34- وإن حالهم القائمة الآن تسوغ تعذيبهم ، لأنهم يمنعون الناس من المسجد الذي حرم الله القتال حوله ، ولكن يؤخرهم الله لما قدَّره في علمه من إيمان الكثيرين منهم ، وإنهم في حالهم هذه ليسوا نصراء ذلك المسجد المكرم ، لأنهم دنَّسوه بالوثنية ، وإنما نصراؤه الحقيقيون هم المؤمنون الطائعون لله ، ولكن أكثر المشركين لا يعلمون الدين ، ولا مقام ذلك البيت الكريم .
قوله تعالى : { وما لهم ألا يعذبهم الله } أي : وما يمنعهم من أن يعذبوا ، يريد بعد خروجك من بينهم .
قوله تعالى : { وهم يصدون عن المسجد الحرام } ، أي : يمنعون المؤمنين من الطواف بالبيت ، وقيل : أراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال ، وأراد بقوله { وما لهم أن لا يعذبهم الله } أي : بالسيف ، وقيل : أراد بالأول عذاب الدنيا ، وبهذه الآية عذاب الآخرة . وقال الحسن : الآية الأولى وهي قوله { وما كان الله ليعذبهم } منسوخة بقوله تعالى : { وما لهم أن لا يعذبهم الله } .
قوله تعالى : { وما كانوا أولياءه } ، قال الحسن : كان المشركون يقولون نحن أولياء المسجد الحرام ، فرد الله عليهم بقوله : { وما كانوا أولياءه } أي : أولياء البيت الحرام . قوله تعالى : { إن أولياؤه } أي : ليس أولياء البيت .
قوله تعالى : { إلا المتقون } ، يعني المؤمنين الذين يتقون الشرك .
ثم قال : وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي : أي شيء يمنعهم من عذاب اللّه ، وقد فعلوا ما يوجب ذلك ، وهو صد الناس عن المسجد الحرام ، خصوصا صدهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، الذين هم أولى به منهم ، ولهذا قال : وَمَا كَانُوا أي : المشركون أَوْلِيَاءَهُ يحتمل أن الضمير يعود إلى اللّه ، أي : أولياء اللّه . ويحتمل أن يعود إلى المسجد الحرام ، أي : وما كانوا أولى به من غيرهم . إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وهم الذين آمنوا باللّه ورسوله ، وأفردوا اللّه بالتوحيد والعبادة ، وأخلصوا له الدين . وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ فلذلك ادَّعَوْا لأنفسهم أمرا غيرهم أولى به .
( وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام . وما كانوا أولياءه . إن أولياؤه إلا المتقون . ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . .
إنه لا يمنع العذاب عنهم ما يدعونه من أنهم ورثة إبراهيم وسدنة بيت الله الحرام . . فهذه ليست سوى دعوى لا أساس لها من الواقع . إنهم ليسوا أولياء هذا البيت ولا أصحابه . إنهم أعداء هذا البيت وغاصبوه ! إن بيت الله الحرام ليس تركة يرثها الخلف عن السلف . إنه بيت الله يرثه أولياء الله المتقون لله . ومثله دعواهم أنهم ورثة إبراهيم - عليه السلام - فوراثة إبراهيم ليست وراثة دم ونسب ؛ إنما هي وراثة دين وعقيدة . والمتقون هم ورثة إبراهيم وبيت الله الذي بناه لله ؛ فإذا هم يصدون عنه أولياءه الحقيقيين المؤمنين بدين إبراهيم !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوَاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاّ الْمُتّقُونَ وَلََكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } . .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تأويله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْت فِيهِمْ : أي وأنت مقيم بين أظهرهم . قال : وأنزلت هذه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة . قال : ثم خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم ، فاستغفر من بها من المسلمين ، فأنزل بعد خروجه عليه حين استغفر أولئك بها : وَما كانَ الله مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرونَ . قال : ثم خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم ، فعذّب الكفار . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن ابن أبزي ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة ، فأنزل الله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ . قال : فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فأنزل الله : وَما كانَ اللّهُ مُعَذبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . قال : فكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها يستغفرون ، يعني بمكة فلما خرجوا أنزل الله عليه : وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَما كانُوا أوْلِياءَهُ قال : فأذن الله له في فتح مكة ، فهو العذاب الذي وعدهم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : وَما كانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وأنْت فِيهِمْ يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم . وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني : من بها من المسلمين . وَمَا لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ يعني مكة ، وفيها الكفار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قول الله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ يعني : أهل مكة . وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وفيهم المؤمنون ، يستغفرون يغفر لمن فيهم من المسلمين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الرازي وأبو داود الحفري ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن ابن أبزى : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : بقية من بقي من المسلمين منهم ، فلما خرجوا ، قال : وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ .
قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن أبي مالك : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ قال : أهل مكة .
وأخبرنا أبيّ ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : المؤمنون من أهل مكة . وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : المشركون من أهل مكة .
قال : حدثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : المؤمنون يستغفرون بين ظهرانيهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يقول : الذين آمنوا معك يستغفرون بمكة ، حتى أخرجك والذين آمنوا معك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال : ابن عباس : لم يعذّب قرية حتى يخرج النبيّ منها والذين آمنوا معه ويلحقه بحيث أمر . وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني المؤمنين . ثم أعاد إلى المشركين ، فقال : وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ قال : يعني أهل مكة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما كان الله ليعذّب هؤلاء المشركين من قريش بمكة وأنت فيهم يا محمد ، حتى أخرجك من بينهم . وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهؤلاء المشركون يقولون : يا ربّ غفرانك وما أشبه ذلك من معاني الاستغفار بالقول . قالوا : وقوله : وَما لهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ في الاَخرة . ذكر من قال ذلك .
حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا عكرمة ، عن أبي زميل ، عن ابن عباس : إن المشركين كانوا يطوفون بالبيت يقولون : لبيك لا شريك لك لبيك ، فيقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «قَدْ قَدْ » فيقولون : لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك ، ويقولون : غفرانك غفرانك . فأنزل الله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . فقال ابن عباس : كان فيهم أمانان : نبيّ الله والاستغفار ، قال : فذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وبقي الاستغفار . وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَما كانُوا أوْلِياءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ قال : فهذا عذاب الاَخرة ، قال : وذاك عذاب الدنيا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا : قالت قريش بعضها لبعض : محمد أكرمه الله من بيننا اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأمْطِرْ عَلَيْنا . . . الاَية فلما أمسوا ندموا على ما قالوا ، فقالوا : غفرانك اللهمّ فأنزل الله : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . . . إلى قوله : لا يَعْلَمُونَ .
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كانوا يقولون يعني المشركين : والله إن الله لا يعذّبنا ونحن نستغفر ، ولا يعذّب أمة ونبيها معها حتى يخرجه عنها وذلك من قوله ورسول لله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يذكر له جهالتهم وغرّتهم واستفتاحهم على أنفسهم ، إذ قالوا اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ كما أمطرتها على قوم لوط ، وقال حين نعى عليهم سوء أعمالهم : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، أي بقولهم ، وإن كانوا يستغفرون كما قال : وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ من آمن الله وعبده ، أي أنت ومن تبعك .
حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، قال : حدثنا أبو بردة ، عن أبي موسى ، قال : إنه كان فيكم أمانان : قوله : ومَا كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : أما النبيّ صلى الله عليه وسلم فقد مضى ، وأما الاستغفار فهو دائر فيكم إلى يوم القيامة .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن عامر أبي الخطاب الثوريّ قال : سمعت أبا العلاء يقول : كان لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمَنتاه : فذهبت إحداهما ، وبقيت الأخرى : وَما كانَ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ . . . الاَية .
وقال آخرون : معنى ذلك : وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم يا محمد ، وما كان الله معذّب المشركين وهم يستغفرون ، أي : لو استغفروا . قالوا : ولم يكونوا يستغفرون فقال جلّ ثناؤه إذ لم يكونوا يستغفرون : وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : إن القوم لم يكونوا يستغفرون ، ولو كانوا يستغفرون ما عذّبوا . وكان بعض أهل العلم يقول : هما أمانان أنزلهما الله ، فأما أحدهما فمضى نبيّ الله ، وأما الاَخر فأبقاه الله رحمة بين أظهركم ، الاستغفار والتوبة .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال الله لرسوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يقول : ما كنت أعذبهم وهم يستغفرون ، ولو استغفروا وأقرّوا بالذنوب لكانوا مؤمنين ، وكيف لا أعذبهم وهم لا يستغفرون ، وما لهم ألا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن محمد وعن المسجد الحرام
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأنْتَ فِيهِمْ وَمَا كانَ اللهُ مُعَذّبهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون قال : يقول : لو استغفروا لم أعذّبهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : وما كان الله ليعذّبهم وهم يسلمون . قالوا : واستغفارهم كان في هذا الموضع : إسلامهم . ذكر من قال ذلك .
حدثنا سوّار بن عبد الله ، قال : حدثنا عبد الملك بن الصباح ، قال : حدثنا عمران بن حدير ، عن عكرمة ، في قوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . قال : سألوا العذاب ، فقال : لم يكن ليعذبهم وأنت فيهم ، ولم يكن ليعذّبهم وهم يدخلون في الإسلام .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وأنْتَ فِيهمْ قال : بين أظهرهم . وقوله : وَهُمْ يَسْتَغْفِروُنَ قال : يسلمون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم بين أظهرهم وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : وهم يسلمون . وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا محمد بن عبيد الله ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأنْتَ فِيهِمْ قال : بين أظهرهم . وَما كان اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهم يَسْتَغْفِرُونَ قال : دخولهم في الإسلام .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وفيهم مَن قد سبق له من الله الدخول في الإسلام . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأنْتَ فِيهِمْ يقول : ما كان الله سبحانه يعذّب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم . ثم قال : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يقول : ومنهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان ، وهو الاستغفار ، ثم قال : وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ فعذّبهم يوم بدر بالسيف .
وقال آخرون : بل معناه : وما كان الله معذّبهم وهم يصلّون . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني : يصلون ، يعني بهذا أهل مكة .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ ، قال : حدثنا حسين الجعفيّ ، عن زائدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قول الله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : يصلون .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ يعني : أهل مكة ، يقول : لم أكن لأعذّبكم وفيكم محمد . ثم قال : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني : يؤمنون ويصلون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : وهم يصلون .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما كان الله ليعذّب المشركين وهم يستغفرون . قالوا : ثم نسخ ذلك بقوله : وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة والحسن البصريّ ، قالا : قال في الأنفال : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فنسختها الاَية التي تليها : وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ . . . إلى قوله : فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فقوتلوا بمكة ، وأصابهم فيها الجوع والحصر .
وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال : تأويله : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يا محمد وبين أظهرهم مقيم ، حتى أخرجك من بين أظهرهم لأني لا أهلك قرية وفيها نبيها . وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون من ذنوبهم وكفرهم ، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك ، بل هم مصرّون عليه ، فهم للعذاب مستحقون ، كما يقال : ما كنت لأحسن إليك وأنت تسيء إليّ ، يراد بذلك : لا أحسن إليك إذا أسأت إليّ ولو أسأت إليّ لم أحسن إليك ، ولكن أحسن إليك لأنك لا تسيء إليّ وكذلك ذلك . ثم قيل : وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ بمعنى : وما شأنهم وما يمنعهم أن يعذّبهم الله وهم لا يستغفرون الله من كفرهم فيؤمنوا به ، وهم يصدّون المؤمنين بالله ورسوله عن المسجد الحرام .
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن القوم أعني مشركي مكة كانوا استعجلوا العذاب ، فقالوا : اللهمّ إن كان ما جاء به محمد هو الحقّ ، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فقال الله لنبيه : ما كنت لأعذّبهم وأنت فيهم وما كنت لأعذّبهم لو استغفروا ، وكيف لا أعذّبهم بعد إخراجك منهم وهم يصدّون عن المسجد الحرام فأعلمه جلّ ثناؤه أن الذين استعجلوا العذاب حائق بهم ونازل ، وأعلمهم حال نزوله بهم ، وذلك بعد إخراجه إياه من بين أظهرهم . ولا وجه لإيعادهم العذاب في الاَخرة ، وهم مستعجلوه في العاجل ، ولا شكّ أنهم في الاَخرة إلى العذاب صائرون ، بل في تعجيل الله لهم ذلك يوم بدر الدليل الواضح على أن القول في ذلك ما قلنا . وكذلك لا وجه لقول مَن وجّه قوله : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إلى أنه عني به المؤمنين ، وهو في سياق الخبر عنهم وعما الله فاعل بهم ، ولا دليل على أن الخبر عنهم قد تقضّى ، وعلى أن ذلك به عنوا ، ولا خلاف في تأويله من أهله موجود . وكذلك أيضا لا وجه لقول من قال : ذلك منسوخ بقوله : وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ . . . الاَية ، لأن قوله جلّ ثناؤه : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ خبر ، والخبر لا يجوز أن يكون فيه نسخ ، وإنما يكون النسخ للأمر والنهي .
واختلف أهل العربية في وجه دخول «أن » في قوله : وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ فقال بعض نحويي البصرة : هي زائدة ههنا ، وقد عملت كما عملت «لا » وهي زائدة ، وجاء في الشعر :
لَوْ لَمْ تكُنْ غَطَفانُ لا ذُنُوبَ لَهَا ***إليّ لامَ ذَوُو أحْسابِها عُمَرَا
وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية ، وقال : لم تدخل «أن » إلاّ لمعنى صحيح ، لأن معنى وَما لَهُمْ ما يمنعهم من أن يعذّبوا ، قال : فدخلت «أن » لهذا المعنى ، وأخرج ب «لا » ، ليعلم أنه بمعنى الجحد ، لأن المنع جحد . قال : و «لا » في البيت صحيح معناها ، لأن الجحد إذا وقع عليه جحد صار خبرا . وقال : ألا ترى إلى قولك : ما زيد ليس قائما ، فقد أوجبت القيام ؟ قال : وكذلك «لا » في هذا البيت .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما كانُوا أوْلِياءَهُ إنّ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ وَلكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .
يقول تعالى ذكره : وما لهؤلاء المشركين ألا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام ، ولم يكونوا أولياء الله إنْ أوْلِيَاؤُهُ يقول : ما أولياء الله إلاّ المتقون ، يعني : الذين يتقون الله بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه . وَلكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يقول : ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن أولياء الله المتقون ، بل يحسبون أنهم أولياء الله .
وبنحو ما قلنا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَما كانُوا أوْلِياءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : إنْ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ مَن كانوا وحيث كانوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَما كانُوا أوْلِياءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ الذين يخرجون منه ، ويقيمون الصلاة عنده ، أي : أنت يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن آمن بك . وَلكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .
وقوله عز وجل : { وما لهم ألا يعذبهم الله } توعد بعذاب الدنيا ، فتقديره وما يعلمهم أو يدريهم ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكون «أن » في موضع نصب{[5317]} ، وقال الطبري : تقديره وما يمنعهم من أن يعذبوا ، والظاهر في قوله { وما } أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسؤال ، وهذا أفصح في القول وأقطع لهم في الحجة ، ويصح أن تكون { ما } نافية ويكون القول إخباراً ، أي وليس لهم ألا يعذبوا وهم يصدون ، وقوله { وهم يصدون } على التأويلين جملة في موضع الحال ، و { يصدون } في هذا الموضع معناه يمنعون غيرهم ، فهو متعدٍّ كما قال الشاعر : [ الوافر ]
صددتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ***{[5318]}
وقد تجيء صد عير متعدٍّ كما أنشد أبو علي : [ البسيط ]
صَّدت ُخَلْيَدُة عنّا ما تكلّمُنا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5319]}
والضمير في قوله { أولياؤه } عائد على الله عز وجل من قوله { يعذبهم الله } ، أو على المسجد الحرام ، كل ذلك جيد ، روي الأخير عن الحسن ، والضمير الآخر تابع للأول وقوله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } معناه لا يعلمون أنهم ليسوا بأوليائه بل يظنون أنهم أولياؤه ، وقوله { أكثرهم } ونحن نجد كلهم بهذه الصفة ، لفظ خارج إما على أن تقول إنه لفظ خصوص أريد به العموم وهذا كثير في كلام العرب ، ومنه حكى سيبويه من قولهم : قل من يقول ذلك ، وهم يريدون لا يقوله أحد .
وإما أن يقول : إنه أراد بقوله { أكثرهم } أن يعلم ويشعر أن بينهم وفي خلالهم قوماً قد جنحوا إلى الإيمان ووقع لهم علم وإن كان ظاهرهم الكفر فاستثارهم من الجميع بقوله { أكثرهم } وكذلك كانت حال مكة وأهلها ، فقد كان فيهم العباس وأم الفضل{[5320]} وغيرهما ، وحكى الطبري عن عكرمة قال الحسن بن أبي الحسن : إن قوله { وما لهم ألا يعذبهم الله } ، ناسخ لقوله { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } .