قوله تعالى : { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً } الآية . قال أهل التفسير : بعث عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض ، فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أهلكك حب اليهود ؟ فقال : يا رسول الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ، إنما بعثت إليك لتستغفر لي ، وسأله أن يكفنه في قميصه ويصلي عليه . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، ثنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يحيى بن بكير ، حدثني الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد بن عباس ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه ، فقلت : يا رسول الله أتصلي على ابن أبي بن سلول وقد قال يوم كذا وكذا : كذا وكذا ؟ أعدد عليه قوله ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أخر عني يا عمر فلما أكثرت عليه قال : إني خيرت فاخترت ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها ، قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة : { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره } ، إلى قوله : { وهم فاسقون } . قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم " . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا علي بن عبد الله ، ثنا سفيان قال عمرو : سمعت جابر بن عبد الله قال : في فيه من ريقه وألبسه قميصه . فالله أعلم وكان كسا عباسا قميصا . قال سفيان : وقال هارون : وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال ابن عبد الله : يا رسول الله ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك . وروي عن جابر قال : لما كان يوم بدر أتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه ، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه عبد الله . قال ابن عيينة : كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال صلى الله عليه وسلم " وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله شيئا والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه " ، وروى أنه أسلم به ألف من قومه لما رأوه يتبرك بقميص النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } ولا تقف عليه ، ولا تتول دفنه ، من قولهم : قام فلان بأمر فلان : إذا كفاه أمره .
{ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } ، فما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قبض .
{ 84 } { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ }
يقول تعالى : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبدا } من المنافقين { وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } بعد الدفن لتدعو له ، فإن صلاته ووقوفه على قبورهم شفاعة منه لهم ، وهم لا تنفع فيهم الشفاعة .
{ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } ومن كان كافرا ومات على ذلك ، فما تنفعه شفاعة الشافعين ، وفي ذلك عبرة لغيرهم ، وزجر ونكال لهم ، وهكذا كل من علم منه الكفر والنفاق ، فإنه لا يصلى عليه .
وفي هذه الآية دليل على مشروعية الصلاة على المؤمنين ، والوقوف عند قبورهم للدعاء لهم ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يفعل ذلك في المؤمنين ، فإن تقييد النهي بالمنافقين يدل على أنه قد كان متقررا في المؤمنين .
وبعد أن بين - سبحانه - ما يجب أن يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - معهم في حياتهم ، أتبع ذلك ببيان ما يجب أن يفعله معهم بعد مماتهم فقال - تعالى - : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ } .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : " أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبرأ من المنافقين ، وان لا يصلى على أحد منهم إذا مات ، وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له ، أو يدعو له ؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله ، وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه ، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أبى بن سلول رأس المنافقين " .
فقد روى البخارى " عن ابن عمر قال : لما توفى عبد الله بن أبى جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه ، فأعطاه إياه ، ثم سأله أن يصلى عليه ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصى عليه ، فقام عمر ، فأخذ بثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : يا رسول الله ، تصلى عليه ، وقد نهاك ربك أن تصلى عليه ؟ فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - " وإنما خيرنى الله " فقال : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } وسأزيده على السبعين . قال : إنه منافق - قال : فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله - تعالى - قوله : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً . . . } الآية " .
وروى الإِمام أحمد عن ابن عباس قال : " سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما توفى عبد الله ابن أبى دعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عليه ، فقام عليه " فلما وقف عليه - يريد الصلاة - تحولت حتى قمت في صدره فقلت : يا رسول الله ، أعلى عدو الله : عبد الله بن أبى القائل يوم كذا ، كذا وكذا ، - وأخذ يعدد أيامه . قال : ورسول الله - صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى إذا أكثرت عليه قال : تأخر عنى يا عمر . إنى خيرت فاخترت ، قد قيل لى : { استغفر لَهُمْ } الآية . لو أعلم أنى لو زدت على السبعين غفر له لزدت ، قال : ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه . قال : فعجبت من جرأتى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ورسوله أعلم . قال فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } الآية . قال : فما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله - عز وجل " .
والمعنى : " لا تصل " - أيها الرسول الكريم - " على أحد " من هؤلاء المنافقين " مات أبدا ولا تقم على قبره " أى : ولا تقف على قبره عند الدفن أو بعد بقصد الزيارة أو الدعاء له ، وذلك لأن صلاتك علهيم ، ووقوفك على قلوبهم شفاعة لهم ، ورحمة بهم ، وتكريم لشأنهم . وهم ليسوا أهلا لذلك .
وقوله : { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } تعليل للنهى عن الصلاة عليهم ، والوقوف على قبورهم .
أى نهيناك - يا محمد - عن ذلك ، لأن هؤلاء المنافقين قد عاشوا حياتهم كافرين بالله ورسوله ، ومحاربين لدعوة الحق ، وماتوا وهم خارجون عن حظيرة الإِيمان .
وجمع - سبحانه - بين وصفهم بالكفر ووصفهم بالفسق زيادة في تقبيح أمرهم ، وتحقير شأنهم ؛ فهم لم يكتفوا بالكفر وحده ، وإنما أضافوا إليه الفسق ، وهو الخروج عن كل قول طيب ، وخلق حسن ، وفعل كريم .
قال بعضهم : فإن قلت : الفسق أدنى حالا من الكفر ، فما الفائدة في وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر ؟ قلت إن الكافر قد يكون عدلا بأن يؤدى الأمانة ، ولا يضمر لأحد سوءاً ، وقد يكون خبيثا كثير الكذب والمكر والخداع وإضمار السوء للغير ، وهذا أمر مستقبح عن كل أحد ، ولما كان المنافقون بهذه الصفة الخبيثة ، وصفهم الله - تعالى - بكونهم فاسقين بعد أن وصفهم بالكفر .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :
1- تحريم الصلاة على الكافر ، والوقوف على قبره ، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه ومشروعية الوقوف على قبره ، والدعاء له .
قال الإِمام ابن كثير : ولما نهى الله - تعالى - عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبوهم للاستغفار لهم ، كان هذا الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين ، فشرع ذلك وفى فعله الأجر الجزيل ، كما ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " " من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ، من شهدها حتى تدفن فله قيراطان ، قيل : وما القيراطان ، قال : " أصغرهما مثل أحد " وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات ، فروى أبو دواد عن عثمان بن عفان قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من الميت وقف عليه وقال : " استغروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " " .
2- وجوب منع كل مظهر من مظاهر التكريم - في الحياة وبعد الممات عن الذين يحاربون دعوة الحق ، ويقفون في وجه انتشارها وظهورها : أما منع تكريمهم في حياتهم فتراه في قوله - تعالى - في الآية السابقة : { فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً }
وأما منع تكريمهم بعد مماتهم فتراه في هذه الآية : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ } .
ولا شك أن حجب كل تكريم عن أولئك المنافقين في العهد النبوى ، كان له أثره القوى في انهيار دولتهم ، وافتضاح أمرهم ، وذهاب ريحهم ، وتهوين شأنهم . .
هذا ، وما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الله بن أبى من الصلاة عليه ، والقيام على قبره إنما كان قبل نزول هذه الآية . .
أو أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك تطييباً لقلب ابنه الذي كان من فضلاء الصحابة وأصدقهم إسلاما .
فقد سبق أن ذكرنا ما رواه البخارى عن ابن عمر أنه قال : لما توفى عبد الله ابن أبى جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه ، فأعطاه إياه ثم سأله أن يصلى عليه . . الحديث .
{ ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا } روي : ( أن عبد الله بن أبي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ، فلما دخل عليه سأله أن يستغفر له ويكفنه في شعاره الذي يلي جسده ويصلي عليه فلما مات أرسل قميصه ليكفن فيه وذهب ليصلي عليه ) فنزلت . وقيل صلى عليه ثم نزلت ، وإنما لم ينه عن التكفين في قميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضن بالقميص كان مخلا بالكرم ولأنه كان مكافأة لإلباسه العباس قميصه حين أسر ببدر ، والمراد من الصلاة الدعاء للميت والاستغفار له وهو ممنوع في حق الكافر ولذلك رتب النهي على قوله : { مات أبدا } يعني الموت على الكفر فإن إحياء الكافر للتعذيب دون التمتع فكأنه لم يحيى . { ولا تقم على قبره } ولا تقف عند قبره للدفن أو الزيارة . { إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } تعليل للنهي أو لتأبيد الموت .