قوله عز وجل :{ لئن لم ينته المنافقون } عن نفاقهم ، { والذين في قلوبهم مرض } فجور ، يعني الزنا { والمرجفون في المدينة } بالكذب ، وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقعون في الناس الرعب ، وإذا التحم القتال ولوا انهزموا ، ويقولون : قد أتاكم العدو ونحوها . وقال الكلبي : كانوا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويفشون الأخبار . { لنغرينك بهم } لنحرشنك بهم ولنسلطنك عليهم ، { ثم لا يجاورونك فيها } لا يساكنونك في المدينة { إلا قليلاً } حتى يخرجوا منها ، وقيل : لنسلطنك عليهم حتى تقتلهم وتخلي منهم المدينة .
وأما من جهة أهل الشر فقد توعدهم بقوله : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : مرض شك أو شهوة { وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } أي : المخوفون المرهبون الأعداء ، المحدثون{[724]} بكثرتهم وقوتهم ، وضعف المسلمين .
ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه ، ليعم ذلك ، كل ما توحي به أنفسهم إليهم ، وتوسوس به ، وتدعو إليه من الشر ، من التعريض بسب الإسلام وأهله ، والإرجاف بالمسلمين ، وتوهين قواهم ، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة ، وغير ذلك من المعاصي الصادرة ، من أمثال هؤلاء .
{ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } أي : نأمرك بعقوبتهم وقتالهم ، ونسلطك عليهم ، ثم إذا فعلنا ذلك ، لا طاقة لهم بك ، وليس لهم قوة ولا امتناع ، ولهذا قال : { ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا } أي : لا يجاورونك في المدينة إلا قليلاً ، بأن تقتلهم أو تنفيهم .
وهذا فيه دليل ، لنفي أهل الشر ، الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين ، فإن ذلك أحسم للشر ، وأبعد منه ، ويكونون { مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا }
ثم هدد - سبحانه - المنافقين وأشباههم بسوء المصير ، إذا ما استمروا فى إيذائهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين والمؤمنات . وبين - عز وجل - أن وقت قيام الساعة مرد علمه إليه وحده . وأن الكافرين عند قيامها سيندمون ولكن لني نفعهم الندم ، فقال - تعالى - : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون . . . والعنهم لَعْناً كَبِيراً } .
والمنافقون : جمع منافق ، وهو الذى يظهر الإِسلام ويخفى الكفر .
والذين فى قلوبهم مرض : هم قوم ضعاف الإِيمان ، قليلو الثبات على الحق .
والمرجفون فى المدينة : هم الذين ينشرون أخبار السوء عن المؤمنين ويلقون الأكاذيب الضارة بهم ويذيعونها بين الناس . وأصل الإِرجاف : التحريك الشديد للشئ ، مأخوذ من الرجفة التى هى الزلزلة . ووصف به الأخبار الكاذبة ، لكونها فى ذاتها متزلزلة غير ثابتة ، أو لإِحداثها الاضطراب فى قلوب الناس .
وقد سار بعض المفسرين ، على أن هذه الأوصاف الثلاثة ، كل وصف منها لطائفة معينة ، وسار آخرون على أن هذه الأوصاف لطائفة واحدة هى طائفة المنافقين ، وأن العطف لتغابر الصفات مع اتحاد الذات .
قال القرطبى : قوله : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة . . . } أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشئ واحد . . والواو مقحمة كما فى قول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهما . . . م وليث الكتيبة فى المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابنا لهمام ليث الكتبية .
وقيل : كان منهم قوم يرجفون ، وقوم يتبعون النساء للريبة ، وقوم يشككون المسلمين .
وقد سار صاحب الكشاف على أن هذه الأوصاف لطوائف متعددة من الفاسقين ، فقال : { والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } قوم كان فيهم ضعف إيمان ، وقلة ثبات عليه . .
{ والمرجفون فِي المدينة } ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت ، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين .
والمعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عدائكم وكيدكم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء ، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التى تسوؤهم وتنوؤهم .
وقوله : { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } جواب القسم . أى : لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل والتشريد ، يقال : أغرى فلان فلانا بكذا ، إذا حرضه على فعله .
وقوله : { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً } معطوف على جواب القسم . أى : لنغرينك بهم ثم لا يبقون بعد ذلك مجاورين لك فيها إلا زمانا قليلا ، يرتحلون بعده بعيدا عنكم ، لكى تبتعدوا عن شرورهم .
وجاء العطف بثم فى قوله : { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ } للإِشارة إلى أن إجلاءهم عن المدينة نعمة عظيمة بالنسبة للمؤمنين ، ونقمة كبيرة بالنسبة لهؤلاء المنافقين وأشباهههم .
ثم قال تعالى متوعدًا للمنافقين ، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر : { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال عكرمة وغيره : هم الزناة هاهنا { وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } يعني : الذين يقولون : " جاء الأعداء " و " جاءت الحروب " ، وهو كذب وافتراء ، لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي : لنسلطنَّك عليهم . وقال قتادة ، رحمه الله : لنحرّشَنَّك بهم . وقال السدي : لنعلمنك بهم .
{ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا } أي : في المدينة { إِلا قَلِيلا } .
اللام في قوله تعالى : { لئن } هي المؤذنة بمجيء القسم ، واللام في { لنغرينك } هي لام القسم ، وتوعد الله تعالى هذه الأصناف في هذه الآية ، وقرن توعده بقرينة متابعتهم وتركهم الانتهاء ، فقالت فرقة : إن هذه الأصناف لم تنته ولم ينفذ الله تعالى عليها هذا الوعيد ، فهذه الآية دليل على بطلان القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة ، وقالت فرقة : إن هذه الأصناف انتهت وتستر جميعهم بأمرهم وكفوا وما بقي من أمرهم أنفذ الله تعالى وعيداً بإزائه ، وهو مثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم إلى غير ذلك مما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنافقين من الإذلال في إخراجهم من المسجد وما نزل فيهم في سورة براءة وغير ذلك ، فهم لا يمتثلوا الانتهاء جملة ولا نفذ عليهم الوعيد كاملاً . و { المنافقون } صنف يظهر الإيمان ولا يبطنه ، { والذين في قلوبهم مرض } هو الغزل وحب الزنا قاله عكرمة ، ومنه قوله تعالى : { فيطمع الذي في قلبه مرض }{[9579]} [ الأحزاب : 32 ] و { المرجفون في المدينة } هم قوم من المنافقين كانوا يتحدثون بغزو العرب المدينة وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيغلب ، ونحو هذا مما يرجفون به نفوس المؤمنين ، فيحتمل أن تكون هذه الأصناف مفترقة بعضها من بعض ، ويحتمل أن تكون داخلة في جملة المنافقين ، لكنه نص على هاتين الطائفتين وهو قد ضمهم عموم لفظة النفاق تنبيهاً عليهم وتشريداً بهم وغضاً منه ، و «نغرينك » معناه نحضك عليهم بعد تعيينهم لك ، قال ابن عباس المعنى لنسلطنك عليهم ، وقال قتادة لنحرشنك بهم ، وقوله تعالى : { ثم لا يجاورونك فيها } أي بعد الإغراء لأنك تنفيهم بالإخافة والقتل ، وقوله { إلا قليلاً } يحتمل أن يريد إلا جواراً قليلاً أو وقتاً قليلاً ، ويحتمل أن يريد إلا عدداً قليلاً ، كأنه قال إلا أقلاء .