15- الله عالي المقامات ، صاحب العرش ، يُنزل الوحي من قضائه وأمره على من اصطفاه من عباده ، ليخوِّف الناس عاقبة مخالفة المرسلين يوم التقاء الخلق أجمعين ، يوم الحساب الذي يظهر فيه الناس واضحين ، لا يخفي على الله من أمرهم شيء ، يتسامعون نداءً رهيباً : لمن الملك اليوم ؟ وجواباً حاسماً : لله الواحد المتفرد بالحكم بين عباده ، البالغ القهر لهم .
{ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ } أي : ظاهرون على الأرض ، قد اجتمعوا في صعيد واحد لا عوج ولا أمت فيه ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر .
{ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } لا من ذواتهم ولا من أعمالهم ، ولا من جزاء تلك الأعمال .
{ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } أي : من هو المالك لذلك اليوم العظيم الجامع للأولين والآخرين ، أهل السماوات وأهل الأرض ، الذي انقطعت فيه الشركة في الملك ، وتقطعت الأسباب ، ولم يبق إلا الأعمال الصالحة أو السيئة ؟ الملك { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي : المنفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، فلا شريك له في شيء منها بوجه من الوجوه . { الْقَهَّارِ } لجميع المخلوقات ، الذي دانت له المخلوقات وذلت وخضعت ، خصوصًا في ذلك اليوم الذي عنت فيه الوجوه للحي القيوم ، يومئذ لا تَكَلَّمُ نفس إلا بإذنه .
ثم هو اليوم الذي يبرزون فيه بلا ساتر ولا واق ولا تزييف ولا خداع :
( يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء ) . .
والله لا يخفى عليه منهم شيء في كل وقت وفي كل حال . ولكنهم في غير هذا اليوم قد يحسبون أنهم مستورون ، وأن أعمالهم وحركاتهم خافية ، أما اليوم فيحسون أنهم مكشوفون ، ويعلمون أنهم مفضوحون ؛ ويقفون عارين من كل ساتر حتى ستار الأوهام !
ويومئذ يتضاءل المتكبرون ، وينزوي المتجبرون ، ويقف الوجود كله خاشعاً ، والعباد كلهم خضعاً . ويتفرد مالك الملك الواحد القهار بالسطان . وهو سبحانه متفرد به في كل آن . فأما في هذا اليوم فينكشف هذا للعيان ، بعد انكشافه للجنان . ويعلم هذا كل منكر ويستشعره كل متكبر . وتصمت كل نأمة وتسكن كل حركة . وينطلق صوت جليل رهيب يسأل ويجيب ؛ فما في الوجود كله يومئذ من سائل غيره ولا مجيب :
وقوله : يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفَى على اللّهِ منْهُمْ شَيْءٌ يعني بقوله يَوْمَ هُمْ بارزُونَ يعني المنذرين الذين أرسل الله إليهم رسله لينذروهم وهم ظاهرون يعني للناظرين لا يحول بينهم وبينهم جبل ولا شجر ، ولا يستر بعضهم عن بعض ساتر ، ولكنهم بقاعٍ صفصف لا أَمْتَ فيه ولا عوج . و «هم » من قوله : يَوْمَ هُمْ في موضع رفع بما بعده ، كقول القائل : فعلت ذلك يوم الحجاج أمير .
واختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم تخفض هم بيوم وقد أضيف إليه ؟ فقال بعض نحويي البصرة : أضاف يوم إلى هم في المعنى ، فلذلك لا ينوّن اليوم ، كما قال : يَوْمَ هُمْ عَلى النّار يُفْتَنُونَ وقال : هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ومعناه : هذا يوم فتنتهم ، ولكن لما ابتدأ بالاسم ، وبنى عليه لم يقدر على جرّه ، وكانت الإضافة في المعنى إلى الفتنة ، وهذا إنما يكون إذا كان اليوم في معنى إذ ، وإلا فهو قبيح إلا ترى أنك تقول : ليتك زمن زيدٌ أمير : أي إذ زيد أمير ، ولو قلت : ألقاك زمن زيد أمير ، لم يحسن . وقال غيره : معنى ذلك : أن الأوقات جعلت بمعنى إذ وإذا ، فلذلك بقيت عل نصبها في الرفع والخفض والنصب ، فقال : وَمِنْ خِزْيِ يَوْمَئِذٍ فنصبوا ، والموضع خفض ، وذلك دليل على أنه جعل موضع الأداة ، ويجوز أن يعرب بوجوه الإعراب ، لأنه ظهر ظهور الأسماء ألا ترى أنه لا يعود عليه العائد كما يعود على الأسماء ، فإن عاد العائد نوّن وأعرب ولم يضف ، فقيل : أعجبني يوم فيه تقول ، لما أن خرج من معنى الأداة ، وعاد عليه الذكر صار اسما صحيحا . وقال : وجائز في إذ أن تقول : أتيتك إذ تقوم ، كما تقول : أتيتك يوم يجلس القاضي ، فيكون زمنا معلوما ، فأما أتيتك يوم تقوم فلا مؤنة فيه وهو جائز عند جميعهم ، وقال : وهذه التي تسمى إضافة غير محضة .
والصواب من القول عندي في ذلك ، أن نصب يوم وسائر الأزمنة في مثل هذا الموضع نظير نصب الأدوات لوقوعها مواقعها ، وإذا أعربت بوجوه الإعراب ، فلأنها ظهرت ظهور الأسماء ، فعوملت معاملتها .
وقوله : لا يَخْفَى على اللّهِ مِنْهُمْ أي ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا شَيْءٌ . وكان قتادة يقول في ذلك ما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لاَ يَخْفَى على الله مِنْهُمْ شَيْءٌ ولكنهم برزوا له يوم القيامة ، فلا يستترون بجبل ولا مَدَر .
وقوله : لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ يعني بذلك : يقول الربّ : لمن الملك اليوم وترك ذكر «يقول » استغناء بدلالة الكلام عليه . وقوله : لِلّهِ الوَاحِدِ القَهّارِ وقد ذكرنا الرواية الواردة بذلك فيما مضى قبل ومعنى الكلام : يقول الربّ : لمن السلطان اليوم ؟ وذلك يوم القيامة ، فيجيب نفسه فيقول : لِلّهِ الوَاحِدِ الذي لا مثل له ولا شبيه القَهّارِ لكلّ شيء سواه بقدرته ، الغالب بعزّته .
{ يوم هم بارزون } خارجون من قبورهم أو ظاهرون لا يسترهم شيء أو ظاهرة نفوسهم لا تحجبهم غواشي الأبدان ، أو أعمالهم وسرائرهم . { لا يخفى على الله منهم شيء } من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم ، وهو تقرير لقوله { هم بارزون } وإزاحة لنحو ما يتوهم في الدنيا . { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به ، أو لما دل عليه ظاهر الحال فيه من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط ، وأما حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما .
وقوله تعالى : { يوم هم بارزون } معناه في براز من الأرض ينفذهم البصر ويسمعهم{[9974]} الداعي ، ونصب { يوم } على البدل من الأول فهو نصب المفعول ، ويحتمل أن ينصب على الظرف ويكون العامل فيه قوله : { لا يخفى } وهي حركة إعراب لا حركة بناء ، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن كيومئذ ، وكقول الشاعر [ النابغة الذبياني ] : [ الطويل ]
على حين عاتبت المشيب على الصبا . . . وقلت ألمّا أصحُ والشيب وازع{[9975]}
وكقوله تعالى : { هذا يوم ينفع الصادقين }{[9976]} وأما في هذه الآية فالجملة أمر متمكن كما تقول : جئت يوم زيد فلا يجوز البناء ، وتأمل{[9977]} .
وقوله تعالى : { لا يخفى على الله منهم } أي من بواطنهم وسرائرهم ودعوات صدورهم ، وفي مصحف أبي بن كعب : «لا يخفى عليه منهم شيء » بضمير بدل المكتوبة{[9978]} .
وقوله تعالى : { لمن الملك اليوم } روي أن الله تعالى يقرر هذا التقدير ويسكت العالم هيبة وجزعاً ، فيجيب هو نفسه قوله : { لله الواحد القهار } قال الحسن بن أبي الحسن هو تعالى السائل وهو المجيب . وقال ابن مسعود : أنه تعالى يقرر فيجيب العالم بذلك ، وقيل ينادي بالتقرير ملك فيجيب الناس .
قال القاضي أبو محمد : وإذا تأمل المؤمن أنه لا حول لمخلوق ولا قوة إلا بالله ، فالزمان كله وأيام الدهر أجمع إنما الملك فيها { لله الواحد القهار } ، لكن ظهور ذلك للكفرة والجهلة يتضح يوم القيامة ، وإذا تأمل تسخير أهل السماوات وعبادتهم ونفوذ القضاء في الأرض فأي ملك لغير الله عز وجل .