27- الذين ينقضون عهد الله - وهم الذين لم يلتزموا عهد الله القوي الذي أنشأه في نفوسهم بمقتضى الفطرة موثقاً بالعقل المدرك ومؤيداً بالرسالة - ويقطعون ما أمر الله به أن يكون موصولاً كوصل ذوي الأرحام ، والتواد والتعارف والتراحم بين بني الإنسان ، ويفسدون في الأرض بسوء المعاملات وبإثارة الفتن وإيقاد الحروب وإفساد العمران ، أولئك هم الذين يخسرون بإفسادهم فطرتهم وقطعهم ما بينهم وبين الناس ما يجب أن يكون من تواد وتعاطف وتراحم ، ويكون مع ذلك لهم الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة .
قوله تعالى : { الذين ينقضون } . يخالفون ويتركون . وأصل النقض الكسر .
قوله تعالى : { عهد الله } . أمر الله الذي عهد إليهم يوم الميثاق بقوله : ( ألست بربكم قالوا بلى ) وقيل : أراد به العهد الذي أخذه على النبيين وسائر الأمم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) الآية . وقيل : أراد به العهد الذي عهد إليهم في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويبينوا نعته .
قوله تعالى : { من بعد ميثاقه } . توكيده . والميثاق : العهد المؤكد .
قوله تعالى : { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } . يعنى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل عليهم السلام ، لأنهم قالوا : نؤمن ببعض ونكفر ببعض وقال المؤمنون لا نفرق بين أحد من رسله . وقيل : أراد به الأرحام .
قوله تعالى : { ويفسدون في الأرض } . بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن .
قوله تعالى : { أولئك هم الخاسرون } . المغبونون ، ثم قال لمشركي العرب على وجه التعجب .
ثم وصف الفاسقين فقال : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه{[79]} والذي بينهم وبين عباده{[80]} الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات ، فلا يبالون بتلك المواثيق ، بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه ، وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق .
{ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة ، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته ، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه ، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب ، وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق{[81]} التي أمر الله أن نصلها .
فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق ، وقاموا بها أتم القيام ، وأما الفاسقون ، فقطعوها ، ونبذوها وراء ظهورهم ، معتاضين عنها بالفسق والقطيعة ، والعمل بالمعاصي ، وهو : الإفساد في الأرض .
ف { فَأُولَئِكَ } أي : من هذه صفته { هُمُ الْخَاسِرُونَ } في الدنيا والآخرة ، فحصر الخسارة فيهم ، لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم ، ليس لهم نوع من الربح ، لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان ، فمن لا إيمان له لا عمل له ، وهذا الخسار هو خسار الكفر ، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا ، وقد يكون معصية ، وقد يكون تفريطا في ترك مستحب ، المذكور في قوله تعالى : { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } فهذا عام لكل مخلوق ، إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، وحقيقة فوات الخير ، الذي [ كان ] العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه .
ثم وصف الله - تعالى - هؤلاء الفاسقين بثلاث خصال ذميمة فقال : في بيان الخصلة الأولى : { الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } .
والنقض : فى اللغة حقيقة في فسخ وحل ما ركب ووصل ، بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب مثل نقض الحبل المفتول وقد استعمل هنا مجازاً في إبطال العهد بقرينة إضافته إلى عهد الله .
وعبر عن إبطال العهد بالنقض ، لأنه أبلغ في الدلالة على الإِبطال من القطع والصرم ونحوهما ، لأن فى النقض إفساداً لهيئة الحبل .
والعهد : اسم للموثق الذي يلزم مراعاته وحفظه ، يقال : عهد إليه في كذا ، إذا أوصاه به ووثقه عليه .
وعهد الله : تارة يكون بما ركز في العقول من الحجة على التوحيد ، وتارة يكون بما أوجبه الله على الناس على لسان رسله - صلوات الله عليهم - وتارة بما يلتزمه المؤمن . وليس بلازم له في أصل الشرع مما ليس بمعصية كالنذور وما يجري مجراها .
والميثاق : التوثقة ، وهي التقوية والتثبيت ، والمراد به : ما قوى الله به عهده .
وقوله : { مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } متعلق بينقضون ، ومن لابتداء الغاية ، وميثاقه الضمير فيه يجوز أن يعود على العهد ، وأن يعود على اسم الله - فهو على الأولى مصدر مضاف إلى المفعول ، وعلى الثاني مضاف للفاعل .
أما الصفة الثانية التي وصفهم الله بها فهى قوله : { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } وهو عام في كل قطيعة لا يرضاها الله ، كقطع الرحم ، والإِعراض عن موالاة المؤمنين ، وترك الجماعات المفروضة ، وعدم وصل الأقوال الطيبة بالأعمال الصالحة ، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر .
وأما الصفة الثانية التي وصفهم بها فهي قوله - تعالى - : { وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض } .
والفساد في الأرض يقع بعبادة غير الله ، وبالدعاية إلى الكفر به ، وبالاستهزاء بالحق ، وبالاعتداء على حقوق الغير ، وبغير ذلك من الأمور التي حرمها الله - تعالى - .
وعبر بقوله { فِي الأرض } للإِشعار بأن فسادهم لا يقتصر عليهم ، وإنما هو يتعداهم إلى غيرهم . ثم بين - سبحانه - بعد أن دمغهم بتلك الصفات المرذولة - عاقبة أمرهم فقال : { أولئك هُمُ الخاسرون } .
الخاسرون : جمع خاسر مأخوذ من الخسر والخسران وهو النقص ، ومن نقض عهد الله ، وقطع ما أمر الله بوصله ، وأفسد في الأرض ، لا شك أنه قد نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز ، وكانت عاقبته الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة .
قال ابن جرير : " والخاسرون جمع خاسر ، وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم من رحمة الله بسسبب معصيتهم له ، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه ، وكذلك المنافق والكافر قد خسرا بحرمان الله لهما من رحمته التي خلقها لعباده . . . "
{ الذين ينقضون عهد الله } صفة للفاسقين للذم وتقرير الفسق . والنقض : فسخ التركيب ، وأصله في طاقات الحبل ، واستعماله في إبطال العهد من حيث إن العهد يستعار له الحبل لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر ، فإن أطلق مع لفظ الحبل كان ترشيحا . للمجاز ، وإن ذكر مع العهد كان رمزا إلى ما هو من روادفه وهو أن العهد حبل في شجاعته بحر بالنظر إلى إفادته . والعهد : الموثق ووضعه لما من شأنه أن يراعي ويتعهد كالوصية واليمين ، ويقال للدار ، من حيث إنها تراعي بالرجوع إليها . والتاريخ لأنه يحفظ ، وهذا العهد : إما العهد المأخوذ بالعقل ، وهو الحجة القائمة على عبادة الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسوله ، وعليه أول قوله تعالى : { وأشهدهم على أنفسهم } أو : المأخوذ بالرسل على الأمم ، بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ، ولم يكتموا أمره ولم يخالفوا حكمه ، وإليه أشار بقوله : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } ونظائره . وقيل : عهود الله تعالى ثلاثة : عهد أخذه على جميع ذرية آدم بأن يقروا بربوبيته ، وعهد أخذه على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه ، وعهد أخذه على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه .
{ من بعد ميثاقه } الضمير للعهد والميثاق : اسم لما يقع به الوثاقة وهي الاستحكام ، والمراد به ما وثق الله به عهده من الآيات والكتب ، أو ما وثقوه به من الالتزام والقبول ، ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر ، و{ من } للابتداء فإن ابتداء النقض بعد الميثاق .
{ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } يحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى ، كقطع الرحم ، والإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام ، والكتب في التصديق ، وترك الجماعات المفروضة ، وسائر ما فيه رفض خير . أو تعاطي شر فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل ، والأمر هو للقول الطالب للفعل ، وقيل : مع العلو ، وقيل : مع الاستعلاء ، وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور تسمية للمفعول به بالمصدر ، فإنه مما يؤمر به كما قيل له شأن وهو الطلب . والقصد يقال : شأنت شأنه ، إذا قصدت قصده . و{ أن يوصل } يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من ما ، أو ضميره . والثاني أحسن لفظا ومعنى .
{ ويفسدون في الأرض } بالمنع عن الإيمان والاستهزاء بالحق ، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه .
{ أولئك هم الخاسرون } الذين خسروا بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية ، واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها ، والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها ، واشتراء النقض بالوفاء ، والفساد بالصلاح ، والعقاب بالثواب .