اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتۡنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِۖ وَلَئِن جَآءَ نَصۡرٞ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمۡۚ أَوَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (10)

قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله } المكلفون ثلاثة أقسام : مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده ، وكافر مجاهر بكفره وعناده ، ومذبذب بينهما ويظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر ، فالله تعالى لما بين القسمين الأولين بقوله : { أم حسب الذين يعملون السيئات } إلى قوله : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } بين القسم الثالث وهو المنافق فقال : { وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِيَ فِي الله } أصابه بلاء من الناس افتتن ، { جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } أي جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة أي جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه ، قال السدي{[41104]} ، وابن زيد{[41105]} هذا ( في ){[41106]} المنافق إذا أوذي في الله رَجَعَ عن الدين وكفر .

واعلم أنه قال : «فتنة الناس » ولم يقل : «عذاب الناس » ؛ لأن فعل العبد ابتلاه من الله ، والفتنة تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فبين منزلته ، كما جعل التكاليف ابتلاءً وامتحاناً ، وهذا إشارة ( إلى ){[41107]} أن الصبر على البلية الصادرة ( من الإنسان ){[41108]} كالصبر ( على العبادات ){[41109]} فإن قيل : هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه - احْتِرازاً عن التعذيب العاجل - يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب الله .

فالجواب : ليس كذلك لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله لأن عذاب الله يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً بل في باطنه الإيمان . قوله : { وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ } أي فتح ودولة للمؤمنين «ليقُولُّنَّ » يعني هؤلاء المنافقين للمؤمنين { إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } على عدوكم ، وقال : { وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ } ولم يقل : «ولئن جَاءَكُمْ » «ولئن جاءك » والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون إنا معكم ، وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين : «إنّا معكم » إذا جاء النصر لكن النصر لا يجيء إلا للمؤمنين كما قال تعالى : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } ، ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر ، لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة ، بدليل أن أحد الجيشين إذا انهزم في الحال ثم ذكر المهزوم كرة أخرى وهزموا الغالبين لا يطلق اسم النصر إلا على من كان له العاقبة فكذلك المسلم وإن كسر{[41110]} في الحال فالعاقبة للمتقين ، والنصر لهم في الحقيقة . فإن قيل : { ولئن جاء نصر من ربك } ولم يقل : «من الله » مع أن ما تقدم كله يذكر الله كقوله : { أُوذِيَ فِي الله } ، وقوله : «كعذاب الله » فما الحكمة في ذلك ؟ .

فالجواب : لأن - «الرب » - اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة ، و «الله » اسم مدلوله الهيبة والعظمة ، فعند النصر ذكر الاسم الدال على الرحمة والشفقة ، وعند العذاب ذكر اللفظ الدال{[41111]} على العظمة .

قوله : «لَيَقُولُنَّ » العامة{[41112]} على ضم اللام ، أسند الفعل لضمير جماعة ، حملاً على معنى «مَنْ »{[41113]} بعد أن حمل على لفظها ، ونقل أبو معاذ{[41114]} النحوي أنه قرئ : ليقولَنَّ بالفتح{[41115]} ، جرياً على مراعاة لفظها أيضاً ، وقراءة العامة أحسن لقوله : «إنَّا كُنَّا »{[41116]} .

فصل :

المعنى : إن المنافقين لما قالوا إنا كنا معكم ، أي على عدوكم وكنا مسلمين ، وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فكذبهم ( الله ){[41117]} وقال : { أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين } من الإيمان والنِّفاق ولما بين أنه علم بما في قلوب العالمين بين أنه يعلم المؤمن المحق{[41118]} وإن لم يتكلم ، والمنافق وإن لم يتكلم فقال : { وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ } صدقوا فثبتوا على الإسلام عند البلاء ، «وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ » بترك الإسلام عند البلاء ، وتقدم الكلام على ( نظر ){[41119]} ذلك . ( قال عكرمة ){[41120]} عن ابن عباس إنها نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم إلى «بدر » ، وهم الذين نزلت فيهم : { إِنَّ الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم }{[41121]} ، وقال مجاهد{[41122]} : نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس ، أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا{[41123]} ، وقال قتادة : نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة{[41124]} .


[41104]:السدي: محمد بن مروان بن عبد الله بن إسماعيل السدي كوفي، متهم بالكذب من الطبقة الثامنة، وهو صاحب "التفسير" وروى عن يحيى بن عبيد الله، والكلبي وعن هشام بن عبيد الله، انظر: طبقات الداودي 2/255، 256.
[41105]:هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي، روى عن أبيه، وابن المنكدر، وعنه أصبغ، وقتيبة، له "التفسير" والناسخ والمنسوخ، مات سنة 182 هـ، طبقات الداودي 1/271.
[41106]:ساقط من ب.
[41107]:في ب: على.
[41108]:ساقط من ب.
[41109]:ساقط من ب.
[41110]:في "ب" أكره وما في "أ" موافق لما في تفسير الفخر الرازي.
[41111]:انظر: الفخر الرازي 25/39.
[41112]:نقلها في البحر المحيط 7/143 بنسبة، وفي الكشاف 3/199 بدون نسبة وكذلك في مختصر ابن خالويه فقال: "ليقولن" بفتح اللام، ذكره أبو معاذ النحوي، انظر: مختصر ابن خالويه 114، وانظر: الدر المصون للسمين الحلبي 4/296.
[41113]:فإن معناها الجمع ولفظها الإفراد فهي من الموصولات المشتركة، وانظر المرجع السابق.
[41114]:أبو معاذ النحوي: الفضل بن خالد أبو معاذ النحويّ المروزيّ، مولى باهلة، روى عن: عبد الله بن المبارك، وداود بن أبي هند، وعنه محمد بن شقيق، والأزهري، صنف كتاباً في القرآن، مات سنة 211 هـ، انظر: طبقات الداودي 2/32.
[41115]:الدر المصون 4/296، والبحر المحيط 7/143.
[41116]:المرجعان السابقان.
[41117]:ساقط من ب.
[41118]:في "ب" الحق.
[41119]:ساقط من ب.
[41120]:ساقطة من ب. وعكرمة هو عكرمة البربري مولى ابن عباس أبو عبد الله أحد الأئمة الأعلام، حدث عن مولاه وعن عائشة، وأبي هريرة، وعنه: الشعبي، والنخعي مات سنة 105 هـ، انظر: خلاصة الكمال 270.
[41121]:[النساء: 97] وانظر زاد المسير 16/258.
[41122]:مجاهد هو مجاهد بن جبير أبو الحجاج المكي المقرئ، المفسر، الإمام، روى عنه الأعمش، روى عن ابن عباس كما روى عن عائشة وحدث عنه عكرمة وعطاء مات سنة 103 هـ، انظر: طبقات المفسرين للداودي 2/308.
[41123]:نقله في زاد المسير 6/259.
[41124]:نقله في القرطبي 13/330 والبحر 7/143.