قوله تعالى : { فأجمعوا كيدكم } قرأ أبو عمرو " فأجمعوا " بوصل الألف وفتح الميم من الجمع أي : لا تدعوا أشياءً من كيدكم إلا جئتم بها بدليل قوله : فجمعته كيده بمعنى واحد والصحيح أن معناه : العزم والإحكام . أي : أعزموا كلكم على كيده مجتمعين له لا تختلفوا فيختل أمركم { ثم ائتوا صفاً } أي جميعاً قاله مقاتل ، و الكلبي . وقال قوم ، أي : مصطفين مجتمعين ليكون أشد لهيبتكم ، وقال أبو عبيدة : الصف المجمع ويسمى المصلى صفاً معناه : ثم ائتوا المكان الموعود صفا { وقد أفلح اليوم من استعلى } أي : فاز من غلب .
{ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } أي : أظهروه دفعة واحدة متظاهرين متساعدين فيه ، متناصرين ، متفقا رأيكم وكلمتكم ، { ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا } ليكون أمكن لعملكم ، وأهيب لكم في القلوب ، ولئلا يترك بعضكم بعض مقدوره من العمل ، واعلموا أن من أفلح اليوم ونجح وغلب غيره ، فإنه المفلح الفائز ، فهذا يوم له ما بعده من الأيام .
فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا . وقد أفلح اليوم من استعلى ) . .
وهكذا تنزل الكلمة الصادقة الواحدة الصادرة عن عقيدة ، كالقذيفة في معسكر المبطلين وصفوفهم ، فتزعزع اعتقادهم في أنفسهم وفي قدرتهم ، وفي ما هم عليه من عقيدة وفكرة . وتحتاج إلى مثل هذا التحميس والتشجيع . وموسى وأخوه رجلان اثنان ، والسحرة كثيرون ، ووراءهم فرعون وملكه وجنده وجبروته وماله . . ولكن موسى وهارون كان معهما ربهما يسمع ويرى . .
ولعل هذا هو الذي يفسر لنا تصرف فرعون الطاغية المتجبر ، وموقف السحرة ومن ورائهم فرعون . فمن هو موسى ومن هو هارون من أول الأمر حتى يتحداهما فرعون ويقبل تحديهما ؛ ويجمع كيده ثم يأتي ، ويحشر السحرة ويجمع الناس ؛ ويجلس هو والملأ من قومه ليشهدوا المباراة ? وكيف قبل فرعون أن يجادله موسى ويطاوله ? وموسى فرد من بني إسرائيل المستعبدين المستذلين تحت قهره ? . . إنها الهيبة التي ألقاها الله على موسى وهارون وهو معهما يسمع ويرى . .
وهي كذلك التي جعلت جملة واحدة توقع الارتباك في صفوف السحرة المدربين ، فتحوجهم إلى التناجي سرا ؛ وإلى تجسيم الخطر ، واستثارة الهمم ، والدعوة إلى التجمع والترابط والثبات .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : " فأجْمِعُوا كَيْدَكُمْ " فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة فأجْمِعُوا كَيْدَكُمْ بهمز الألف من فأجْمِعُوا ، ووجّهوا معنى ذلك إلى : فأحكموا كيدكم ، واعزموا عليه من قولهم : أجمع فلان الخروج ، وأجمع على الخروج ، كما يقال : أزمع عليه ومنه قول الشاعر :
يا لَيْت شعْرِي والمُنى لا تَنْفَعُ *** هَلْ أغْدُوَنْ يَوْما وأمْرِيَ مُجْمَعُ
يعني بقوله : «مجمع » قد أحكم وعزم عليه ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لَمْ يُجْمِعْ عَلى الصّوْمِ مِن اللّيْلِ فَلا صَوْم لَهُ » .
وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل البصرة : «فاجْمِعُوا كَيْد كُمْ » بوصل الألف ، وترك همزها ، من جمعت الشيء ، كأنه وجّهه إلى معنى : فلا تدَعوا من كيدكم شيئا إلا جئتم به . وكان بعض قارئي هذه القراءة يعتلّ فيما ذُكر لي لقراءته ذلك كذلك بقوله : " فَتَوّلى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ " .
قال أبو جعفر : والصواب في قراءة ذلك عندنا همز الألف من أجمع ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأن السحرة هم الذين كانوا به معروفين ، فلا وجه لأن يقال لهم : اجمعوا ما دعيتم له مما أنتم به عالمون ، لأن المرء إنما يجمع ما لم يكن عنده إلى ما عنده ، ولم يكن ذلك يوم تزيد في علمهم بما كانوا يعملونه من السحر ، بل كان يوم إظهاره ، أو كان متفرّقا مما هو عنده ، بعضه إلى بعض ، ولم يكن السحر متفرّقا عندهم فيجمعونه . وأما قوله : " فَجَمَعَ كَيْدَهُ " فغير شبيه المعنى بقوله " فَأجِمعُوا كَيْدَكُمْ " وذلك أن فرعون كان هو الذي يجمع ويحتفل بما يغلب به موسى مما لم يكن عنده مجتمعا حاضرا ، فقيل : فتولى فرعون فجمع كيده .
وقوله : " ثُمّ ائْتُوا صَفّا " يقول : احضروا وجيئوا صفا والصفّ ههنا مصدر ، ولذلك وحد ، ومعناه : ثم ائتوا صفوفا ، وللصفّ في كلام العرب موضع آخر ، وهو قول العرب : أتيت الصفّ اليوم ، يعني به المصلى الذي يصلى فيه .
وقوله : " وَقَدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى " يقول : قد ظفر بحاجته اليوم من علا على صاحبه فقهره ، كما :
حدثنا ابن حميد ، قلا : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه ، قال : جمع فرعون الناس لذلك الجمع ، ثم أمر السحرة فقال : ائْتُوا صَفّا " وَقَدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى " أي قد أفلح من أفلج اليوم على صاحبه .
وقرأ جمهور القراء «فأجمعوا » بقطع الألف وكسر الميم على معنى أنقذوا واعزموا ، وقرأ أبو عمرو وحده «فاجمعوا » من جمع أي ضموا سحركم بعضه إلى بعض ، وقرأ ابن كثير «ثمَّ » بفتح الميم «ايْتوا » بسكون الياء ، وقرأ أيضاً في رواية شبل عنه بكسر الميم «ثمِ ايتوا » قال أبو علي وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من «ثم » وقرأ الجمهور «ثم ائتوا » بفتح الميم وبهمزة بعد الألف ، قوله { صفاً } حال أي مصطفين وتداعوا إلى هذا لأنه أهيب وأظهر لهم ، و { أفلح } معناه ظفر ببغيته و { استعلى } معناه طلب العلو في أمره وسعى سعيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.