فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتۡنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِۖ وَلَئِن جَآءَ نَصۡرٞ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمۡۚ أَوَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (10)

{ وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِيَ فِي الله } أي في شأن الله ولأجله كما يفعله أهل الكفر مع أهل الإيمان ، وكما يفعله أهل المعاصي مع أهل الطاعات من إيقاع الأذى عليهم لأجل الإيمان بالله والعمل بما أمر به { جَعَلَ فِتْنَةَ الناس } التي هي ما يوقعونه عليه من الأذى { كَعَذَابِ الله } أي جزع من أذاهم . فلم يصبر عليه ، وجعله في الشدّة والعظم كعذاب الله ، فأطاع الناس كما يطيع الله . وقيل : هو المنافق إذا أُوذي في الله رجع عن الدين فكفر . قال الزجاج : ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذية في الله { وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ } أي نصر من الله للمؤمنين وفتح وغلبة للأعداء وغنيمة يغنمونها منهم { لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } أي داخلون معكم في دينكم ، ومعاونون لكم على عدوّكم ، فكذبهم الله وقال : { أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين } أي هو سبحانه أعلم بما في صدورهم منهم من خير وشرّ ، فكيف يدّعون هذه الدعوى الكاذبة ؟ وهؤلاء هم قوم ممن كان في إيمانهم ضعف ، كانوا إذا مسهم الأذى من الكفار وافقوهم . وإذا ظهرت قوّة الإسلام ونصر الله المؤمنين في موطن من المواطن { إِنَّا كُنَّا مَّعَكُمْ } وقيل : المراد بهذا وما قبله المنافقون .

قال مجاهد : نزلت في ناس كانوا يؤمنون بالله بألسنتهم . فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة افتتنوا . وقال الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون . فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك ، والظاهر أن هذا النظم من قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } إلى قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } نازل في المنافقين لما يظهر من السياق . ولقوله : { وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين } فإنها لتقرير ما قبلها وتأكيده ، أي ليميزنّ الله بين الطائفتين ويظهر إخلاص المخلصين ونفاق المنافقين ، فالمخلص الذي لا يتزلزل بما يصيبه من الأذى ويصبر في الله حق الصبر ، ولا يجعل فتنة الناس كعذاب الله . والمنافق الذي يميل هكذا وهكذا ، فإن أصابه أذى من الكافرين وافقهم وتابعهم وكفر بالله عزّ وجلّ ، وإن خفقت ريح الإسلام وطلع نصره ولاح فتحه رجع إلى الإسلام ، وزعم أنه من المسلمين .

/خ13