66- ولو أننا فرضنا عليهم المشقة البالغة بأن أمرناهم بالجهاد المستمر ، وأن يُعرِّضوا أنفسهم للتلف ، أو ينفروا من ديارهم مجاهدين دائماً ، ما أطاع إلا عدد قليل ، ولكن الله - سبحانه وتعالى - لا يكلف إلا ما تحتمله الطاقة ، ولو أنهم فعلوا وقاموا بحقه لكان في ذلك خير الدنيا والآخرة لهم ، وهو يؤدي إلى تثبيت الإيمان ، والاستقرار والاطمئنان .
قوله تعالى : { ولو أنا كتبنا } أي : فرضنا وأوجبنا .
قوله تعالى : { عليهم أن اقتلوا أنفسكم } . كما أمرنا بني إسرائيل .
قوله تعالى : { أو اخرجوا من دياركم } ، كما أمرنا بني إسرائيل بالخروج من مصر .
قوله تعالى : { ما فعلوه } ، معناه : أنا ما كتبنا عليهم إلا طاعة الرسول ، والرضى بحكمه ، ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من ديارهم ما فعلوه .
قوله تعالى : { إلا قليل منهم } ، نزلت في ثابت بن قيس ، وهو من القليل الذي استثنى الله ، قال الحسن ومقاتل : لما نزلت هذه الآية قال عمر ، وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن مسعود ، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليل : والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن من أمتي لرجالاً الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي ) .
قرأ ابن عامر وأهل الشام : { إلا قليلاً } بالنصب على الاستثناء ، وكذلك هو في مصحف أهل الشام ، وقيل : فيه إضمار ، تقديره : إلا أن يكون قليلاً منهم ، وقرأ الآخرون ( قليل ) بالرفع على الضمير الفاعل في قوله : { فعلوه } تقديره : إلا نفر قليل فعلوه .
قوله تعالى : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } ، يؤمرون من طاعة الرسول والرضا بحكمه .
قوله تعالى : { لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً } ، تحقيقاً أو تصديقاً لإيمانهم .
{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا }
يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الأوامر الشاقة على النفوس من قتل النفوس والخروج من الديار لم يفعله إلا القليل منهم والنادر ، فليحمدوا ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم به من الأوامر التي تسهل على كل أحد ، ولا يشق فعلها ، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يلحظ العبد ضد ما هو فيه من المكروهات ، لتخف عليه العبادات ، ويزداد حمدًا وشكرًا لربه .
ثم أخبر أنهم لو فعلوا ما يوعظون به أي : ما وُظِّف عليهم في كل وقت بحسبه ، فبذلوا هممهم ، ووفروا نفوسهم للقيام به وتكميله ، ولم تطمح نفوسهم لما لم يصلوا إليه ، ولم يكونوا بصدده ، وهذا هو الذي ينبغي للعبد ، أن ينظر إلى الحالة التي يلزمه القيام بها فيكملها ، ثم يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى ما قدر له من العلم والعمل في أمر الدين والدنيا ، وهذا بخلاف من طمحت نفسه إلى أمر لم يصل إليه ولم يؤمر به بعد ، فإنه لا يكاد يصل إلى ذلك بسبب تفريق الهمة ، وحصول الكسل وعدم النشاط .
{ وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْكُمْ أن اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } : ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك المحتكمين إلى الطاغوت أن يقتلوا أنفسهم ، وأمرناهم بذلك ، أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها ما فعلوه ، يقول : ما قتلوا أنفسهم بأيديهم ، ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا عنها إلى الله ورسوله طاعة لله ولرسوله ، إلا قليل منهم .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } هم يهود يعني : والعرب كما أمر أصحاب موسى عليه السلام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ } كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر لم يفعلوا إلا قليل منهم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِياركُمْ ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ } افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود ، فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم ، فقتلنا أنفسنا ! فقال ثابت : والله لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا ! فأنزل الله في هذا : { وَلَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيتا } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن إسماعيل ، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال : لما نزلت : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ } قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا ! فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «إنّ مِنْ أُمّتِي لَرِجالاً الإيمَانُ أثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الجِبالِ الرّوَاسِي » .
واختلف أهل العربية في وجه الرفع في قوله : { إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ } فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنه رفع «قليل » لأنه جعل بدلاً من الأسماء المضمرة في قوله : { ما فَعَلُوهُ } لأن الفعل لهم . وقال بعض نحويي الكوفة : إنما رفع على نية التكرير ، كأن معناه : ما فعلوه ما فعله إلا قليل منهم ، كما قال عمرو بن معد يكرب :
وكُلّ أخٍ مُفارِقُهُ أخُوهُ ***لَعَمْرُ أبيكَ إلاّ الفَرْقَدَانَ
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : رفع «القليل » بالمعنى الذي دلّ عليه قوله : { ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ } وذلك أن معنى الكلام : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعله إلا قليل منهم . فقيل : «ما فعلوه » على الخبر عن الذين مضى ذكرهم في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } ، ثم استثنى القليل ، فرُفع بالمعنى الذي ذكرنا ، إذ كان الفعل منفيّا عنه . وهي في مصاحف أهل الشام : «ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ » . وإذا قرىء كذلك ، فلا مردّ به على قارئه في إعرابه ، لأنه المعروف في كلام العرب ، إذ كان الفعل مشغولاً بما فيه كناية من قد جرى ذكره ، ثم استثني منهم القليل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيتا } .
يعني جلّ ثناؤه بذلك : ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويصدّون عنك صدودا ، { فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ } يعني : ما يذكرون به من طاعة الله والانتهاء إلى أمره ، { لَكَانَ خَيْرا لهم } في عاجل دنياهم وآجل معادهم ، { وأشَدّ تَثْبِيتا } وأثبت لهم في أمورهم ، وأقوم لهم عليها . وذلك أن المنافق يعمل على شكّ ، فعمله يذهب باطلاً ، وغناؤه يضمحلّ فيصير هباء ، وهو بشكه يعمل على وناء وضعف ، ولو عمل على بصيرة لاكتسب بعمله أجرا ولكان له عند الله ذخرا وكان على عمله الذي يعمل أقوى لنفسه وأشدّ تثبيتا لإيمانه بوعد الله على طاعته وعمله الذي يعمله . ولذلك قال من قال : معنى قوله : { وأشَدّ تَثْبِيتا } : تصديقا . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيتا } قال : تصديقا ، لأنه إذا كان مصدّقا كان لنفسه أشدّ تثبيتا ولعزمه فيه أشدّ تصحيحا .
وهو نظير قوله جلّ ثناؤه : { وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضَاةِ اللّهِ وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } وقد أتينا على بيان ذلك في موضعه بما فيه كفاية من إعادته .
{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } تعرضوا بها للقتل في الجهاد ، أو اقتلوها كما قتل بنو إسرائيل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمرنا . { أو اخرجوا من دياركم } خروجهم حين استتيبوا من عبادة العجل ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب أن اقتلوا بكسر النون على أصل التحريك ، أو اخرجوا بضم الواو للاتباع والتشبيه بواو الجمع في نحو قوله تعالى : { ولا تنسووا الفضل } وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل والباقون بضمهما إجراء لهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل . { ما فعلوه إلا قليل منهم } إلا أناس قليل وهم المخلصون . لما بين أن إيمانهم لا يتم إلا بأن يسلموا حق التسليم ، نبه على قصور أكثرهم ووهن إسلامهم ، والضمير للمكتوب ودل عليه كتبنا ، أو لأحد مصدري الفعلين -وقرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء أو على إلا فعلا قليلا . { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم مطاوعته طوعا ورغبة . { لكان خيرا لهم } في عاجلهم وآجلهم . { وأشد تثبيتا } في دينهم لأنه أشد لتحصيل العلم ونفي الشك أو تثبيتا لثواب أعمالهم ونصبه على التمييز . والآية أيضا مما نزلت في شأن المنافق اليهودي . وقيل إنها والتي قبلها نزلتا في حاطب بن أبي بلتعة خاصم زبيرا في شراج من الجرة كانا يسقيان بها النخل ، فقال عليه الصلاة والسلام : " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فقال حاطب : لأن كان ابن عمتك . فقال عليه الصلاة والسلام أسق يا زبير ثم احبس الماء إلى الجدر واستوف حقك ، ثم أرسله إلى جارك " .