10- ومن الناس من يقول بلسانه : آمنا ، فإذا أصابه أذى في سبيل الله جزع وفُتن عن دينه ، ولم يفكر في عذاب الله يوم القيامة ، فكأنه جعل إيذاء الناس كعذاب الله في الآخرة . إذا نصر الله المؤمنين على عدوهم فغنموا منهم جاء هؤلاء المتظاهرون بالإيمان ، وقالوا للمسلمين : إنا كنا معكم في الإيمان ، فأعطونا نصيباً من الغنيمة . لا ينبغي أن يظن هؤلاء أن أمرهم خافٍ على الله ، فالله أعلم بما في صدور الناس من نفاق وإيمان .
قوله تعالى :{ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله } أصابه بلاء من الناس افتتن ، { جعل فتنة الناس كعذاب الله } أي : جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة ، أي : جزع من عذاب الناس ولم يصبر عليه ، فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه ، هذا قول السدي وابن زيد ، قالا : هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر . { ولئن جاء نصر من ربك } أي : فتح ودولة للمؤمنين ، { ليقولن } يعني : هؤلاء المنافقين للمؤمنين : { إنا كنا معكم } على عدوكم وكنا مسلمين وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا ، فكذبهم الله وقال : { أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } من الإيمان والنفاق .
{ 10-11 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ }
لما ذكر تعالى أنه لا بد أن يمتحن من ادَّعى الإيمان ، ليظهر الصادق من الكاذب ، بيَّن تعالى أن من الناس فريقا لا صبر لهم على المحن ، ولا ثبات لهم على بعض الزلازل فقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ } بضرب ، أو أخذ مال ، أو تعيير ، ليرتد عن دينه ، وليراجع الباطل ، { جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } أي : يجعلها صادَّة له عن الإيمان والثبات عليه ، كما أن العذاب صادٌّ عما هو سببه .
{ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } لأنه موافق للهوى ، فهذا الصنف من الناس من الذين قال اللّه فيهم : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }
{ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } حيث أخبركم بهذا الفريق ، الذي حاله كما وصف لكم ، فتعرفون بذلك كمال علمه وسعة حكمته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النّاسِ مَن يِقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مّن رّبّكَ لَيَقُولُنّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن الناس من يقول : أقررنا بالله فوحّدناه ، فإذا آذاه المشركون في إقراره بالله ، جعل فتنة الناس إياه في الدنيا ، كعذاب الله في الاَخرة ، فارتدّ عن إيمانه بالله ، راجعا على الكفر به وَلَئِنْ جاءَ نَصْر مِنْ رَبّكَ يا محمد أهل الإيمان به لَيَقُولُنّ هؤلاء المرتدّون عن إيمانهم ، الجاعلون فتنة الناس كعذاب الله : إنّا كُنّا أيها المؤمنون مَعَكُمْ ننصركم على أعدائكم ، كذبا وإفكا . يقول الله : أوَ لَيْسَ اللّهُ بأعْلَمَ أيها القوم من كلّ أحد بمَا في صُدُور العَالمينَ جميع خلقه ، القائلين آمنا بالله وغَيرِهم ، فإذا أُوذِي في الله ارتد عن دين الله فكيف يخادع من كان لا يخفى عليه خافية ، ولا يستتر عنه سرا ولا علانية . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثن عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ ، فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ قال : فتنته أن يرتدّ عن دين الله إذا أوذي في الله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ . . . إلى قوله وَلَيَعْلَمَنّ المُنافِقِينَ قال : أناس يؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا ، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الاَخرة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ . . . الاَية ، نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون ، فإذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين ، رجعوا إلى الكفر مخافة من يؤذيهم ، وجعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قول الله فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ قال : هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر ، وجعل فتنة الناس كعذاب الله .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من أهل الإيمان كانوا بمكة ، فخرجوا مهاجرين ، فأدركوا وأُخذوا فأعطوا المشركين لما نالهم أذاهم ما أرادوا منهم . ذكر الخبر بذلك :
حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بإسلامهم ، فأخرجهم المشركون ، يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم وقتل بعض ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ، وأكرهوا ، فاستغفروا لهم ، فنزلت : إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ . . . إلى آخر الاَية ، قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الاَية أن لا عذر لهم ، فخرجوا ، فلحقهم المشركون ، فأعطوهم الفتنة ، فنزلت فيهم هذه الاَية : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ ، فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ . . . إلى آخر الاَية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فخرجوا وأيسوا من كلّ خير ، ثم نزلت فيهم : ثُمّ إنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ، ثُمّ جاهَدُوا وَصَبرُوا ، إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فكتبوا إليهم بذلك : إن الله قد جعل لكم مخرجا ، فخرجوا ، فأدركهم المشركون ، فقاتلوهم ، حتى نجا من نجا ، وقُتل من قُتل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ ، فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ . . . إلى قوله وَلَيَعْلَمَنّ المُنافِقِينَ قال : هذه الاَيات أنزلت فِي القوم الذين ردّهم المشركون إلى مكة ، وهذه الاَيات العشر مدنية إلى ههنا وسائرها مكيّ .