الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتۡنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِۖ وَلَئِن جَآءَ نَصۡرٞ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمۡۚ أَوَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (10)

ثم قال : { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله }أي : ومن الناس من يقول أقررنا بالله ( فوحدناه ) {[54387]} ، فإذا آذاه المشركون في إقراره بالله جعل فتنة الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة فارتد عن إيمانه .

ثم قال : { ولئن جاء نصر من ربك } .

يعني نصر لك يا محمد وللمؤمنين ، { ليقولن } أي : ليقول هؤلاء المرتدون عن الإيمان ، الجاعلون فتنة الناس كعذاب الله { إنا كنا معكم } أيها المؤمنون ننصركم على أعدائكم ، كذبا منهم وإفكا .

يقول الله تعالى : { أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } أي : يعلم ما في صدر كل واحد من خلقه ، فكيف يخادع من لا يخفى عليه خافية ولا يستتر عنه سر ولا علانية ؟ قال ابن عباس : فتنته أن يرتد عن الإيمان إذا أوذي في الله {[54388]} .

قال مجاهد : هم أناس يؤمنون بأسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة {[54389]} .

وقال الضحاك {[54390]} وابن زيد {[54391]} : هم منافقون كانوا بمكة إذا أوذوا أو جاءهم بلاء رجعوا إلى الكفر {[54392]} وقال ابن عباس {[54393]} : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يخفون الإسلام ، فأخرجهم أهل مكة يوم بدر معهم فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم {[54394]} } {[54395]} . فكتب بها إلى ( من ) {[54396]} بقي بمكة من المسلمين فلم يكن لهم عذر فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم {[54397]} الفتنة فنزلت فيهم هذه الآية : { ومن الناس من يقول آمنا {[54398]} } الآية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير ونزلت فيهم : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا } {[54399]} الآية ، فكتبوا إليهم بذلك : إن الله جل ثناؤه قد جعل لكم مخرجا فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل {[54400]} .

وقال قتادة في الآيتين إلى { وليعلمن المنافقين } ، هذه الآيات نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة ، وهذه الآيات العشر مدنية إلى ها هنا وسائرها مكي {[54401]} .

قال مجاهد : جعل فتنة الناس كعذاب الله ، أي : جعل أذى الناس له في الدنيا كعذاب الله على معصيته ، فأطاعهم كما يطيع الله من خاف عقابه .

وقيل : المعنى : خاف من عذاب الناس كما خاف من عذاب الله {[54402]} ، ثم قال { ليقولن } فرده على المعنى فجمع ، ورده أولا على اللفظ فوحد .

وقوله : { أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } أي : يعلم أنهم لكاذبون في قولهم : إنا كنا معكم .


[54387]:مثبت في الطرة.
[54388]:انظر: جامع البيان 20/ 132، وتفسير ابن كثير 3/ 406، والدر المنثور 6/453.
[54389]:انظر: جامع البيان 20/ 132، وأسباب النزول للواحدي 231، والجامع للقرطبي 13/ 330، والدر المنثور 6/ 452، وفتح القدير 4/ 194.
[54390]:هو أبو القاسم الضحاك بن منزاحم البلخي الخراساني، تابعي، مفسر، سمع من سعيد بن جبير، توفي سنة 105هـ، انظرطبقات ابن سعد7/ 369، وصفة الصفوة 4/ 150، رقم 699، وغاية النهاية 1/ 337، رقم 1467.
[54391]:هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم المدني. روى عن أبيه، وابن المنكدر، وروى عنه أصبغ، وقتيبة له "التفسير" "والناسخ والمنسوخ" أخرج له الترمذي وابن ماجه. توفي سنة 182، انظر: ميزان الاعتدال 2/ 564، رقم 4868، وطبقات المفسرين 1/ 271، رقم 255.
[54392]:انظر: جامع البيان 20/ 132، وأسباب النزول للواحدي 231، والجامع للقرطبي 13/ 330، والدر المنثور 6/ 453، وفتح القدير 4/ 194.
[54393]:هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ترجمان القرآن، ومؤسسمدرسة التفسير بمكة. روى عنه ابن جبير وطاوس وعكرمة وغيرهم. توفي سنة 68هـ، انظر: طبقات ابن سعد 5/ 365، والاستيعاب 3/ 933، وتذكرة الحفاظ 1/ 40، رقم 18، والإصابة 2/330، رقم 4781.
[54394]:النساء: 6.
[54395]:النساء: 96.
[54396]:مثبت في الطرة
[54397]:هكذا وردت في الأصل وكذلك في جامع البيان 20/ 133
[54398]:العنكبوت: 9
[54399]:النحل: 110
[54400]:انظر: جامع البيان 20/ 133، والمحرر الوجيز 12/ 205
[54401]:انظر: جامع البيان 20/ 133، والجامع للقرطبي 13/ 330، والدر المنثور 6/ 453
[54402]:انظر: معاني القرآن للزجاج 4/ 161