إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{فَأَجۡمِعُواْ كَيۡدَكُمۡ ثُمَّ ٱئۡتُواْ صَفّٗاۚ وَقَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡيَوۡمَ مَنِ ٱسۡتَعۡلَىٰ} (64)

وقوله تعالى : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } تصريحٌ بالمطلوب إثرَ تمهيدِ المقدّمات والفاءُ فصيحةٌ ، أي إذ كان الأمرُ كما ذُكر من كونهما ساحرَين يريدان بكم ما ذُكر من الإخراج والإذهاب فأزمعوا كيدَكم واجعلوه مُجمَعاً عليه بحيث لا يتخلّف عنه واحدٌ منكم وارمُوا عن قوس واحدةٍ ، وقرئ فاجْمَعوا من الجمع ويعضدُه قوله تعالى : { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي فاجْمَعوا أدواتِ سحركم ورتّبوها كما ينبغي { ثُمَّ ائتوا صَفّاً } أي مصطفّين ، أُمروا بذلك لأنه أهْيبُ في صدور الرائين وأدخلُ في استجلاب الرهبة من المشاهِدين ، قيل : كانوا سبعين ألفاً مع كل منهم حبلٌ وعصاً وأقبلوا عليه إقبالةً واحدة ، وقيل : كانوا اثنين وسبعين ساحراً اثنان من القِبط والباقي من بني إسرائيلَ ، وقيل : تِسعَمائة : ثلاثُمائةٍ من الفرس ، وثلاثُمائةٍ من الروم ، وثلاثمائة من الإسكندرية ، وقيل : خمسةَ عشرَ ألفاً ، وقيل : بضعةً وثلاثين ألفاً والله أعلم . ولعل الموعدَ كان مكاناً متسعاً خاطبهم موسى عليه الصلاة والسلام بما ذكر في قُطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قُطر آخرَ منه ، ثم أُمروا بأن يأتوا وسَطَه على الوجه المذكور ، وقد فُسّر الصفُّ بالمصلّى لاجتماع الناسِ فيه في الأعياد والصلواتِ ووجهُ صِحّتِه أن يكون علماً لموضع معّينٍ من المكان الموعود ، وأما إرادةُ مصلًّى من المصلَّيات بعد تعين المكان الموعودِ فلا مساغ لها قطعاً ، وقوله تعالى : { وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } اعتراضٌ تذييليٌّ من قِبلهم مؤكدٌ لما قبله من الأمرين ، أي قد فاز بالمطلوب من غلب يريدون بالمطلوب : ما وعدهم فرعونُ من الأجر والتقريب حسبما نطق به قوله تعالى : { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } وبمن غلب : أنفسَهم جميعاً على طريقة قولهم : { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } أو مَنْ غلب منهم حثاً لهم على بذل المجهودِ في المغالبة ، هذا هو اللائقُ بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم ، وقد قيل : كان نجواهم أن قالوا حين سمِعوا مقالةَ موسى عليه الصلاة والسلام : ما هذا بقول ساحر ، وقيل : كان ذلك أن قالوا : إن غَلَبنا موسى اتّبعناه ، وقيل : كان ذلك قولَهم : إن كان ساحراً فسنغلِبه وإن كان من السماء فله أمرٌ ، فيكون إسرارُهم حينئذ من فرعون ومَلئِه ويُحمل قولُهم : إن هذان لساحران الخ ، على أنهم اختلفوا فيما بينهم على الأقاويل المذكورةِ ثم رجعوا عن ذلك بعد التنازُعِ والتناظُر واستقرت آراؤهم على ذلك وأبَوْا إلا المناصبةَ للمعارضة ، وأما جعلُ ضمير قالوا لفرعون وملَئِه على أنهم قالوا ذلك للسحرة رداً لهم عن الاختلاف وأمروهم بالإجماع والإزماعِ ، وإظهارِ الجلادة بالإتيان على وجه الاصطفافِ فمُخِلٌّ بجزالة النظمِ الكريم كما يشهد به الذوقُ السليم .