قوله تعالى : { يوم ينفخ في الصور } قرأ أبو عمرو ( ينفخ ) بالنون وفتحها وضم الفاء لقوله : ( ونحشر ) وقرأ الآخرون : بالياء وضمها ، وفتح الفاء على غير تسمية الفاعل { ونحشر المجرمين } المشركين ، { يومئذ زرقاً } والزرقة : هي الخضرة : في سواد العين ، فيحشرون زرق العيون سود الوجوه . وقيل : ( زرقاً ) أي : عمياً وقيل : عطاشاً .
وقوله : " يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ " يقول تعالى ذكره : وساء لهم يوم القيامة ، يوم ينفخ في الصور ، فقوله : " يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ " ردّ على يوم القيامة . وقد بيّنا معنى النفخ في الصور ، وذكرنا اختلاف المختلفين في معنى الصور ، والصحيح في ذلك من القول عندي بشواهده المغنية عن إعادته في هذا الموضع قبل .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار« يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ » بالياء وضمها على ما لم يسمّ فاعله ، بمعنى : يوم يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور . وكان أبو عمرو بن العلاء يقرأ ذلك «يَوْمَ نَنْفُخُ فِي الصّورِ » بالنون بمعنى : يوم ننفخ نحن في الصور ، كأن الذي دعاه إلى قراءة ذلك كذلك طلبه التوفيق بينه وبين قوله : " ونَحْشُرُ المُجْرِمِينَ " إذ كان لا خلاف بين القرّاء في نحشر أنها بالنون .
قال أبو جعفر : والذي أختار في ذلك من القراءة يوم ينفخ بالياء على وجه ما لم يسمّ فاعله ، لأن ذلك هو القراءة التي عليها قرّاء الأمصار وإن كان للذي قرأ أبو عمرو وجه غير فاسد .
وقوله : " ونَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقا " يقول تعالى ذكره : ونسوق أهل الكفر بالله يومئذٍ إلى موقف القيامة زرقا ، فقيل : عنى بالزرق في هذا الموضع : ما يظهر في أعينهم من شدة العطش الذي يكون بهم عند الحشر لرأي العين من الزرق . وقيل : أريد بذلك أنهم يحشرون عميا ، كالذي قال الله " وَنحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيا " .
{ يوم ينفخ في الصور } وقرأ أبو عمرو بالنون على إسناد النفخ إلى الأمر به تعظيما له أو للنافخ . وقرىء بالياء المفتوحة على أن فيه ضمير الله أو ضمير إسرافيل وإن لم يجر ذكره لأنه المشهور بذلك ، وقرىء { في الصور } وهو جمع صورة وقد سبق بيان ذلك { ونحشر المجرمين يومئذ } وقرىء " ويحشر المجرمون " { زرقا } زرق العيون وصفوا بذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب ، لأن الروم كانوا أعدى أعدائهم وهم زرق العين ولذلك قالوا : صفة العدو أسود الكبد أصهب السبال ، أزرق العين أو عميا ، فإن حدقة الأعمى تزراق .
وقرأ الجمهور «يُنفخ » بضم الياء وبناء الفعل للمفعول ، وقرأت فرقة «يَنفخ » بفتح الياء وبناء الفعل للفاعل ، أي ينفخ الملك . وقرأ أبو عمرو وحده «ننفخ » بالنون أي بأمرنا وهذه القراءة تناسب قوله { ونحشر } . وقرأ الجمهور «في الصور » بسكون الواو ، ومذهب الجمهور أنه القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وبهذا جاءت الأحاديث ، وقالت فرقة «الصوَر » جمع صورة كثمرة وثمر . وقرأ ابن عياض «ينفخ في الصوَر » بفتح الواو وهذه صريحة في بعث الأجساد من القبور ، وقرأت فرقة هي الجمهور ، «ونحشر » بالنون ، وقرأت فرقة «ويحشر » بالياء ، وقرأت فرقة «ويُحشر » بضم الياء «المجرمون » على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهي قراءة مخالفة لخط المصحف وقوله :{ زرقاً } اختلف الناس في معناه ، فقالت فرقة يحشرهم أول قيامهم سود الألوان زرق العيون تشويه ما ثم يعمون بعد ذلك وهي مواطن ، وقالت فرقة إنهم يحشرون عطاشاً والعطش الشديد يرد سواد العين إلى البياض فكأنهم بيض سواد عيونهم من شدة العطش ، وقالت فرقة أراد زرق الألوان وهي غاية في التشويه لأنهم يجيئون كلون الرماد ، ومهيع كلام العرب أن يسمى هذا اللون أزرق ومنه زرقة الماء قال الشاعر : [ زهير بن أبي سلمى ] [ الطويل ]
فلما وردن الماء زرقاً جمامه . . . وضعن عصي الحاضر المتخيم{[1]}
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ" يقول تعالى ذكره: وساء لهم يوم القيامة، يوم ينفخ في الصور، فقوله: "يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ "ردّ على يوم القيامة...
"يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ"...: يوم يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور.
وقوله: "ونَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقا" يقول تعالى ذكره: ونسوق أهل الكفر بالله يومئذٍ إلى موقف القيامة زرقا، فقيل: عنى بالزرق في هذا الموضع: ما يظهر في أعينهم من شدة العطش الذي يكون بهم عند الحشر لرأي العين من الزرق. وقيل: أريد بذلك أنهم يحشرون عميا، كالذي قال الله "وَنحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيا".
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... قيل: في الزرق قولان، أحدهما: أن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب؛ لأنّ الروم أعداؤهم وهم زرق العيون ولذلك قالوا في صفة العدوّ: أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين. والثاني: أنّ المراد العمى؛ لأنّ حدقة من يذهب نور بصره تزراقّ.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الصُّور، فقال:"قَرنٌ يُنفَخ فيه". وقد جاء في حديث "الصور "من رواية أبي هريرة: أنه قرن عظيم، الدَّارة منه بقدر السماوات والأرض، ينفخ فيه إسرافيل، عليه السلام. وجاء في الحديث:"كيف أنعَمُ وصاحب القَرْن قد التقم القَرْن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له "فقالوا: يا رسول الله، كيف نقول؟ قال:"قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يوم ينفخ} أي بعظمتنا -على قراءة أبي عمرو بالنون مبنياً لفاعل، ودل على تناهي العظمة بطريقة كلام القادرين في قراءة الباقين بالياء مبنياً للمفعول {في الصور}، فيقوم الموتى من القبور {ونحشر} أي بعظمتنا {المجرمين} منهم الذين قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وعدل عن أن يقول: ونحشرهم- لبيان الوصف الذي جره لهم: الإعراض عن الذكر {يومئذ} أي يوم القيامة، ويكون لهم ما تقدم {زرقاً} أي زرق العيون والجسوم على هيئة من ضرب فتغير جسمه
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا، عبث لا يسوغ للمسلم. أفاده بعض المحققين.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
والصور: قرن ونحوه ينفخ فيه حين يدعى الناس إلى المحشر كما ينفخ فيه في الدنيا حين الأسفار وفي المعسكرات. زرقا: أي زرق الأبدان سود الوجوه، لما هم فيه من الشدائد والأهوال. {يوم ينفخ في الصور} أي هذا اليوم هو يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية إيذانا بالقيام للحشر والحساب. {ونحشر المجرمين يومئذ زرقا} أي وفي هذا اليوم يساق المجرمون إلى المحشر شاحبي الألوان زرق الوجوه، لما هم فيه من مكابدة الأهوال ومقاساة الشدائد التي تحل بهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{يَوْمَ يُنفَخُ في الصُّورِ} بدل من {يومَ القيامة} في قوله {وسَاءَ لهم يوم القيامة حملاً}، وهو اعتراض بين جملة {وقد ءَاتيناك من لدُنَّا ذِكراً} وما تبعها وبين جملة {وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً}، تخلّص لذكر البعث والتذكير به والنذارةِ بما يحصل للمجرمين يومئذ.
والصُور: قَرن عظيم يُجعل في داخله سِداد لبعض فضائه فإذا نفخ فيه النافخ بقوة خرج منه صوت قوي، وقد اتخذ للإعلام بالاجتماع للحرب. وتقدم عند قوله تعالى: {قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور} في سورة الأنعام (73)...
والزرق: جمع أزرق، وهو الذي لونه الزُّرقة. والزرقة: لون كلون السماء إثر الغروب، وهو في جلد الإنسان قبيح المنظر لأنه يشبه لون ما أصابه حرقُ نارٍ. وظاهر الكلام أن الزرقة لون أجسادهم فيكون بمنزلة قوله يوم {تبيض وجود وتسود وجوه} [آل عمران: 106]، وقيل: المراد لون عيونهم، فقيل: لأنّ زرقة العين مكروهة عند العرب. والأظهر على هذا المعنى أن يراد شدّة زرقة العين لأنّه لون غير معتاد...
وقيل: المراد بالزُّرق العُمْي، لأن العمى يلوّن العين بزرقة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وعندي أن قوله تعالى: {يوم ينفخ في الصور} تصوير لجمع الأموات وبعثهم بأنه لا يتجاوز النداء كقوله (كن فيكون) كالقائد ينفخ في البوق فيجتمع الجند بل إنه أسرع من لمح البصر، إذ يكفي النداء من رب العزة فيجتمع الجميع، وإذا اجتمع الجميع اختص الله المجرمين بالذكر، فقال عز من قائل: {ونحشر المجرمين يومئذ رزقا}... لأنهم الذين كفروا وعاندوا فكان اليوم عليهم، وعاندوا واستكبروا، وقد قال تعالى: {نحشر} أي نجمعهم مكدسين كالأشياء لا كرامة لهم بل مهانين غير محترمين،...وقال تعالى في سوء حالهم {زرقا}، وزرقا أي أن أعينهم عميت لأن العين إذا عميت كان سواد حبتها أزرق، وذلك تشويه لها وتشويه للوجه وطمس للعين...
.ولا نحسب أن وصفهم بزرق العيون ذما جيدا في ذاته. ونحن نقول إن القرآن الكريم لم يجعل {زرقا} وصفا للعيون، ولكنه وصف لأجسامهم، ولا شك أن وصفهم بأنهم زرق في أجسامهم ووجوههم وصف لهم بالهلع والفزع، وهو المقصود، فهم هلعون فزعون من هول ذلك اليوم الشديد، والزرقة أقرب إلى السواد، فهي أدل على الفزع، ومعناه أنهم يجيئون سودا، ويتحقق قوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه...106} (آل عمران)...
وقوله تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}:
أي: نجمعهم ونسوقهم زرقا، والزرقة هي لونهم، كما ترى شخصا احتقن وجهه، وازرق لونه بسبب شيء تعرض له، هذه الزرقة نتيجة لعدم السلام والانسجام في كيماوية الجسم من الداخل، فهو انفعال داخلي يظهر أثره على البشرة الخارجية، فكأن هول القيامة وأحداثها تحدث لهم هذه الزرقة.
والبعض يفسر {زرقا} أي: عميا، ومن الزرقة ما ينشأ عنها العمى، ومنها المياه الزرقاء التي تصيب العين وقد تسبب العمى.