريق الحقّ . سالكا غير سبيل الهدى ، فليمدد له الرحمن مدّا يقول : فليطوّل له الله في ضلالته ، وليمله فيها إملاء . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فِي الضّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرّحْمَنُ مَدّا فليَدعْه الله في طغيانه .
وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقوله : حتى إذَا رَأوْا ما يُوعَدُونَ إمّا العَذَابَ وإمّا السّاعَةَ يقول تعالى ذكره : قل لهم : من كان منا ومنكم في الضلالة ، فليمدد له الرحمن في ضلالته إلى أن يأتيهم أمر الله ، إما عذاب عاجل ، أو يلقوا ربهم عند قيام الساعة التي وعد الله خلقه أن يجمعهم لها ، فإنهم إذا أتاهم وعد الله بأحد هذين الأمرين فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرّ مَكانا ومسكنا منكم ومنهم وأضْعَفُ جُنْدا أهم أم أنتم ؟ ويتبينون حينئذٍ أيّ الفريقين خير مقاما ، وأحسن نديا .
وأما قوله { قل من كان في الضلالة } الآية فقول يحتمل معنيين ، أحدهما أن يكون بمعنى الدعاء والابتهال كأنه يقول الأضل منا أو منكم «مد » الله له أي أملى له حتى يؤول ذلك إلى عذابه ، والمعنى الأخر أن يكون بمعنى الخبر كأنه يقول من كان ضالاً من الأمم فعادة الله فيه أنه «يمد » له ولا يعاجله حتى يفضي ذلك إلى عذابه في الآخرة ، فاللام في قوله { فليمدد } على المعنى الأول لام رغبة في صيغة الأمر ، وعلى المعنى الثاني لام أمر دخلت في معنى الخبر ليكون أوكد وأقوى وهذا موجود في كلام العرب وفصاحتها .
{ حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً }
{ حتى } في هذه الآية حرف ابتداء دخلت على جملة وفيها معنى الغاية ، و { إذا } شرط ، وجوابها في قوله { فسيعلمون } والرؤية رؤية العين ، و { العذاب } و { الساعة } بدل من { ما } التي وقعت عليها { رأوا } و { إما } هي المدخلة للشك في أول الكلام والثانية عطف عليها ، و { العذاب } يريد به عذاب الدنيا ونصرة المؤمنين عليهم ، و «الجند » النصرة والقائمون بأمر الحرب ، و { شر مكاناً } بإزاء قولهم { خير مقاماً } [ مريم : 73 ] { وأضعف جنداً } بإزاء قولهم { أحسن ندياً } [ مريم : 72 ]