المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

177- لقد أكثر الناسُ الكلام في أمر القبلة كأنها هي وحدها الخير ، وليس هذا هو الحق ، فليس استقبال جهة معينة في المشرق أو المغرب هو قوام الدين وجماع الخير ، ولكن ملاك الخير عدة أمور بعضها من أركان العقيدة الصحيحة ، وبعضها من أمهات الفضائل والعبادات ، فالأول هو : الإيمان بالله ويوم البعث والنشور والحساب وما يتبعه يوم القيامة ، والإيمان بالملائكة وبالكتب المنزلة على الأنبياء وبالأنبياء أنفسهم . والثاني هو : بذل المال عن رغبة وطيب نفس للفقراء من الأقارب واليتامى ، ولمن اشتدت حاجتهم وفاقتهم من الناس ، وللمسافرين الذين انقطع بهم الطريق فلا يجدون ما يبلغهم مقصدهم ، وللسائلين الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال ، ولغرض عتق الأرقاء وتحرير رقابهم من الرق . والثالث : المحافظة على الصلاة . والرابع : إخراج الزكاة المفروضة . والخامس : الوفاء بالعهد في النفس والمال . والسادس : الصبر على الأذى ينزل بالنفس أو المال ، أو وقت مجاهدة العدو في مواطن الحروب فالذين يجمعون هذه العقائد والأعمال الخيرة هم الذين صَدَقوا في إيمانهم ، وهم الذين اتقوا الكفر والرذائل وتجنبوها .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

قوله تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } . قرأ حمزة و حفص : ليس البر بنصب الراء ، والباقون برفعها ، فمن رفعها جعل البر اسم ليس ، وخبره قوله : أن تولوا ، تقديره : ليس البر توليتكم وجوهكم . ومن نصب جعل أن تولوا في موضع الرفع على اسم ليس ، تقديره : ليس توليتكم وجوهكم البر كله ، كقوله تعالى : ( ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا ) . والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة . واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية ، فقال قوم : عنى بها اليهود والنصارى ، وذلك أن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق ، وزعم كل فريق منهم : أن البر في ذلك ، فأخبر الله تعالى أن البر غير دينهم وعملهم ولكنه ما بينه في هذه الآية ، وعلى هذا القول قتادة ومقاتل بن حيان . وقال الآخرون : المراد بها المؤمنون . وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نزول الفرائض إذا أتى بالشهادتين وصلى الصلاة إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة . ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض ، وحددت الحدود ، وصرفت القبلة إلى الكعبة ، أنزل الله هذه الآية فقال : ( ليس البر ) أي كله أن تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا على غير ذلك .

قوله تعالى : { ولكن البر } . ما ذكر في هذه الآية وعلى هذا القول ابن عباس ومجاهد ، وعطاء والضحاك . ولكن البر رفع ، وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب البر .

قوله تعالى : { من آمن بالله } . جعل من وهي اسم خبر للبر وهو فعل ولا يقال البر زيد . واختلفوا في وجهه قيل لما وقع من في موقع المصدر جعله خبراً للبر ، كأنه قال ولكن البر الإيمان بالله ، والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل وأنشد الفراء :

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى *** ولكنما الفتيان كل فتى ندى

فجعل نبات اللحية خبر للفتى . وقيل فيه إضمار معناه ولكن البر بر من آمن بالله ، فاستغنى بذكر الأول عن الثاني . كقولهم الجود حاتم أي الجود جود حاتم . وقيل معناه ولكن ذا البر من آمن بالله . كقوله تعالى : ( هم درجات عند الله ) أي ذو درجات . وقيل معناه ولكن البر من آمن بالله كقوله تعالى ( والعاقبة للتقوى ) أي للمتقي ، والمراد من البر هاهنا الإيمان والتقوى .

قوله تعالى : { واليوم الآخر والملائكة } . كلهم .

قوله تعالى : { والكتاب } . يعني الكتب المنزلة .

قوله تعالى : { والنبيين } . أجمع .

قوله تعالى : { وآتى المال } . أعطى المال .

قوله تعالى : { على حبه } . اختلفوا في هذه الكناية ، فقال أكثر أهل التفسير : إنها راجعة إلى المال أي أعطى المال في حال صحته ومحبته المال . قال ابن مسعود : أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الواحد ، ثنا عمارة بن القعقاع ، أنا أبو زرعة ، أخبرنا أبو هريرة قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً ؟ قال : أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل ، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان " . وقيل هي عائدة على الله عز وجل أي على حب الله تعالى .

قوله تعالى : { ذوي القربى } . أهل القرابة . أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا قتيبة ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن عمها سليمان ابن عامر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان ، صدقة وصلة " .

قوله تعالى : { واليتامى والمساكين وابن السبيل } . قال مجاهد : يعني المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك ، ويقال للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق ، وقيل : هو الضيف ينزل بالرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " .

قوله تعالى : { والسائلين } . يعني الطالبين . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي بجيد الأنصاري وهو عبد الرحمن بن نجيد عن جدته وهي أم نجيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ردوا السائل ولو بظلف محرق " وفي رواية قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لم تجدي شيئاً إلا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه " .

قوله تعالى : { وفي الرقاب } . يعني المكاتبين قاله أكثر المفسرين ، وقيل : عتق النسمة وفك الرقبة وقيل : الأسارى .

قوله تعالى : { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } . وأعطى الزكاة .

قوله تعالى : { والموفون بعهدهم } . فيما بينهم وبين الله عز وجل وفيما بينهم وبين الناس .

قوله تعالى : { إذا عاهدوا } . يعني إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا ونذروا أوفوا ، وإذا عاهدوا وفوا ، وإذا قالوا صدقوا ، وإذا ائتمنوا أدوا ، واختلفوا في رفع قوله والموفون قيل : هو عطف على خبر معناه ولكن ذا البر المؤمنون والموفون بعهدهم وقيل : تقديرهم الموفون كأنه عد أصنافاً ثم قال : هم الموفون كذا ، وقيل رفع على الابتداء والخبر يعني وهم الموفون ثم قال :

قوله تعالى : { والصابرين } . وفي نصبها أربعة أوجه . قال أبو عبيدة : نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام والنسق ، ومثله في سورة النساء والمقيمين الصلاة ، وفي سورة المائدة والصابئون والنصارى ، وقيل معناه أعني الصابرين ، وقيل نصبه نسقاً على قوله ذوي القربى أي وآتي الصابرين . وقال الخليل : نصب على المدح والعرب تنصب على المدح والذم . كأنهم يريدون إفراد الممدوح والمذموم ، فلا يتبعونه أول الكلام وينصبونه ، فالمدح كقوله تعالى : ( والمقيمين الصلاة ) . والذم كقوله تعالى ( ملعونين أينما ثقفوا ) .

قوله تعالى : { في البأساء } . أي الشدة والفقر .

قوله تعالى : { والضراء } . المرض والزمانة .

قوله تعالى : { وحين البأس } . أي القتال والحرب . أخبرنا المطهر بن علي بن عبد الله الفارسي ، أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان ، أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرنا زهير عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " كنا إذا احمر البأس ولقي القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه " ، يعني إذا اشتد الحرب .

قوله تعالى : { أولئك الذين صدقوا } . في إيمانهم .

قوله تعالى : { وأولئك هم المتقون } . محارم الله .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }

يقول تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } أي : ليس هذا هو البر المقصود من العباد ، فيكون كثرة البحث فيه والجدال من العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف ، وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ونحو ذلك .

{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } أي : بأنه إله واحد ، موصوف بكل صفة كمال ، منزه عن كل نقص .

{ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وهو كل ما أخبر الله به في كتابه ، أو أخبر به الرسول ، مما يكون بعد الموت .

{ وَالْمَلَائِكَةِ } الذين وصفهم الله لنا في كتابه ، ووصفهم رسوله صلى الله عليه وسلم { وَالْكِتَابِ } أي : جنس الكتب التي أنزلها الله على رسوله ، وأعظمها القرآن ، فيؤمن بما تضمنه من الأخبار والأحكام ، { وَالنَّبِيِّينَ } عموما ، خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم .

{ وَآتَى الْمَالَ } وهو كل ما يتموله الإنسان من مال ، قليلا كان أو كثيرا ، أي : أعطى المال { عَلَى حُبِّهِ } أي : حب المال ، بيَّن به أن المال محبوب للنفوس ، فلا يكاد يخرجه العبد .

فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى الله تعالى ، كان هذا برهانا لإيمانه ، ومن إيتاء المال على حبه ، أن يتصدق وهو صحيح شحيح ، يأمل الغنى ، ويخشى الفقر ، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة ، كانت أفضل ، لأنه في هذه الحال ، يحب إمساكه ، لما يتوهمه من العدم والفقر .

وكذلك إخراج النفيس من المال ، وما يحبه من ماله كما قال تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه .

ثم ذكر المنفق عليهم ، وهم أولى الناس ببرك وإحسانك . من الأقارب الذين تتوجع لمصابهم ، وتفرح بسرورهم ، الذين يتناصرون ويتعاقلون ، فمن أحسن البر وأوفقه ، تعاهد الأقارب بالإحسان المالي والقولي ، على حسب قربهم وحاجتهم .

ومن اليتامى الذين لا كاسب لهم ، وليس لهم قوة يستغنون بها ، وهذا من رحمته [ تعالى ] بالعباد ، الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده ، فالله قد أوصى العباد ، وفرض عليهم في أموالهم ، الإحسان إلى من فقد آباؤهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه ، ولأن الجزاء من جنس العمل فمن رحم يتيم غيره ، رُحِمَ يتيمه .

{ وَالْمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة ، وأذلهم الفقر فلهم حق على الأغنياء ، بما يدفع مسكنتهم أو يخففها ، بما يقدرون عليه ، وبما يتيسر ، { وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو الغريب المنقطع به في غير بلده ، فحث الله عباده على إعطائه من المال ، ما يعينه على سفره ، لكونه مظنة الحاجة ، وكثرة المصارف ، فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته ، وخوله من نعمته ، أن يرحم أخاه الغريب ، الذي بهذه الصفة ، على حسب استطاعته ، ولو بتزويده أو إعطائه آلة لسفره ، أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها .

{ وَالسَّائِلِينَ } أي : الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج ، توجب السؤال ، كمن ابتلي بأرش جناية ، أو ضريبة عليه من ولاة الأمور ، أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة ، كالمساجد ، والمدارس ، والقناطر ، ونحو ذلك ، فهذا له حق وإن كان غنيا { وَفِي الرِّقَابِ } فيدخل فيه العتق والإعانة عليه ، وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده ، وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة .

{ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } قد تقدم مرارا ، أن الله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة ، لكونهما أفضل العبادات ، وأكمل القربات ، عبادات قلبية ، وبدنية ، ومالية ، وبهما يوزن الإيمان ، ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان .

{ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } والعهد : هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه . فدخل في ذلك حقوق الله كلها ، لكون الله ألزم بها عباده والتزموها ، ودخلوا تحت عهدتها ، ووجب عليهم أداؤها ، وحقوق العباد ، التي أوجبها الله عليهم ، والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور ، ونحو ذلك .

{ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ } أي : الفقر ، لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة ، لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره .

فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم ، وإن جاع أو جاعت عياله تألم ، وإن أكل طعاما غير موافق لهواه تألم ، وإن عرى أو كاد تألم ، وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم ، وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم .

فكل هذه ونحوها ، مصائب ، يؤمر بالصبر عليها ، والاحتساب ، ورجاء الثواب من الله عليها .

{ وَالضَّرَّاءِ } أي : المرض على اختلاف أنواعه ، من حمى ، وقروح ، ورياح ، ووجع عضو ، حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك ، فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك ، لأن النفس تضعف ، والبدن يألم ، وذلك في غاية المشقة على النفوس ، خصوصا مع تطاول ذلك ، فإنه يؤمر بالصبر ، احتسابا لثواب الله [ تعالى ] .

{ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي : وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم ، لأن الجلاد يشق غاية المشقة على النفس ، ويجزع الإنسان من القتل ، أو الجراح أو الأسر ، فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا ، ورجاء لثواب الله [ تعالى ] الذي منه النصر والمعونة ، التي وعدها الصابرين .

{ أُولَئِكَ } أي : المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة ، والأعمال التي هي آثار الإيمان ، وبرهانه ونوره ، والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية ، فأولئك هم { الَّذِينَ صَدَقُوا } في إيمانهم ، لأن أعمالهم صدقت إيمانهم ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } لأنهم تركوا المحظور ، وفعلوا المأمور ، لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير ، تضمنا ولزوما ، لأن الوفاء بالعهد ، يدخل فيه الدين كله ، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات ، ومن قام بها ، كان بما سواها أقوم ، فهؤلاء هم الأبرار الصادقون المتقون .

وقد علم ما رتب الله على هذه الأمور الثلاثة ، من الثواب الدنيوي والأخروي ، مما لا يمكن تفصيله في [ مثل ] هذا الموضع .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

القول في تأويل قوله تعالى : { لّيْسَ الْبِرّ أَن تُوَلّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلََكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىَ حُبّهِ ذَوِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّآئِلِينَ وَفِي الرّقَابِ وَأَقَامَ الصّلاةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولََئِكَ الّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ }

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ليس البرّ الصلاة وحدها ، ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ يعني الصلاة . يقول : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا ، فهذا منذ تحوّل من مكة إلى المدينة ، ونزلت الفرائض ، وحدّ الحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لَيْسَ البرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمغرِبِ ولكنّ البرّ ما ثبت في القلوب من طاعة الله .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس ، قال : هذه الآية نزلت بالمدينة : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرق وَالمَغْرِبِ يعني الصلاة ، يقول : ليس البرّ أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك . قال ابن جريج وقال مجاهد : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وجوهَكم قِبَل المشرِق والمغرِبِ يعني السجود ولكنّ البرّ ما ثبت في القلب من طاعة الله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو نميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم أنه قال فيها ، قال يقول : ليس البرّ أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك . وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة ، فأنزل الله الفرائض وحدّ الحدود بالمدينة ، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها .

وقال آخرون : عنى الله بذلك اليهود والنصارى ، وذلك أن اليهود تصلي فتوجّه قبل المغرب ، والنصارى تصلي فتوجّه قبل المشرق ، فأنزل الله فيهم هذه الآية يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه ولكنه ما بيناه في هذه الآية . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة ، قال : كانت اليهود تصلي قبل المغرب ، والنصارى تصلي قبل المشرق ، فنزلت : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَل المَشْرِق وَالمَغْرِبِ .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ ذكر لنا أن رجلاً سأل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن البرّ ، فأنزل الله هذه الآية ، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه . وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجَى له ويطمع له في خير فأنزل الله : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وكانت اليهود توجهت قِبَل المغرب ، والنصارى قِبَل المشرق وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِر الآية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : كانت اليهود تصلي قِبَل المغرب ، والنصارى قِبَل المشرق ، فنزلت : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ .

وأولى هذين القولين بتأويل الآية القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس أن يكون عنى بقوله : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ اليهود والنصارى ، لأن الاَيات قبلها مضت بتوبيخهم ولومهم والخبر عنهم وعما أعدّ لهم من أليم العذاب ، وهذا في سياق ما قبلها ، إذ كان الأمر كذلك ، ليس البرّ أيها اليهود والنصارى أن يولي بعضكم وجهه قِبَل المشرق وبعضكم قِبَل المغرب ، وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتابِ الآية .

فإن قال قائل : فكيف قيل : وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنِ باللّهِ ، وقد علمت أن البرّ فعل ، و«مَنْ » اسم ، فكيف يكون الفعل هو الإنسان ؟ قيل : إن معنى ذلك غير ما توهمته ، وإنما معناه : ولكن البر كمن آمن بالله واليوم الاَخر ، فوضع «مَنْ » موضع الفعل اكتفاء بدلالته ودلالة صلته التي هي له صفة من الفعل المحذوف كما تفعله العرب فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة ، فتقول : «الجود حاتم ، والشجاعة عنترة » و«إنما الجود حاتم ، والشجاعة عنترة » ، ومعناها : الجود جود حاتم ، فتستغني بذكر حاتم إذ كان معروفا بالجود من إعادة ذكر الجود بعد الذي قد ذكرته فتضعه موضع جوده لدلالة الكلام على ما حذفته استغناء بما ذكرته عما لم تذكره ، كما قيل : واسْألِ الْقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا والمعنى : أهل القرية ، وكما قال الشاعر ، وهو ذو الخِرَق الطهوي :

حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عَناقا وَما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بالعنَاقِ

يريد بغام عناق أو صوت ( عناق ) كما يقال : حسبت صياحي أخاك ، يعني به حسبت صياحي صياح أخيك . وقد يجوز أن يكون معنى الكلام : ولكن البارّ من آمن بالله ، فيكون البرّ مصدرا وضع موضع الاسم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وآتى المَالَ على حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى واليتَامَى وَالمَساكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرّقابِ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : وآتى المَالَ على حُبّهِ وأعطى ماله في حين محبته إياه وضنه به وشحه عليه . كما :

حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن زبيد ، عن مرة بن شراحيل البكيلي ، عن عبد الله بن مسعود : وآتى المَالَ على حُبّهِ أي يؤتيه وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قالا جميعا ، عن سفيان ، عن زبيد اليامي ، عن مرة ، عن عبد الله : وآتى المَالَ على حُبّهِ قال : وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى الفقر .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن زبيد اليامي ، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية : وآتى المَالَ على حُبّهِ قال : وأنت حريص شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر .

حدثنا أحمد بن نعمة المصري ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا الليث ، قال : حدثنا إبراهيم بن أعين ، عن شعبة بن الحجاج ، عن زبيد اليامي ، عن مرة الهمداني ، قال : قال عبد الله بن مسعود في قول الله : وآتى المَالَ على حُبّهِ ذوي القربى ، قال : حريصا شحيحا يأمل الغنى ويخشى الفقر .

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي سمعته يسأل : هل على الرجل حق في ماله سوى الزكاة ؟ قال : نعم ، وتلا هذه الآية : وآتى المَالَ على حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى واليَتامَى وَالمَساكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وفِي الرّقابِ وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا سويد بن عمرو الكلبي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا أبو حمزة قال : قلت للشعبي : إذا زكى الرجل ماله أيطيب له ماله ؟ فقرأ هذه الآية : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ إلى وآتى المَالَ على حُبّهِ إلى آخرها . ثم قال : حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت : يا رسول الله إن لي سبعين مثقالاً من ذهب ، فقال : «اجْعَلِيها فِي قَرابَتِكِ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، قال : حدثنا أبو حمزة فيما أعلم عن عامر ، عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول : إن في المال لحقّا سوى الزكاة .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي حيان ، قال : حدثني مزاحم بن زفر ، قال : كنت جالسا عند عطاء ، فأتاه أعرابي فقال له : إن لي أبلاً فهل عليّ فيها حقّ بعد الصدقة ؟ قال : نعم قال : ماذا ؟ قال : عارية الذلول ، وطروق الفحل ، والحلب .

حدثني موسى بن هارون ، حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، ذكره عن مرة الهمداني في : وآتى المَالَ على حُبّهِ قال : قال عبد الله بن مسعود : تعطيه وأنت صحيح شحيح تطيل الأمل وتخاف الفقر . وذكر أيضا عن السدي أن هذا شيء واجب في المال حقّ على صاحب المال أن يفعله سوى الذي عليه من الزكاة .

حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا سويد بن عبد الله ، عن أبي حمزة ، عن عامر ، عن فاطمة بن قيس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «فِي المَال حَقّ سوَى الزّكاة » وتلا هذه الآية : لَيْسَ البِرّ إلى آخر الآية .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن زبيد اليامي ، عن مرة بن شراحيل ، عن عبد الله في قوله : ( وآتى المَالَ على حُبّهِ )قال : أن يعطى الرجل وهو صحيح شحيح به يأمل العيش ويخاف الفقر .

فتأويل الآية : وأعطى المال وهو له محبّ حريص على جمعه ، شحيح به ذوي قرابته فوصل به أرحامهم .

وإنما قلت : عنى بقوله : ذَوِي القُرْبَى ذوي قرابة مؤدّي المال على حبه للخبر الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره فاطمة بنت قيس ، وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل : أيّ الصدقة أفضل ؟ قال : «جُهْدُ المُقلّ على ذِي القَرَابَةِ الكاشِح » .

وأما اليتامى والمساكين فقد بينا معانيهما فيما مضى . وأما ابن السبيل فإنه المجتاز بالرجل .

ثم اختلف أهل العلم في صفته ، فقال بعضهم : هو الضيفُ من ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وابْنَ السّبِيلِ قال : هو الضيف قال : قد ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «مَنْ كانَ يُؤْمِنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ فَلْيقُلْ خَيْرا أوْ لِيَسْكُتْ » قال : وكان يقول : «حَقّ الضّيافَةِ ثَلاثُ لَيالٍ ، فَكُلّ شَيْءٍ أضَافَهُ بَعْدَ ذَلِكَ صَدقَةٌ » .

وقال بعضهم : هو المسافر يمرّ عليك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر : وابْنَ السّبِيل قال : المجتاز من أرض إلى أرض .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وقتادة في قوله : وَابْنَ السّبِيلِ قال : الذي يمرّ عليك وهو مسافر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عمن ذكره ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وقتادة مثله .

وإنما قيل للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق ، والطريق هو السبيل ، فقيل لملازمته إياه في سفره ابنه كما يقال لطير الماء ابن الماء لملازمته إياه ، وللرجل الذي أتت عليه الدهور ابن الأيام والليالي والأزمنة ، ومنه قول ذي الرمة :

وَرَدْتُ اعْتِسافا والثّرَيّا كأنّها *** على قِمّةِ الرأسِ ابْنُ ماءٍ مُحَلّقُ

وأما قوله وَالسّائِلِينَ فإنه يعني به : المستطعمين الطالبين . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن عكرمة في قوله : وَالسّائِلينَ قال : الذي يسألك .

وأما قوله : وَفِي الرّقابِ فإنه يعني بذلك : وفي فكّ الرقاب من العبودة ، وهم المكاتَبُون الذين يسعون في فكّ رقابهم من العبودة بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها ساداتهم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاةَ والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا } .

يعني تعالى ذكره بقوله : وأقامَ الصّلاةَ أدام العمل بها بحدودها ، وبقوله : وآتى الزّكاةَ أعطاها على ما فرضها الله عليه .

فإن قال قائل : وهل من حقّ يجب في مال إيتاؤه فرضا غير الزكاة ؟ قيل : قد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : فيه حقوق تجب سوى الزكاة واعتلوا لقولهم ذلك بهذه الآية ، وقالوا : لما قال الله تبارك وتعالى : وآتى المَالَ على حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى ومن سمى الله معهم ، ثم قال بعد : وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاةَ علمنا أن المال الذي وصف المؤمنين به أنهم يؤتونه ذوي القربى ، ومن سمى معهم غير الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها لأن ذلك لو كان مالاً واحدا لم يكن لتكريره معنى مفهوم . قالوا : فلما كان غير جائز أن يقول تعالى ذكره قولاً لا معنى له ، علمنا أن حكم المال الأول غير الزكاة ، وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره . قالوا : وبعد فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك .

وقال آخرون : بل المال الأول هو الزكاة ، ولكن الله وصف إيتاء المؤمنين من آتوه ذلك في أول الآية ، فعرّف عباده بوصفه ما وصف من أمرهم المواضع التي يجب عليهم أن يضعوا فيها زكواتهم ثم دلهم بقوله بعد ذلك : وآتى الزّكاة أن المال الذي آتاه القوم هو الزكاة المفروضة كانت عليهم ، إذ كان أهل سهمانها هم الذين أخبر في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم .

وأما قوله : وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا فإنه يعني تعالى ذكره : والذين لا ينقضون عهد الله بعد المعاهدة ، ولكن يوفون به ويتمونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه . كما :

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا قال : فمن أعطى عهد الله ثم نقضه فالله ينتقم منه ، ومن أعطى ذمة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم غدر بها فالنبيّ صلى الله عليه وسلم خصمه يوم القيامة . وقد بينت العهد فيما مضى بما أغنى عن إعادته ههنا .

القول في تأويل قوله تعالى : وَالّصابِرِينَ فِي البَأساءِ وَالضّرّاءِ .

قد بينا تأويل الصبر فيما مضى قبل . فمعنى الكلام : والمانعين أنفسهم في البأساء والضرّاء وحين البأس مما يكرهه الله لهم الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته .

ثم قال أهل التأويل في معنى البأساء والضرّاء بما :

حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثني أبي ، وحدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قالا جميعا : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود أنه قال : أما البأساء فالفقر ، وأما الضرّاء فالسقم .

حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قالا جميعا : حدثنا شريك ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله في قوله : وَالصّابِرِينَ فِي البَأساءِ وَالضّرّاءِ قال : البأساء الجوع ، والضراء المرض .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : البأساء : الحاجة ، والضرّاء : المرض .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كنا نحدّث أن البأساء : البؤس والفقر ، وأن الضرّاء : السقم ، وقد قال النبيّ أيوب صلى الله عليه وسلم : أنّي مَسّنِيَ الضّرّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِين .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَالصّابِرِينَ فِي البأساءِ وَالضّرّاءِ قال : البؤس : الفاقة والفقر ، والضرّاء في النفس من وجع أو مرض يصيبه في جسده .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : البأساءِ وَالضراءِ قال : البأساء : البؤس ، والضرّاء : الزمانة في الجسد .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك ، قال : البأساء والضرّاء : المرض .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : وَالصّابِرينَ فِي البَأْساءِ وَالضّرّاءِ قال : البأساء : البؤس والفقر ، والضرّاء : السقم والوجع .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبيد بن الطفيل ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية : وَالصّابِرِينَ فِي البأساءِ وَالضّرّاءِ أما البأساء : الفقر ، والضرّاء : المرض .

وأما أهل العربية : فإنهم اختلفوا في ذلك ، فقال بعضهم : البأساء والضرّاء مصدر جاء على فعلاء ليس له أفعل لأنه اسم ، كما قد جاء أفعل في الأسماء ليس له فعلاء نحو أحمد ، وقد قالوا في الصفة أفعل ولم يجىء له فعلاء ، فقالوا : أنت من ذلك أوجل ، ولم يقولوا وجلاء . وقال بعضهم : هو اسم للفعل ، فإن البأساء البؤس ، والضرّاء الضر ، وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث وإن شئت لمذكر ، كما قال زهير :

فتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمانَ أشْأمَ كُلّهُمْ كأحْمَر عادٍ ثُمّ تُرْضِعْ فتَفْطِمِ

يعني فتنتج لكم غلمان شؤم .

وقال بعضهم : لو كان ذلك اسما يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث لجاز إجراء أفعل في النكرة ، ولكنه اسم قام مقام المصدر والدليل على ذلك قولهم : «لئن طلبت نصرتهم لتجدنهم غير أبْعَدَ » بغير إجراء وقال : إنما كان اسما للمصدر لأنه إذا ذكر علم أنه يراد به المصدر . وقال غيره : لو كان ذلك مصدرا فوقع بتأنيث لم يقع بتذكير ، ولو وقع بتذكير لم يقع بتأنيث لأن من سُمي بأفعل لم يصرف إلى فعلى ، ومن سُمي بفعلى لم يصرف إلى أفعل ، لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره ، ولكنهما لغتان ، فإذا وقع بالتذكير كان بأمر أشأم ، وإذا وقع البأساء والضرّاء ، وقع الخلة البأساء والخلة الضراء ، وإن كان لم يبن على الضراء الأضر ولا على الأشأم الشأماء ، لأنه لم يرد من تأنيثه التذكير ولا من تذكيره التأنيث ، كما قالوا : امرأة حسناء ، ولم يقولوا : رجل أحسن ، وقالوا : رجل أمرد ، ولم يقولوا : امرأة مرداء ، فإذا قيل الخصلة الضراء والأمر الأشأم دل على المصدر ، ولم يحتج إلى أن يكون اسما ، وإن كان قد كفى من المصدر .

وهذا قول مخالف تأويل من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل البأساء والضراء وإن كان صحيحا على مذهب العربية ، وذلك أن أهل التأويل تأوّلوا البأساء بمعنى البؤس ، والضرّاء بمعنى الضرّ في الجسد ، وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجهوا البأساء والضراء إلى أسماء الأفعال دون صفات الأسماء ونعوتها . فالذي هو أولى بالبأساء والضراء على قول أهل التأويل أن تكون البأساء والضراء أسماء أفعال ، فتكون البأساء اسما للبؤس ، والضراء اسما للضر .

وأما الصابرين فنصبٌ ، وهو من نعت «مَنْ » على وجه المدح ، لأن من شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد الاعتراض بالمدح والذمّ بالنصب أحيانا وبالرفع أحيانا ، كما قال الشاعر :

إلى المَلِك القَرْم وَابْن الهُمام ولَيْثَ الكَتِيبَة في المُزْدَحَمْ

وذَا الرأي حِينَ تُغَمّ الأمُورُ بِذَات الصّلِيل وَذَات اللّجُمْ

فنصب ليث الكتيبة وذا الرأي على المدح ، والاسم قبلهما مخفوض لأنه من صفة واحد . ومنه قول الاَخر :

فَلَيْتَ الّتِي فِيها النّجومُ تَوَاضَعَت *** على كُلّ غَثَ مِنْهُمُ وَسمينِ

غُيُوثُ الَوَرى في كُلّ مَحْلٍ وأزْمَةٍ *** أُسُودُ الشّرَى يَحْمينَ كلّ عَرين

وقد زعم بعضهم أن قوله : وَالصّابِرِينَ فِي البَأساءِ نصب عطفا على السائلين ، كأن معنى الكلام كان عنده : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين والصابرين في البأساء والضراء .

وظاهر كتاب الله يدل على خطأ هذا القول ، وذلك أن الصابرين في البأساء والضراء هم أهل الزمانة في الأبدان وأهل الإقتار في الأموال ، وقد مضى وصف القوم بإيتاء من كان ذلك صفته المال في قوله : وَالَمساكينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وأهل الفاقة والفقر هم أهل البأساء والضراء ، لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء لم يكن ممن له قبول الصدقة ، وإنما له قبولها إذا كان جامعا إلى ضرائه بأساء ، وإذا جمع إليها بأساء كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة المساكين الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله : وَالصّابرِينَ في البأساء . وإذا كان كذلك ثم نصب الصابرين في البأساء بقوله : وآتى المالَ على حُبّهِ كان الكلام تكريرا بغير فائدة معنى ، كأنه قيل : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين ، والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عباده ، ولكن معنى ذلك : ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الاَخر ، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ، والصابرين في البأساء والضراء . والموفون رفع لأنه من صفة «مَنْ » ، و«مَنْ » رفعٌ فهو معرب بإعرابه ، والصابرين نصب وإن كان من صفته على وجه المدح الذي وصفنا قبل .

القول في تأويل قوله تعالى : وَحِينَ البَأْسِ .

يعني تعالى ذكره بقوله : وَحِينَ البأْسِ والصابرين في وقت البأس ، وذلك وقت شدة القتال في الحرب . كما :

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العبقري ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله في قول الله : وَحِينَ البأسِ قال : حين القتال .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَحِين البَأْسِ القتال .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : وَحِينَ البأّسِ أي عند مواطن القتال .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وَحِين البَأْسِ القتال .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَحِينَ البَأْسِ عند لقاء العدوّ .

حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك : وَحِينَ البأْسِ القتال .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبيد بن الطفيل أبو سيدان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : وَحِينَ البأْس قال : القتال .

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ المُتّقُون .

يعني تعالى ذكره بقوله : أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا من آمن بالله واليوم الاَخر ، ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية ، يقول : فمن فعل هذه الأشياء فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم ، لا من ولّى وجهه قِبَل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره وينقض عهده وميثاقه ويكتم الناس بيان ما أمره الله ببيانه ويكذّب رسله .

وأما قوله : وأؤُلَئِكَ هُمُ المُتّقُون فإنه يعني : وأؤلئك الذين اتقوا عقاب الله فتجنبوا عصيانه وحذروا وعده فلم يتعدّوا حدوده وخافوه ، فقاموا بأداء فرائضه .

وبمثل الذي قلنا في قوله : أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا كان الربيع بن أنس يقول .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا قال : فتكلموا بكلام الإيمان ، فكانت حقيقته العمل صدقوا الله . قال : وكان الحسن يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل ، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

{ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } { البر } كل فعل مرض ، والخطاب لأهل الكتاب فإنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت ، وادعى كل طائفة أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فرد الله تعالى عليهم وقال ؛ ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ ، ولكن البر ما بينه الله واتبعه المؤمنون . وقيل عام لهم وللمسلمين ، أي ليس البر مقصورا بأمر القبلة ، أو ليس البر العظيم الذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمرها ، وقرأ حمزة وحفص { البر } بالنصب { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } أي ولكن البر الذي ينبغي أن يهتم به بر من آمن بالله ، أو لكن ذا البر من آمن ، ويؤيده قراءة من قرأ ولكن " البار " والأول أوفق وأحسن . والمراد بالكتاب الجنس ، أو القرآن . وقرأ نافع وابن عامر { ولكن } بالتخفيف ورفع { البر } . { وآتى المال على حبه } أي على حب المال ، قال عليه الصلاة والسلام لما سئل أي الصدقة أفضل قال " أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ، وتخشى الفقر " . وقيل الضمير لله ، أو للمصدر . والجار والمجرور في موضع الحال . { ذوي القربى واليتامى } يريد المحاويج منهم ، ولم يقيد لعدم الالتباس . وقدم ذوي القربى لأن إيتاءهم أفضل كما قال عليه الصلاة والسلام صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذوي رحمك اثنتان ، صدقة وصلة " . { والمساكين } جمع المسكين وهو الذي أسكنته الخلة ، وأصله دائم السكون كالمسكير للدائم السكر . { وابن السبيل } المسافر ، سمي به لملازمته السبيل كما سمي القاطع ابن الطريق . وقيل الضيف لأن السبيل يعرف به . { والسائلين } الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال ، وقال عليه السلام : " للسائل حق وإن جاء على فرسه " . { وفي الرقاب } وفي تخليصها بمعاونة المكاتبين ، أو فك الأساري ، أو ابتياع الرقاب لعتقها . { وأقام الصلاة } المفروضة . { وآتى الزكاة } يحتمل أن يكون المقصود منه ومن قوله : { وآتى المال } الزكاة المفروضة ، ولكن الغرض من الأول ببيان مصارفها ، ومن الثاني أداؤها والحث عليها . ويحتمل أن يكون المراد بالأول نوافل الصدقات أو حقوقا كانت في المال سوى الزكاة . وفي الحديث " نسخت الزكاة كل صدقة " . { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } عطف على { من آمن } . { والصابرين في البأساء والضراء } نصبه على المدح ولم يعطف لفضل الصبر على سائر الأعمال . وعن الأزهري : البأساء في الأموال كالفقر ، والضراء في الأنفس كالمرض . { وحين البأس } وقت مجاهدة العدو . { أولئك الذين صدقوا } في الدين واتباع الحق وطلب البر . { وأولئك هم المتقون } عن الكفر وسائر الرذائل . والآية كما ترى جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها ، دالة عليها صريحا أو ضمنا ، فإنها بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء : صحة الاعتقاد ، وحسن المعاشرة ، وتهذيب النفس . وقد أشير إلى الأول بقوله : { من آمن بالله } إلى { والنبيين } وإلى الثاني بقوله : { وآتى المال } إلى { وفي الرقاب } وإلى الثالث بقوله : { وأقام الصلاة } إلى آخرها ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا إلى إيمانه واعتقاده بالتقوى ، اعتبارا بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق . وإليه أشار بقوله عليه السلام " من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان " .