197- والحج يقع في أشهر معلومة لكم ، إذ كان أمره معروفاً عندكم من عهد إبراهيم - عليه السلام - وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة ، فمن فرض الحج على نفسه في هذه الأشهر ودخل فيه فليراع آدابه ، ومن آداب الحج أن يتنزه المحرم عن مباشرة النساء ، وعن المعاصي من السباب وغيره ، وعن الجدل والمراء مع غيره من الحجيج ، وعن كل ما يجر إلى الشحناء والخصام حتى يخرج المحرم مهذب النفس ، وليجتهد في فعل الخير ، وطلب الأجر من الله بالعمل الصالح فإن الله عليم بذلك ومجاز عليه ، وتزودوا لآخرتكم بالتقوى والائتمار بأوامر الله واجتناب نواهيه ، فإن ذلك خير الزاد ، واستشعروا خشية الله فيما تأتون وما تذرون كما هو مقتضى العقل والحكمة ، فلا تشوبوا أفعالكم بدواعي الهوى والغرض الدنيوي .
قوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } . أي وقت الحج أشهر معلومات وهي : شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة ، إلى طلوع الفجر من يوم النحر ، ويروى عن ابن عمر : شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة . وكل واحد من اللفظين صحيح غير مختلف ، فمن قال عشر : عبر به عن الليالي ومن قال تسع عبر به عن الأيام ، فإن آخر أيامها يوم عرفة ، وهو يوم التاسع وإنما قال أشهر : بلفظ الجمع وهي شهران وبعض الثالث ، لأنها وقت ، والعرب تسمي الوقت تاماً بقليله وكثيره . فتقول أتيتك يوم الخميس . وإنما أتاه في ساعة منه ، ويقولون : زرتك العام ، وإنما زاره في بعضه ، وقيل : الاثنان فما فوقهما جماعة . لأن معنى الجمع ضم الشيء إلى شيء ، فإذا جاز أن يسمى الاثنان جماعة جاز أن يسمى الاثنان وبعض الثالث جماعة ، وقد ذكر الله تعالى الاثنين بلفظ الجمع فقال ( فقد صغت قلوبكما ) أي قلباكما ، وقال عروة بن الزبير وغيره : أراد بالأشهر شوالاً وذا القعدة وذا الحجة ، كمالا لأنه يبقى على الحاج أمور بعد عرفة . يجب عليه فعلها مثل : الرمي ، والذبح ، والحلق ، وطواف الزيارة ، والبيتوتة بمنى ، فكانت في حكم الحج .
قوله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج } . أي فمن أوجب على نفسه الحج بالإحرام والتلبية . وفيه دليل على أن من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد إحرامه بالحج ، وهو قول ابن عباس وجابر وبه قال عطاء وطاووس ومجاهد . وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي . وقال سعيد : ينعقد إحرامه بالعمرة ، لأن الله تعالى خص هذه الأشهر بفرض الحج فيها ، فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص فائدة ، كما أنه علق الصلوات بالمواقيت ثم من أحرم بفرض الصلاة قبل دخول وقته لا ينعقد إحرامه عن الفرض . وذهب جماعة إلى أنه ينعقد إحرامه بالحج . وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة رضي الله عنه ، وأما العمرة : فجميع أيام السنة لها إلا أن يكون متلبساً بالحج ، وروي عن أنس أنه كان بمكة فكان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر .
قوله تعالى : { فلا رفث ولا فسوق } . قرأ ابن كثير وأهل البصرة ، ( فلا رفث ولا فسوق ) بالرفع والتنوين فيهما ، وقرأ الآخرون بالنصب من غير تنوين كقوله تعالى ( ولا جدال في الحج ) وقرأ أبو جعفر كلها بالرفع والتنوين ، واختلفوا في الرفث : قال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر : " هو الجماع " وهو قول الحسن ومجاهد وعمرو بن دينار وقتادة وعكرمة والربيع وإبراهيم النخعي ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الرفث غشيان النساء والتقبيل والغمز ، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام قال حصين بن قيس أخذ ابن عباس رضي الله عنه بذنب بعيره فجعل يلويه وهو يحدو ويقول :
وهن يمشين بنا هميسا *** إن تصدق الطير ننك لميسا
فقلت له : أترفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما قيل عند النساء ، قال طاووس : الرفث التعريض للنساء بالجماع وذكره بين أيديهن ، وقال عطاء : الرفث قول الرجل للمرأة في حال الإحرام إذا حللت أصبتك ، وقيل : الرفث الفحش والقول القبيح ، أما الفسوق فقد قال ابن عباس : هو المعاصي كلها ، وهو قول طاووس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والزهري والربيع والقرظي ، وقال ابن عمر : هو ما نهي عنه المحرم في حال الإحرام من قتل الصيد وتقليم الأظافر ، وأخذ الأشعار ، وما أشبههما وقال إبراهيم وعطاء ومجاهد ، هو السباب بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " وقال الضحاك هو التنابز بالألقاب بدليل قوله تعالى ( ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا آدم أخبرنا شعبة ، أخبرنا سيار أبو الحكم قال : سمعت أبا حازم يقول : سمعت أبا هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه " .
قوله تعالى : { ولا جدال في الحج } . قال ابن مسعود وابن عباس : الجدال أي يماري صاحبه ويخاصمه حتى يغضبه ، وهو قول عمرو بن دينار ، وسعيد بن جبير وعكرمة ، والزهري ، وعطاء وقتادة ، وقال القاسم بن محمد : هو أن يقول بعضهم الحج اليوم ، ويقول بعضهم الحج غداً ، وقال القرظي : كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء : حجنا أتم من حجكم ، وقال هؤلاء : حجنا أتم من حجكم . وقال مقاتل : هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم في حجة الوداع وقد أحرموا بالحج : " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي " قالوا كيف نجعله عمرة وقد سمينا الحج ؟ " فهذا جدالهم ، وقال ابن زيد : كانوا يقفون مواقف مختلفة كلهم يزعم أن موقفه موقف إبراهيم يتجادلون فيه ، وقيل : هو ما كان عليه أهل الجاهلية ، كان بعضهم يقف بعرفة وبعضهم بالمزدلفة ، وكان بعضهم يحج في ذي القعدة ، وكان بعضهم يحج في ذي الحجة ، فكل يقول : ما فعلته فهو الصواب ، فقال جل ذكره ( ولا جدال في الحج ) أي استقر أمر الحج على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا اختلاف فيه من بعد ، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " قال مجاهد معناه : ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة فأبطل النسيء . قال أهل المعاني : ظاهر الآية نفي ، ومعناها نهى ، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ، كقوله تعالى ( لا ريب فيه ) أي لا ترتابوا .
قوله تعالى : { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } . أي لا يخفى عليه فيجازيكم به .
قوله تعالى : { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } . نزلت في ناس من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج بغير زاد ويقولون : نحنمتوكلون ، ويقولون : نحن نحج بيت الله أفلا يطعمنا ؟ فإذا قدموا مكة سألوا الناس ، وربما يفضي بهم الحال إلى النهب والغصب ، فقال الله جل ذكره : ( وتزودوا ) أي ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم ، قال أهل التفسير : الكعك والزبيب والسويق والتمر ونحوها ( فإن خير الزاد التقوى ) من السؤال والنهب ( واتقون يا أولي الألباب ) يا ذوي العقول .
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }
يخبر تعالى أن { الْحَجَّ } واقع في { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } عند المخاطبين ، مشهورات ، بحيث لا تحتاج إلى تخصيص ، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره ، وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس .
وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم ، التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم .
والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا .
{ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي : أحرم به ، لأن الشروع فيه يصيره فرضا ، ولو كان نفلا .
واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه ، على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره ، قلت لو قيل : إن فيها دلالة لقول الجمهور ، بصحة الإحرام [ بالحج ] قبل أشهره لكان قريبا ، فإن قوله : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها ، وإلا لم يقيده .
وقوله : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } أي : يجب أن تعظموا الإحرام بالحج ، وخصوصا الواقع في أشهره ، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه ، من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية ، خصوصا عند النساء بحضرتهن .
والفسوق وهو : جميع المعاصي ، ومنها محظورات الإحرام .
والجدال وهو : المماراة والمنازعة والمخاصمة ، لكونها تثير الشر ، وتوقع العداوة .
والمقصود من الحج ، الذل والانكسار لله ، والتقرب إليه بما أمكن من القربات ، والتنزه عن مقارفة السيئات ، فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور ، ليس له جزاء إلا الجنة ، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان ، فإنها{[132]} يتغلظ المنع عنها في الحج .
واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } أتى ب " من " لتنصيص على العموم ، فكل خير وقربة وعبادة ، داخل في ذلك ، أي : فإن الله به عليم ، وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير ، وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة ، فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها ، من صلاة ، وصيام ، وصدقة ، وطواف ، وإحسان قولي وفعلي .
ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك ، فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين ، والكف عن أموالهم ، سؤالا واستشرافا ، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين ، وزيادة قربة لرب العالمين ، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع .
وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه ، في دنياه ، وأخراه ، فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار ، وهو الموصل لأكمل لذة ، وأجل نعيم دائم أبدا ، ومن ترك هذا الزاد ، فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر ، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين . فهذا مدح للتقوى .
ثم أمر بها أولي الألباب فقال : { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } أي : يا أهل العقول الرزينة ، اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول ، وتركها دليل على الجهل ، وفساد الرأي .
ثم بين - سبحانه - وقت الحج وما يجب على المسلم عند أدائه لهذه الفريضة من آداب فقال - تعالى - :
{ الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ . . . }
قوله : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } .
أي : وقت الحج أشهر معلومات أو أشهر الحج أشهر معلومات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .
وجعلت النسبة إلى الحج نفسه لا إلى وقته ، للإِشعار بأن هذه الأشهر لكونها تؤدي فيها هذه الفريضة قد اكتسبت تقديساً وبركة منها ، حتى لكأن هذه الأشهر هي الفريضة نفسها قال القرطبي ما ملخصه : وأشهر الحج هي شوال وذي القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة . وقيل هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله وفائدة الفرق تعلق الدم ؛ فمن قال : إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم يوجب دماً على من أخر طواف الإِفاضة إلى آخر ذي الحجة لأنه وقع في أشهر الحج ، ومن قال بأن وقت الحج ينقضي بالعشرة الأولى من ذي الحجة يوجب الدم عليه لتأخيره عن وقته . ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث ، لأن بعض الشهر ينزل منزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا ولعله إنما رآه في ساعة منها " .
وعبر - سبحانه - عن هذه الأشهر بأنها معلومات ، لأن العرب كانوا يعرفون أشهر الحج من كل عام منذ عهد إبراهيم - عليه السلام - وقد جاء الإِسلام مقرراً لما عرفوه . أو المراد بكونها معلومات أنها مؤقتة بأوقات معينة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها عنها ، وهو يتضمن بطلان النسئ الذي كان يفعله الجاهليون تبعاً لأهوائهم .
وقوله : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } بيان لما يحب أن يتحلى به المسلم من فضائل عند أدائه لهذه الفريضة .
قال الإِمام الرازي : ومعنى { فَرَضَ } في اللغة ألزم وأوجب . يقال : فرضت عليك كذا ، أي أوجبته . وأصل معنى الفرض في اللغة الحز الذي يقع فيه الوتر ، ومنه فرض الصلاة وغيرها لأنها لازمة للعبد كلزوزم الحز للقدح ففرض هنا بمعنى أوجب وألزم . . . " .
والرفث في الأصل : الفحش من القول . والمراد به هنا الجماع . أو الكلام المتضمن لما يستقبح ذكره من الجماع ودواعيه .
قال القرطبي : وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج وعليه حج قابل والهدي .
والفسوق : الخروج عن طاعة الله بارتكاب المعاصي ، ومن ذلك السباب وفعل محظورات الإِحرام ، وغير ذلك مما نهى الله عنه ،
والجدال على وزن فعال من المجادلة وهي مشقة من الجدل وهو الفتل ومنه : زمام مجدول .
وقيل : هي مشقة من الجدالة التي هي الأرض . فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه ، فيكون كمن ضرب به الجدالة .
والمراد النهي عن الممارة والمنازعة التي تؤدي إلى البغضاء وتغير القلوب .
والمعنى : أوقات الحج أشهر معلومات ، فمن نوى وأوجب على نفسه فيهن الحج وأحرم به فعليه أن يجتنب الجماع بالنساء ودواعيه ؛ وأن يبتعد عن كل قول أو فعل يكون خارجاً عن آداب الإِسلام ، ومؤدياً إلى التنازع بيين الرفقاء والإِخوان ، فإن الجميع قد اجتمعوا على مائدة الرحمن ، فعليهم أن يجتمعوا على طاعته ، وأن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان .
روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " .
قال الآلوسي : وقال - سبحانه - { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } بالإِظهار ولم يقل فيه مع أن المقام يقتضي الإِضمار ، لإِظهار كمال الاعتناء بشأنه ، وللإِشعار بعلة الحكم ، فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها إلى الله - تعالى - من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك . وإيثار النفي للمبالغة في النهي ، والدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون ، فإن ما كان منكراً مستقبحاً في نفسه منهياً عنه مطلقاصار في حق المحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح .
والضمير في قوله : { فِيهِنَّ } للأشهر ، لأنه جمع لغير العاقل فيجرى على التأنيث .
وجملة { فَلاَ رَفَثَ . . } إلخ في محل جزم جواب من الشرطية والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى { فَلاَ رَفَثَ } من ضمير يعود على " من " ، لأن التقدير فلا يرفث . ويجوز أن تكون جملة { فَلاَ رَفَثَ . . } وما عطف عليها في محل رفع خبر لمن على أنها موصولة .
وقد أخذ الشافعية من هذه الآية أنه لا يجوز الإِحرام بالحج في غير أشهر الحج ، لأن الإِحرام به في غير أشهره يكون شروعاً في العبادة في غير وقتها فلا تصح .
ويرى الأحناف والحنابلة ، أنه يجوز الإِحرام قبل أشهره ولكنه مع الكراهة : والإِمام مالك لا يرى كراهة في ذلك .
ويبدو أن رأي الشافعية هنا أرجح ، لأن قوله - تعالى - : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج . . . } يشهد لهم ، فقد جعل - سبحانه - هذه الأشهر وعاء لهذه الفريضة وظرفاً لها .
أي : اتركوا الأقوال والأفعال القبيحة ، وسارعوا إلى الأعمال الصالحة خصوصاً في تلك الأزمنة والأمكنة المفضلة ، والله - تعالى - لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، وهو - سبحانه - سيجازيكم على فعل الخير بما تستقحون من جزاء .
ثم قال - تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } .
قال الإِمام الرازي : في هذه الجملة الكريمة قولان :
أحدهما : أن المراد وتزودوا من التقوى - أي الأعمال الصالحة - والدليل عليه قوله بعد ذلك { فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } وتحقيق الكلام فيه أن الإِنسان له سفران : سفر في الدنيا وسفر من الدنيا لا بد له أيضاً من زاد وهو معرفة الله ومحبته والإِعراض عما سواه ، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لأن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم .
. قال الأعشى مقرراً هذا المعنى :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى . . . ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله . . . وأنك لم ترصد بما كان أرصدا
والقول الثاني : أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون إنا متوكلون ، ثم كانوا يسألون الناس ، وربما ظلموا الناس وغصبوهم فأمرهم الله - تعالى - أن يتزودوا بالمال والطعام الذي يغنيهم عن سؤال الناس .
والذي نراه أن الجملة الكريمة تسع القولين . فهي تدعو الناس إلى أن يتزودوا بالزاد المعنوي النفسي الذي يسعدهم ألا وهو تقوى الله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والاكثار من العمل الصالح وفي الوقت نفسه هي تأمرهم - أيضاً - بأن يتزودوا بالزاد المادي الحقيقي الذي يغنيهم عن سؤال الناس ، ويصون لهم ماء وجوههم .
وبذلك نكون قد استعملنا اللفظ في حقيقته ومجازه ، وهو استعمال شائع مستساغ عند كثير من العلماء .
ثم ختم - سبحانه - الآية بتأكيد أمر التقوى ووجوب الإِخلاص فقال : { واتقون ياأولي الألباب } والألباب : جمع لب وهو العقل واللب من كل شيء : هو الخالص منه . وسمى به العقل ، لأنه أشرف ما في الإِنسان .
أي : أخلصوا لي يا أصحاب العقول السليمة ، والمدارك الواعية ، لأنكم لما كنتم كذلك كان وجوبها عليكم أثبت ، واعراضكم عنها أقبح . ورحم الله القائل :
ولم أر في عيوب الناس عيباً . . . كنقص القادرين على التمام
والجملة الكريمة ليست تكرارا لسابقتها ، لأن الأولى حث على التقوى وهذه حث على الإِخلاص فيها .
اختلف أهل العربية في قوله : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } فقال بعضهم : [ تقديره ]{[3522]} الحج حَجُّ أشهر معلومات ، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها ، وإن كان ذاك صحيحا ، والقول بصحة الإحرام بالحج في جميع السّنَةِ مذهبُ مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن رَاهويه ، وبه يقول إبراهيم النخَعي ، والثوري ، والليث بن سعد . واحْتَجّ لهم بقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [ البقرة : 189 ] وبأنه أحد النسكين . فصح الإحرام به في جميع السَّنَةِ كالعمرة .
وذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره{[3523]} فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به ، وهل ينعقد عُمْرة ؟ فيه قولان عنه . والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره مَرْويّ عن ابن عباس ، وجابر ، وبه يقول عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، رحمهم الله ، والدليل عليه قوله تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة ، وهو أن : وقت الحج أشهر مَعْلُومات ، فخصصه بها من بين سائر شهور السنة ، فدلّ على أنه لا يصح قبلها ، كميقات الصلاة .
قال الشافعي ، رحمه الله : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، أخبرني عُمَر بن عَطَاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قال : لا ينبغي لأحد أن يُحْرِم بالحج إلا في شهور{[3524]} الحج ، من أجل قول الله : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن يحيى بن مالك السوسي ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج ، به . ورواه ابن مَرْدويه في تفسيره من طريقين ، عن حجاج بن أرطاة ، عن الحكم بن عُتَيبة{[3525]} عن مِقْسَم ، عن ابن عباس : أنه قال : من السُّنَّة ألا يحرم [ بالحج ]{[3526]} إلا في أشهر الحج .
وقال ابن خزيمة في صحيحه : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مقْسَم ، عن ابن عباس ، قال : لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج{[3527]} . وهذا إسناد صحيح ، وقول الصحابي : " من السنة كذا " في حكم المرفوع عند الأكثرين ، ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن ، وهو ترجمانه .
وقد ورد فيه حديث مرفوع ، قال{[3528]} ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع{[3529]} حدثنا الحسن بن المُثَنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج " .
وإسناده لا بأس به . لكن{[3530]} رواه الشافعي ، والبيهقي من طُرق ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل : أيُهَلّ بالحج قبل أشهر الحج ؟ فقال : لا{[3531]} .
وهذا الموقوف أصحّ وأثبت من المرفوع ، ويبقى حينئذ مذهب صحابي ، يتقوّى بقول ابن عباس : " من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره " . والله أعلم .
وقوله : { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قال البخاري : قال ابن عمر : هي شوال ، وذو القَعْدة ، وعشر من ذي الحجة{[3532]} . وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولا حدثنا أحمد بن حازم بن أبي غَرْزة{[3533]} حدثنا أبو نعيم ، حدثنا ورقاء ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قال : شوال ، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة{[3534]} .
إسناد{[3535]} صحيح ، وقد رواه الحاكم أيضًا في مستدركه ، عن الأصم ، عن الحسن بن علي بن عفان ، عن عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله{[3536]} عن نافع ، عن ابن عمر - فذكره وقال : على شرط الشيخين{[3537]} .
قلت : وهو مَرْويّ عن عُمَر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وعبد الله بن الزبير ، وابن عباس ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين ، ومكحول ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حَيّان . وهو مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، وأبي يوسف ، وأبي ثَوْر ، رحمهم الله . واختار هذا القول ابن جرير ، قال : وصح إطلاق الجمع{[3538]} على شهرين وبعض الثالث للتغليب ، كما تقول العرب : " زرته العام ، ورأيته اليوم " . وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم ؛ قال الله تعالى : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 203 ] وإنما تعجل في يوم ونصف .
وقال الإمام مالك بن أنس [ والشافعي في القديم ]{[3539]} : هي{[3540]} : شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله . وهو رواية عَن ابن عُمَر أيضًا ؛ قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : شوال وذو القعدة وذو الحجة .
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني ابن جريج ، قال : قلت لنافع : أسمعت عبد الله بن عُمَر يسمي شُهُور الحج ؟ قال : نعم ، كان عبد الله يسمي : " شوال وذو القعدة وذو الحجة " . قال{[3541]} ابن جريج : وقال ذلك ابن شُهاب ، وعطاء ، وجابر بن عبد الله صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج . وقد حُكي هذا أيضًا عن طاوس ، ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، والربيع بن أنس ، وقتادة . وجاء فيه حديث مرفوع ، ولكنه موضوع ، رواه الحافظ بن مَرْدويه ، من طريق حُصَين بن مخارق - وهو متهم بالوضع - عن يونس بن عبيد ، عن شهر بن حَوْشَب ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحج أشهر معلومات : شوال وذو القعدة وذو الحجة " {[3542]} .
وهذا كما رأيت لا يَصح رفعه ، والله أعلم .
وفائدة مذهب مالك أنَّه إلى آخر ذي الحجة ، بمعنى أنه مختص بالحج ، فيكره الاعتمار في بقية
ذي الحجة ، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن قيس بن مُسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قال عبد الله : الحج أشهر معلومات ، ليس فيها عمرة . وهذا إسناد صحيح .
قال ابن جرير : إنما أراد من ذَهَب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة أنّ هذه الأشهر ليست أشهر العمرة ، إنما هي للحج ، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى ، كما قال محمد بن سيرين : ما أحد مِن أهل العلم يَشُكّ في أن عمرة في غير أشهر الحجّ أفضل من عمرة في أشهر الحج .
وقال ابن عون : سألت القاسم بن محمد ، عن العمرة في أشهر الحج ، فقال : كانوا لا يرونها تامة .
قلت : وقد ثبت عن عمر وعثمان ، رضي الله عنهما ، أنهما كانا يحبان{[3543]} الاعتمار في غير أشهر الحج ، وينهيان عن ذلك في أشهر الحج ، والله أعلم .
وقوله : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي : أوجب بإحرامه حَجًّا . فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه . قال ابن جرير : أجمعوا على أن المراد من الفَرْض هاهنا الإيجاب والإلزام .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } يقول : من أحرم بحَجّ أو عمرة . وقال عطاء : الفرضُ الإحرامُ . وكذا قال إبراهيم ، والضحاك ، وغيرهم .
وقال ابن جُرَيج : أخبرني عمر بن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه قال { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض . قال ابن أبي حاتم : ورَوُي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم النخَعي ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، والزهري ، ومقاتل بن حَيّان - نحو ذلك .
وقال طاوس ، والقاسمُ بن محمد : هو التلبية .
وقوله : { فَلا رَفَثَ } أي : من أحرم بالحج أو العمرة ، فليجتنب الرفث ، وهو الجماع ، كما قال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } [ البقرة : 187 ] ، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك ، وكذا التكلم به بحضرة النساء .
قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس : أن نافعا أخبره : أن عبد الله بن عمر كان يقول : الرفثُ إتيانُ النساء ، والتكلم بذلك : الرجالُ والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم .
قال ابن وهب : وأخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كَعْب ، مثله .
قال ابن جرير : وحدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن رجل ، عن أبي العالية الرَّياحي ، عن ابن عباس : أنه كان يحدو - وهو محرم - وهو يقول :
وَهُنَّ يَمْشينَ بنَا هَمِيسَا *** إنْ يَصْدُق الطَّيْرُ نَنَلْ لَميسَا
قال أبو العالية فقلت : تَكَلّمُ بالرفث وأنت محرم ؟ ! قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء{[3544]} .
ورواه الأعمش ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس ، فذكره .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا ابن أبي عدي ، عن عَون{[3545]} حدثني زياد بن حصين ، حدثني أبي حصين بن قيس ، قال : أصْعَدْتُ مع ابن عباس في الحاجِّ ، وكنت خليلا له ، فلما كان بعد إحرامنا قال ابن عباس ، فأخذ بذَنَب بعيره فجعل يلويه و[ هو ]{[3546]} يرتجز ، ويقول :
وَهُنَّ يَمْشِينَ بنَا هَمِيسَا *** إنْ يَصْدُق الطَّيْرُ نَنَلْ لَميسَا
قال : فقلت : أترفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما قيل عند النساء{[3547]} .
وقال عبد الله بن طاوس ، عن أبيه : سألت ابن عباس عن قول الله تعالى : { فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ } قال : الرفث التعريض بذكر الجماع ، وهي العَرَابَة في كلام العرب ، وهو أدنى الرفث .
وقال عطاء بن أبي رباح : الرفثُ : الجماع ، وما دونه من قول الفحش ، وكذا قال عمرو بن دينار . وقال عطاء : كانوا يكرهون العَرَابة ، وهو التعريض بذكر الجماع وهو مُحْرِم .
وقال طاوس : هو أن تقُول للمرأة : إذا حَلَلْت أصبتُك . وكذا قال أبو العالية .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الرفث : غِشْيان النساء والقُبَل والغَمْز ، وأن يُعَرّض لهَا بالفحش{[3548]} من الكلام ، ونحو ذلك .
وقال ابن عباس أيضًا وابن عمر : الرفثُ : غشيانُ النساء . وكذا قال سعيدُ بن جُبَير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وأبو العالية ، وعطاء ، ومكحول ، وعطاء بن يسار ، وعطية ، وإبراهيم النَّخَعي ، والربيع ، والزهري ، والسدي ، ومالك بن أنس ، ومقاتل بن حَيَّان ، وعبد الكريم بن مالك ، والحسن ، وقتادة والضحاك ، وغيرهم .
وقوله : { وَلا فُسُوقَ } قال مِقْسَم وغير واحد ، عن ابن عباس : هي المعاصي . وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، وطاوس ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، ومحمد بن كعب ، والحسن ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والزهري ، ومكحول ، وابن أبان ، والربيع بن أنس ، وعطاء بن يسار ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان .
وقال محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر{[3549]} قال : الفسوق : ما أصيبَ من معاصي الله به صَيْد أو غيره . وكذا روى ابن وهب ، عن يونس ، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم .
وقال آخرون : الفسوقُ هاهنا السباب ، قاله ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، ومجاهد ، والسدي ، وإبراهيم والحسن . وقد يتمسك لهؤلاء{[3550]} بما ثبت في الصحيح{[3551]} " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " .
ولهذا رواه هاهنا الحبرُ أبو محمد بن أبي حاتم ، رحمه الله ، من حديث سفيان الثوري عن يزيد{[3552]} عن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " {[3553]} . وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه{[3554]} ومن حديث أبي إسحاق عن محمد بن سعد عن أبيه{[3555]} ]{[3556]} .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الفسوق هاهنا : الذبح للأصنام . قال الله تعالى : { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [ الأنعام : 145 ] .
وقال الضحاك : الفسوق : التنابز بالألقاب .
والذين قالوا : الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي ، معهم الصواب ، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم ، وإن كان في جميع السنة منهيًا عنه ، إلا أنه في الأشهر الحرم آكَدُ ؛ ولهذا قال : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [ التوبة : 36 ] ، وقال في الحرم : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] .
واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا : هو ارتكاب ما نُهي عنه في الإحرام ، من قتل الصيد ، وحَلْق الشعر ، وقَلْم الأظفار ، ونحو ذلك ، كما تقدم عن ابن عمر . وما ذكرناه أولى ، والله أعلم . وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " {[3557]} .
وقوله : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فيه قولان :
أحدهما : ولا مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه ، وقد بينه الله أتَمّ بيان ووضحه أكمل إيضاح . كما قال وَكِيع ، عن العلاء بن عبد الكريم : سمعت مجاهدًا يقول : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قد بين الله أشهر الحَج ، فليس فيه جدال بين الناس .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال : لا شهر يُنْسَأ ، ولا جدال في الحج ، قد تَبَيَّن ، ثم ذكر كيفية ما كان المشركون يصنعون في النسيء الذي ذمهم الله به .
وقال الثوري ، عن عبد العزيز بن رُفَيع ، عن مجاهد في قوله : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال : قد استقام الحج ، فلا جدَال فيه . وكذا قال السدي .
وقال هُشَيم : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال : المراء في الحج .
وقال عبد الله بن وهب : قال مالك : قال الله تعالى : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فالجدال في الحج - والله أعلم - أنّ قريشًا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة ، وكانت العرب ، وغيرهم يقفون بعَرفَة ، وكانوا يتجادلون ، يقول هؤلاء : نحن أصوب . ويقول هؤلاء : نحن أصوب . فهذا فيما نرى ، والله أعلم .
وقال ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا يقفُون مَوَاقف مختلفة يتجادلون ، كُلّهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم فقطعه الله حين أعلم نَبَّيه بالمناسك .
وقال ابن وهب ، عن أبي صخر ، عن محمد بن كعب ، قال : كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء : حجُّنا أتّم من حجكم . وقال هؤلاء : حجّنا أتم من حَجكم .
وقال حماد بن سلمة عن جبر{[3558]} بن حبيب ، عن القاسم بن محمد أنه قال : الجِدَال في الحج أن يقول بعضهم : الحجّ غدًا . ويقول بعضهم : اليوم .
وقد اختار ابن جرير مضمونَ هذه الأقوال ، وهو قطع التنازع في مناسك الحج .
والقول الثاني : أن المراد بالجدال هاهنا : المخاصمة .
قال ابن جرير : حدثنا عبد الحميد بن بيان{[3559]} حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - في قوله : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال : أنْ تماري صاحبك حتى تغضبه .
وبهذا الإسناد إلى أبي إسحاق ، عن التميمي : سألت ابن عباس عن " الجدال " قال : المراء ، تماري صاحبك حتى تغضبه . وكذا روى مِقْسَم والضحاك ، عن ابن عباس . وكذا قال أبو العالية ، وعطاء ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، وعطاء الخراساني ، ومكحول ، وعمرو بن دينار ، والسدي ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وإبراهيم النَّخَعي ، وعطاء بن يسار ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، ومقاتل بن حيّان .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال الجدال : المراء والملاحاة ، حتى تغضب أخاك وصاحبك ، فنهى الله عن ذلك .
وقال إبراهيم النخعي : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال : كانوا يكرهون الجدال . وقال محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الجدال : السباب والمنازعة . وكذا روى ابن وهب ، عن يونس ، عن نافع : أن ابن عمر كان يقول : الجدال في الحج : السباب ، والمراء ، والخصومات ، وقال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن الزبير ، والحسن ، وإبراهيم ، وطاوس ، ومحمد بن كعب ، قالوا : الجدال المراء .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن يحيى بن بشر{[3560]} عن عكرمة : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } والجدال الغضب ، أن تُغْضب عليك مسلمًا ، إلا أن تستعتب مملوكًا فتُغْضبه من غير أن تضربه ، فلا بأس عليك ، إن شاء الله .
قلت : ولو ضربه لكان جائزًا سائغًا . والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن إدريس ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه : أنّ أسماء بنت أبي بكر قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُجّاجًا ، حتى إذا كنا بالعَرْج نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلست عائشةُ إلى جنب رسول الله ، وجلستُ إلى جَنْب أبي . وكانت {[3561]} زِمَالة أبي بكر وزِمَالة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة مع غلام أبي بكر ، فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن يطلع عليه ، فأطْلَعَ وليس معه بعيره ، فقال : أين بعيرك ؟ فقال : أضللتُه البارحة . فقال أبو بكر : بعير واحد تُضلَّه ؟ فطفق يضربه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول : " انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع ؟ " .
وهكذا أخرجه أبو داود ، وابن ماجة ، من حديث ابن إسحاق{[3562]} . ومن هذا الحديث حكى بعضُهم عن بعض السلف أنه قال : من تمام الحج ضَرْبُ الجمال . ولكن يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر : " انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع ؟ " - كهيئة الإنكار اللطيف - أن الأولى تركُ ذلك ، والله أعلم .
وقد قال الإمام عبد بن حميد في مسنده : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة{[3563]} عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قضَى نُسُكَه وسلِم المسلمون من لسانه ويده ، غفر له ما تقدم من ذنبه{[3564]} " {[3565]} .
وقوله : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعْلا حَثَّهم على فعل الجميل ، وأخبرهم أنه عالم به ، وسيجزيهم عليه أوفرَ الجزاء يوم القيامة .
وقوله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } قال العوفي ، عن ابن عباس : كان أناس يخرجون من أهليهم ليست{[3566]} معهم أزْودة ، يقولون : نَحُجُّ بيت الله ولا يطعمنا . . فقال الله : تزودوا{[3567]} ما يكف وجوهكم عن الناس .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة : قال : إن ناسًا كانوا يحجون بغير زاد ، فأنزل الله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }
وكذا رواه ابن جرير عن عمرو - وهو الفَلاس{[3568]} - عن ابن عيينة .
قال ابن أبي حاتم : وقد روى هذا الحديث ورَقْاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . قال : وما يرويه عن ابن عيينة أصح .
قلت : قد رواه النسائي ، عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [ قال ]{[3569]} كان نَاس يحجون بغير زاد ، فأنزل الله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }{[3570]} . وأما حديث ورقاء فأخرجه البخاري ، عن{[3571]} يحيى بن بشر ، عن{[3572]} شَبَابة{[3573]} . وأخرجه أبو داود ، عن أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي ، ومحمد بن عبد الله المُخَرَّمي ، عن شبابة ، عن ورقاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل اليمن يَحُجون ولا يتزودون ، ويقولون : نحن المتوكلون{[3574]} . فأنزل الله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }{[3575]} .
ورواه عبد بن حميد في تفسيره ، عن شَبابة [ به ]{[3576]} . ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث شبابة ، به .
وروى ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث عَمْرو بن عبد الغفار [ عن محمد بن سوقة ]{[3577]} عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كانوا إذا أحرموا - ومعهم أزوادهم - رموا بها ، واستأنفوا زادًا آخر{[3578]} ؛ فأنزل الله تعالى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } فَنُهوا عن ذلك ، وأمِرُوا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق . وكذا قال ابن الزبير ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، والنخعي ، وسالم بن عبد الله ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان .
وقال سعيد بن جبير : فتزودوا{[3579]} الدقيق والسويق والكعك{[3580]} وقال وكيع [ بن الجراح ]{[3581]} في تفسيره : حدثنا سفيان ، عن محمد بن سوقة{[3582]} عن سعيد بن جبير : { وَتَزَوَّدُوا } قال : الخشكنانج والسويق . وقال وكيع أيضًا : حدثنا إبراهيم المكي ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : إن من كَرَم الرجل طيب زاده في السفر . وزاد فيه حماد بن سلمة ، عن أبي ريحانة أنّ ابن عمر كان يشترط على من صحبه الجَوْزَة{[3583]} .
وقوله : { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة ، وهو استصحاب التقوى إليها ، كما قال : { وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] . لما ذكر اللباس الحسي نَبّه مرشدًا إلى اللباس المعنوي ، وهو الخشوع ، والطاعة {[3584]} والتقوى ، وذكر أنه خير من هذا ، وأنفع .
قال عطاء الخراساني في قوله : { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } يعني : زاد الآخرة .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبدان ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا مروان بن معاوية ، عن إسماعيل عن قيس ، عن جرير بن عبد الله ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم [ قال ] :{[3585]} " من يتزود في الدنيا يَنْفَعه في الآخرة " {[3586]} .
وقال مقاتل بن حيان : لما نزلت هذه الآية : { وَتَزَوَّدُوا } قام رجل من فقراء المسلمين فقال : يا رسول الله ، ما نجد زادًا نتزوده . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تزود ما تكف به وجهك عن الناس ، وخير ما تزودتم التقوى " . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ } يقول : واتقوا عقابي ، ونكالي ، وعذابي ، لمن خالفني ولم يأتمر بأمري ، يا ذوي العقول والأفهام .
{ الحج أشهر معلومات } أي وقته . كقولك البرد شهران . { معلومات } معروفات وهي : شوال وذو القعدة وتسعة من ذي الحجة بليلة النحر عندنا ، والعشر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وذي الحجة كله عند مالك . وبناء على الخلاف على أن المراد بوقته وقت إحرامه ، أو وقت أعماله ومناسكه ، أو ما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا ، فإن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة . وأبو حنيفة رحمه الله وإن صحح الإحرام به قبل شوال فقد استكرهه . وإنما سمي شهران وبعض شهر أشهرا إقامة للبعض مقام الكل ، أو إطلاقا للجمع على ما فوق الواحد . { فمن فرض فيهن الحج } فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن عندنا ، أو بالتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو دليل على ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى وأن من أحرم بالحج لزمه الإتمام . { فلا رفث } فلا جماع ، أو فلا فحش من الكلام . { ولا فسوق } ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات . { ولا جدال } ولا مراء مع الخدم والرفقة . { في الحج } في أيامه ، نفي الثلاثة على قصد النهي للمبالغة وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون ، وما كانت منها مستقبحة في أنفسها ففي الحج أقبح كلبسة الحرير في الصلاة . والتطريب بقراءة القرآن لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأولين بالرفع على معنى : لا يكونن رفث ولا فسوق . والثالث بالفتح على معنى إلا خبار بانتفاء الخلاف في الحج ، وذلك أن قريشا كانت تحالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام ، فارتفع الخلاف بأن أمروا أن يقفوا أيضا بعرفة . { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } حث على الخير عقب به النهي عن الشر ليستدل به ويستعمل مكانه . { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } وتزودوا لمعادكم فإنه خير زاد ، وقيل : نزلت في أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن متوكلون فيكونون كلا على الناس ، فأمروا أن يتزودوا ويتقوا الإبرام في السؤال والتثقيل على الناس ، { واتقون يا أولي الألباب } فإن قضية اللب خشية الله وتقواه ، حثهم على التقوى ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى فيتبرأ من كل شيء سواه ، وهو مقتضى العقل المعري عن شوائب الهوى فلذلك خص أولي الألباب بهذا الخطاب .
استئناف ابتدائي للإِعلام بتفصيل مناسك الحج ، والذي أراه أن هذه الآيات نزلت بعد نزول قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } في [ سورة آل عمران : 97 ] فإن تلك الآية نزلت بفرض الحج إجمالاً ، وهذه الآية فيها بيان أعماله ، وهو بيان مؤخر عن المبين ، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة واقع غير مرة ، فيظهر أن هذه الآية نزلت في سنة تسع ، تهيئة لحج المسلمين مع أبي بكر الصديق .
وبين نزول هذه الآية ونزول آية { وأتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] نحو من ثلاث سنين فتكون فيما نرى من الآيات التي أمر الرسول عليه السلام بوضعها في هذا الموضع من هذه السورة للجمع بين أعمال الحج وأعمال العمرة .
وهي وصاية بفرائض الحج وسننه ومما يحق أن يراعى في أدائه ، وذكر ما أراد الله الوصاية به من أركانه وشعائره . وقد ظهرت عناية الله تعالى بهذه العبادة العظيمة ، إذ بسط تفاصيلها وأحوالها مع تغيير ما أدخله أهل الجاهلية فيها .
ووصف الأشهر بمعلومات حوالة على ما هو معلوم للعرب من قبل ، فهي من الموروثة عندهم عن شريعة إبراهيم ، وهي من مبدأ شوال إلى نهاية أيام النحر ، وبعضها بعض الأشهر الحرم ، لأنهم حرموا قبل يوم الحج شهراً وأياماً وحرموا بعده بقية ذي الحجة والحرام كلّه ، لتكون الأشهر الحرم مدة كافية لرجوع الحجيج إلى آفاقهم ، وأما رجب فإنما حَرَّمته مُضر لأنه شهر العمرة .
فقوله : { الحج أشهر معلومات } أي في أشهر ، لقوله بعده : { فمن فرض فيهن الحج } ولك أن تقدر : مدة الحج أشهر ، وهو كقول العرب « الرطب شهرا ربيع » .
والمقصود من قوله : { الحج أشهر } يحتمل أن يكون تمهيداً لقوله : { فلا رفث ولا فسوق } تهويناً لمدة تر ك الرفث والفسوق والجدال ، لصعوبة ترك ذلك على الناس ، ولذلك قُللت بجمع القلة ، فهو نظير ما روى مالك في « الموطأ » : أن عائشة قالت لعروة بن الزبير يا ابن أختي إنما هي عشر ليال فإن تخلج في نفسك شيء فدعه ، تعني أكل لحم الصيد ، ويحتمل أن يكون تقريراً لما كانوا عليه في الجاهلية من تعيين أشهر الحج فهو نظير قوله : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } [ التوبة : 36 ] الآية ، وقيل : المقصود بيان وقت الحج ولا أَنثلج له .
والأَشهر المقصودة هي شوال وذو القعدة وذو الحجة لا غير ، وإنما اختلفوا في أن ذا الحجة كله شهر أو العشر الأوائل منه أو التسع فقط ، أو ثلاثة عشر يوماً منه ، فقال بالأول ابن مسعود وابن عمر والزهري وعروة بن الزبير وهو رواية ابن المنذر عن مالك ، وقال بالثاني ابن عباس والسدي وأبو حنيفة وهو رواية ابن حبيب عن مالك .
وقال بالثالث الشافعي ، والرابع قول في مذهب مالك ذكره ابن الحاجب في « المختصر » غير معزو .
وإطلاق الأشهر على الشهرين وبعض الشهر عند أصحاب القولين الثالث والرابع مخرَّج على إطلاق الجمع على الاثنين أو على اعتبار العرب الدخول في الشهر أو السنة كاستكماله ، كما قالوا : ابن سنتين لمن دخل في الثانية ، وكثرة هذا الخلاف تظهر فيمن أوقع بعض أعمال الحج مما يصح تأخيره كطواف الزيارة بعد عاشر ذي الحجة ، فمن يراه أوقعه في أيام الحج لم ير عليه دماً ومن يرى خلافه يرى خلافه .
وقد اختلفوا في الإهلال بالحج قبل دخول أشهر الحج ، فقال مجاهد وعطاء والأوزاعي والشافعي وأبو ثور : لا يجزىء ويكون له عمرة كمن أحرم للصلاة قبل وقتها ، وعليه : يجب عليه إعادة الإحرام من الميقات عند ابتداء أشهر الحج ، واحتج الشافعي بقوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } ، وقال أحمد : يجزىء ولكنه مكروه ، وقال مالك وأبو حنيفة والنخعي : يجوز الإحرام في جميع السنة بالحج والعمرة إلاّ أن مالكاً كره العمرة في بقية ذي الحجة ، لأن عمر بن الخطاب كان ينهى عن ذلك ويضرب فاعله بالدِّرة ، ودليل مالك في هذا ما مضى من السنة ، واحتج النخعي بقوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : 189 ] إذ جعل جميع الأهلة مواقيت للحج ولم يفصل ، وهذا احتجاج ضعيف ، إذ ليس في الآية تعميم جميع الأهلة لتوقيت الحج بل مساق الآية أن جميع الأهلة صالحة للتوفيق إجمالاً ، مع التوزيع في التفصيل فيوقت كل عمل بما يقارنه من ظهور الأهلة على ما تبينه أدلة أخرى من الكتاب والسنة . ولاحتمال الآية عدة محامل في وجه ذكر أشهر الحج لا أرى للأئمة حجة فيها لتوقيت الحج .
وقوله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج } تفريع على هاته المقدمة لبيان أن الحج يقع فيها وبيان أهم أحكامه .
ومعنى فرض : نوى وعزم ، فنية الحج هي العزم عليه وهو الإحرام ، ويشترط في النية عند مالك وأبي حنيفة مقارنتها لقول من أقوال الحج وهو التلبية ، أو عمل من أعماله كسَوْق الهدي ، وعند الشافعي يدخل الحج بنية ولو لم يصاحب قولاً أو عملاً وهو أرجح ؛ لأن النية في العبادات لم يشترط فيها مقارنتها لجزء من أعمال العبادة ، ولا خلاف أن السنة مقارنة الإهلال للاغتسال والتلبية واستواء الراحلة براكبها .
وضمير { فيهن } للأشهر ، لأنه جمع لغير عاقل فيجري على التأنيث .
وقوله : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } جواب من الشرطية ، والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى { لا رفث } من ضمير يعود على ( من ) ؛ لأن التقدير فلا يرفث .
وقد نفى الرفث والفسوق والجدال نفي الجنس مبالغة في النهي عنها وإبعادها عن الحاج ، حتى جعلت كأنها قد نهي الحاج عنها فانتهى فانتفت أجناسها ، ونظير هذا كثير في القرآن كقوله تعالى :
{ والمطلقات يتربصن } [ البقرة : 228 ] وهو من قبيل التمثيل بأن شبهت حالة المأمور وقت الأمر بالحالة الحاصلة بعد امتثاله فكأنه امتثل وفعل المأمور به فصار بحيث يخبر عنه بأنه فَعَل كما قرره في « الكشاف » في قوله : { والمطلقات يتربصن } ، فأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة .
وقرأ الجمهور بفتح أواخر الكلمات الثلاث المنفية بلا ، على اعتبار ( لا ) نافية للجنس نصاً ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع ( رفث ) و ( فسوق ) على أن ( لا ) أخت ليس نافية للجنس غير نص وقرآ ( ولا جدال ) بفتح اللام على اعتبار ( لا ) نافية للجنس نصاً وعلى أنه عطف جملة على جملة فروي عن أبي عمرو أنه قال : الرفع بمعنى لا يكون رفث ولا فسوق يعني أن خبر ( لا ) محذوف وأن المصدرين نائبان عن فعليهما وأنهما رفعا لقصد الدلالة على الثبات مثل رفع { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] وانتهى الكلام ثم ابتدأ النفي فقال : { ولا جدال في الحج } على أن في الحج خبر ( لا ) ، والكلام على القراءتين خبرٌ مستعمل في النهي .
والرفث اللغو من الكلام والفحش منه قاله أبو عبيدة واحتج بقول العجاج :
وَربِّ أَسْرابِ حجيجٍ كُظَّم *** عن اللَّغَا ورَفَثِ التَّكَلُّــم
وفعله كنصر وفرح وكرم والمراد به هنا الكناية عن قربان النساء . وأحسب أن الكناية بهذا اللفظ دون غيره لقصد جمع المعنيين الصريح والكناية ، وكانوا في الجاهلية يتوقون ذلك ، قال النابغة :
حَيَّاكِ رَبِّي فإنَّا لاَ يحِلُّ لنا *** لَهْوُ النساءٍ وإِنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَما
يريد من الدين الحج وقد فسروا قوله : لهو النساء بالغزل .
وهذا خبر مراد به مبالغة النهي اقتضى أن الجماع في الحج حرام ، وأنه مفسد للحج وقد بينت السنة ذلك بصراحة ، فالدخول في الإحرام يمنع من الجماع إلى الإحلال بطواف الإفاضة وذلك جميع وقت الإحرام ، فإن حصل نسيان فقال مالك هو مفسد ويعيد حجه إذا لم يمض وقوف عرفة ، وإلاّ قضاه في القابل نظراً إلى أن حصول الالتذاذ قد نافى تجرد الحج والزهد المطلوب فيه بقطع النظر عن تعمد أو نسيان ، وقال الشافعي في أحد قوليه وداود الظاهري : لا يفسد الحج وعليه هدي ، وأما مغازلة النساء والحديث في شأن الجماع فذريعة ينبغي سدها ، لأنه يصرف القلب عن الانقطاع إلى ذكر الله في الحج .
وليس من الرفث إنشاد الشعر القديم الذي فيه ذكر الغزل ؛ إذ ليس القصد منه إنشاء الرفث ، وقد حدا ابن عباس راحلته وهو محرم ببيت فيه ذكر لفظ من الرفث فقال له صاحبه حصين بن قيس : أترفُث وأنت محرم ؟ فقال : إن الرفث ما كان عند النساء أي الفعل الذي عند النساء أي الجماع .
والفسوق معروف وقد تقدم القول فيه غير مرة ، وقد قيل أراد به هنا النهي عن الذبح للأصنام وهو تفسير مروي عن مالك ، وكأنه قاله لأنه يتعلق بإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية غير أن الظاهر شمول الفسوق لسائر الفسق وقد سكت جميع المفسرين عن حكم الإتيان بالفسوق في مدة الإحرام .
وقرن الفسوق بالرفث الذي هو مفسد للحج يقتضي أن إتيان الفسوق في مدة الإحرام مفسد للحج كذلك ، ولم أر لأحد من الفقهاء أن الفسوق مفسد للحج ، ولا أنه غير مفسد سوى ابن حزم فقال في « المحلَّى » : إن مذهب الظاهرية أن المعاصي كلها مفسدة للحج ، والذي يظهر أن غير الكبائر لا يفسد الحج وأن تعمد الكبائر مفسد للحج وهو أحرى بإفساده من قربان النساء الذي هو التذاذ مباح والله أعلم .
والجدال مصدر جادله إذا خاصمه خصاماً شديداً وقد بسطنا الكلام عليه عند قوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } [ في سورة النساء : 107 ] ، إذ فاتنا بيانه هنا .
واختلف في المراد بالجدال هنا فقيل السباب والمغاضبة ، وقيل تجادل العرب في اختلافهم في الموقف ؛ إذ كان بعضهم يقف في عرفة وبعضهم يقف في جمع وروي هذا عن مالك .
واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه ، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء يحضرون الموسم وقال : من بدا له أن يجادل في شيء فليفعل ، فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلاً : بماذا فسرت قوله تعالى : { ولا جدال في الحج } وأنه وجم لها ، وأنا أحسب إن صحت هذه الحكاية أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته ، لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم .
واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى .
وقوله : { وما تفعلوا خير يعلمه الله } عُقب به النهي عن المنهيات لقصد الاتصاف بأضداد تلك المنهيات فكأنه قال : لا تفعلوا ما نهيتم عنه وافعلوا الخير فما تفعلوا يعلمه الله ، وأطلق علم الله وأريد لازمه وهو المجازاة على المعلوم بطريق الكناية فهو معطوف على قوله : { فلا رفث } الخ .
معطوف على جملة : { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } باعتبار ما فيها من الكناية عن الترغيب في فعل الخير ، والمعنى وأكثروا من فعل الخير .
والتزود إعداد الزاد وهو الطعام الذي يحمله المسافر ، وهو تفعُّل مشتق من اسم جامد وهو الزاد كما يقال تَعَمَّم وتقَمَّص أي جعل ذلك معه .
فالتزود مستعار للاستكثار من فعل الخير استعداداً ليوم الجزاء شبه بإعداد المسافر الزاد لسفره بناء على إطلاق اسم السفر والرحيل على الموت .
قال الأعشى في قصيدته التي أنشأها لمدح النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيها بعض ما يدعو النبي إليه أخذاً من هذه الآية وغيرها :
إذا أنْتَ لم تَرْحَلْ بزاد من التقى *** ولاَقَيْتَ بعد الموت من قَد تَزودا
نَدِمْتَ أَنْ لا تكونَ كمِثْلِــــه *** وأَنَّك لم تُرْصِدْ بما كان أرْصَدا
فقوله : { فإن خير الزاد التقوى } بمنزلة التذييل أي التقوى أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص .
ويجوز أن يستعمل التزود مع ذلك في معناه الحقيقي على وجه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فيكون أمراً بإعداد الزاد لسفر الحج تعريضاً بقوم من أهل اليمن كانوا يجيئون إلى الحج دون أي زاد ويقولون نحن متوكلون على الله{[179]} فيكونون كلاً على الناس بالإلحاف .
فقوله : { فإن خير الزاد } الخ إشارة إلى تأكيد الأمر بالتزود تنبيهاً بالتفريع على أنه من التقوى لأن فيه صيانة ماء الوجه والعرض .
وقوله : { واتقون } بمنزلة التأكيد لقوله { فإن خير الزاد التقوى } ولم يزد إلا قوله { يا أولى الألباب } المشير إلى أن التوقى مما يرغب فيه أهل العقول .
والألباب : جمع لب وهو العقل ، واللب من كل شيء : الخالص منه ، وفعله لَبُب يلُب بضم اللام قالوا وليس في كلام العرب فَعُل يفعُل بضم العين في الماضي والمضارع من المضاعف إلا عذا الفعل حكاه سيبويه عن يونس وقال ثعلب ما أعرف له نظيراً .
فقوله { فإن خير الزاد التقوى } بمنزلة التذييل أي التقوء أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص ، وموقع قوله : { واتقون يا أولي الألباب } على احتمال أن يُرَاد بالتزود معناه الحقيقي مع المجازي إفادةُ الأمر بالتقوى التي هي زاد الآخرة بمناسبة الأمر بالتزود لحصول التقوَى الدنيوية بصَوْن العرض .
والتقوى مصدر اتقى إذا حذر شيئاً ، وأصلها تقيي قلبوا ياءها واواً للفرق بين الاسم والصفة ، فالصفة بالياء كامرأةٍ تَقْيَى كخَزْبى وصَدْيَى ، وقد أطلقت شرعاً على الحذر من عقاب الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه وقد تقدمت عند قوله تعالى : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الحج أشهر معلومات}: من أحرم بالحج، فليحرم في شوال، أو في ذي القعدة، أو في عشر ذي الحجة، فمن أحرم في سوى هذه الأشهر، فقد أخطأ السنة، وليجعلها عمرة.
{فمن فرض}: فمن أحرم {فيهن الحج}: أي للحج.
{ولا فسوق}: ولا سباب. {ولا جدال في الحج}: ولا مراء، يعني ما يماري حتى يغضب وهو محرم، أو يغضب صاحبه وهو محرم، فمن فعل ذلك فليطعم مسكينا...
{وما تفعلوا من خير}: ما نهى من ترك الرفث والفسوق والجدال. {يعلمه الله}: فيجزيكم به.
{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}: وذلك أن ناسا من أهل اليمن وغيرهم كانوا يحجون بغير زاد، وكانوا يصيبون من أهل الطريق ظلما، فأنزل الله عز وجل:
{وتزودوا}: من الطعام ما تكفون به وجوهكم عن الناس وطلبهم. {فإن خير الزاد التقوى}: التقوى خير زاد من غيره، ولا تظلموا من تمرون عليه،
{واتقون}: ولا تعصون. {يا أولي الألباب}: يعني يا أهل اللب والعقل.
قوله تعالى: {ولا فسوق} [البقرة: 197]. 113- يحيى: قال مالك: والفسوق: الذبح للأصنام، والله أعلم. قال الله تبارك وتعالى: {أو فسقا أهل لغير الله به}...
يحيى: قال مالك: والجدال في الحج أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح. وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة. فكانوا يتجادلون. يقول هؤلاء نحن أصوب، ويقول هؤلاء نحن أصوب. فقال الله تعالى: {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم}، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم. وقد سمعت ذلك من أهل العلم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في قوله:"الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ"؛ فقال بعضهم: يعني بالأشهر المعلومات: شوّالاً، وذا القعدة، وعشرا من ذي الحجة.
وقال آخرون: بل يعني بذلك شوّالاً، وذا القعدة، وذا الحجة كله... وقت الحجّ ثلاثة أشهر كوامل، أنهنّ من غير شهور العمرة، وأنهنّ شهور لعمل الحجّ دون عمل العمرة، وإن كان عمل الحجّ إنما يعمل في بعضهنّ لا في جميعهن.
وأما الذين قالوا: تأويل ذلك: شوّال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة، فإنهم قالوا: إنما قصد الله جل ثناؤه بقوله: الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ إلى تعريف خلقه ميقات حجهم، لا الخبر عن وقت العمرة.
قالوا: فأما العمرة، فإن السنة كلها وقت لها، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في بعض شهور الحجّ، ثم لم يصحّ عنه بخلاف ذلك خبر.
قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان عمل الحجّ ينقضي وقته بانقضاء العاشر من أيام ذي الحجة، علم أن معنى قوله: "الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ "إنما هو ميقات الحجّ شهران وبعض الثالث.
والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: إن معنى ذلك الحج شهران وعشر من الثالث لأن ذلك من الله خبر عن ميقات الحجّ ولا عمل للحج يعمل بعد انقضاء أيام منى، فمعلوم أنه لم يعن بذلك جميع الشهر الثالث، وإذا لم يكن معنيا به جميعه صحّ قول من قال: وعشر ذي الحجة.
فإن قال قائل: فكيف قيل: الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وهو شهران وبعض الثالث؟ قيل إن العرب لا تمتنع خاصة في الأوقات من استعمال مثل ذلك، فتقول له اليوم يومان منذ لم أره. وإنما تعني بذلك يوما وبعض آخر، وكما قال جل ثناؤه: "فَمَنْ تَعَجّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ" وإنما يتعجل في يوم ونصف. وقد يفعل الفاعل منهم الفعل في الساعة، ثم يخرجه عاما على السنة والشهر، فيقول: زرته العام وأتيته اليوم، وهو لا يريد بذلك أن فعله أخذ من أول الوقت الذي ذكره إلى آخره، ولكنه يعني أنه فعله إذ ذاك وفي ذلك الحين، فكذلك الحجّ أشهر، والمراد منه الحجّ شهران وبعض آخر.
فمعنى الآية إذا: ميقات حجكم أيها الناس شهران وبعض الثالث، وهو شوّال وذو القعدة وعشر ذي الحجة.
"فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ": فمن أوجب الحجّ على نفسه وألزمها إياه فيهن، يعني في الأشهر المعلومات التي بينها. وإيجابه إياه على نفسه العزم على عمل جميع ما أوجب الله على الحاجّ عمله وترك جميع ما أمره الله بتركه.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي يكون به الرجل فارضا الحجّ بعد إجماع جميعهم، على أن معنى الفرض: الإيجاب والإلزام؛ فقال بعضهم: فرض الحجّ: الإهلال... التلبية... إذا اغتسلت ولبست ثوبك ولبيت، فقد فرضت الحج.
وقال آخرون: فرض الحج إحرامه... وهذا القول الثاني يحتمل أن يكون بمعنى ما قلنا من أن يكون الإحرام كان عند قائله الإيجاب بالعزم. ويحتمل أن يكون كان عنده بالعزم والتلبية، كما قال القائلون القول الأول.
وإنما قلنا: إن فرض الحجّ الإحرام لإجماع الجميع على ذلك. وقلنا: إن الإحرام هو إيجاب الرجل ما يلزم المحرم أن يوجبه على نفسه، على ما وصفنا آنفا، لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد أمور ثلاثة:
- إما أن يكون الرجل غير محرم إلا بالتلبية وفعل جميع ما يجب على الموجب الإحرام على نفسه فعله، فإن يكن ذلك كذلك، فقد يجب أن لا يكون محرما إلا بالتجرّد للإحرام، وأن يكون من لم يكن له متجرّدا فغير محرم. وفي إجماع الجميع على أنه قد يكون محرما وإن لم يكن متجرّدا من ثيابه بإيجابه الإحرام ما يدل على أنه قد يكون محرما وإن لم يلبّ، إذ كانت التلبية بعض مشاعر الإحرام، كما التجرّد له بعض مشاعره. وفي إجماعهم على أنه قد يكون محرما بترك بعض مشاعر حجه ما يدلّ على أن حكم غيره من مشاعره حكمه.
- أو يكون إذ فسد هذا القول قد يكون محرما وإن لم يلبّ ولم يتجرّد ولم يعزم العزم الذي وصفنا. وفي إجماع الجميع على أنه لا يكون محرما من لم يعزم على الإحرام ويوجبه على نفسه إذا كان من أهل التكليف، ما ينبئ عن فساد هذا القول، وإذ فسد هذان الوجهان فبينة صحة الوجه الثالث، وهو:
- أن الرجل قد يكون محرما بإيجابه الإحرام بعزمه على سبيل ما بينا، وإن لم يظهر ذلك بالتجرّد والتلبية وصنيع بعض ما عليه عمله من مناسكه. وإذا صحّ ذلك صحّ ما قلنا من أن فرض الحجّ هو ما قُرن إيجابه بالعزم على نحو ما بينا قبل.
اختلف أهل التأويل في معنى الرفث في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: هو الإفحاش للمرأة في الكلام، وذلك بأن يقول: إذا حللنا فعلت بك كذا وكذا لا يكني عنه، وما أشبه ذلك. [عن] ابن عباس قول الله: "فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ": قال: هو التعريض بذكر الجماع، وهي العِرابة من كلام العرب، وهو أدنى الرفث.
[وعن] عبد الله بن عمر كان يقول: الرفث: إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم... وقال عطاء: الرفث ما دون الجماع... الرفث: الجماع وما دونه من قول الفحش... لا يكون رفث إلا ما واجهت به النساء.
[عن] ابن عباس قول الله تعالى: "فَلا رَفَثَ" قال: الرفث الذي ذكر ههنا ليس بالرفث الذي ذكر في: "أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيام الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ" ومن الرفث: التعريض بذكر الجماع، وهي الإعراب بكلام العرب.
وقال آخرون: الرفث في هذا الموضع: الجماع نفسه.
والصواب من القول في ذلك عندي أن الله جل ثناؤه نهى مَنْ فرض الحجّ في أشهر الحجّ عن الرفث، فقال: "فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ فَلا رَفَثَ"؛ والرفث في كلام العرب: أصله الإفحاش في المنطق على ما قد بينا فيما مضى، ثم تستعمله في الكناية عن الجماع. فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلم مختلفين في تأويله، وفي هذا النهي من الله عن بعض معاني الرفث أم عن جميع معانيه، وجب أن يكون على جميع معانيه، إذ لم يأت خبر بخصوص الرفث الذي هو بالمنطق عند النساء من سائر معاني الرفث يجب التسليم له، إذ كان غير جائز نقل حكم ظاهر آية إلى تأويل باطن إلا بحجة ثابتة.
فإن قال قائل: إن حكمها من عموم ظاهرها إلى الباطن من تأويلها منقول بإجماع، وذلك أن الجميع لا خلاف بينهم في أن الرفث عند غير النساء غير محظور على محرم، فكان معلوما بذلك أن الآية معنيّ بها بعض الرفث دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن لا يحرّم من معاني الرفث على المحرم شيء إلا ما أجمع على تحريمه عليه، أو قامت بتحريمه حجة يجب التسليم لها. قيل: إن ما خصّ من الآية فأبيح خارج من التحريم، والحظر ثابت لجميع ما لم تخصصه الحجة من معنى الرفث بالآية، كالذي كان عليه حكمه لو لم يخصّ منه شيء، لأن ما خصّ من ذلك وأخرج من عمومه إنما لزمنا إخراج حكمه من الحظر بأمر من لا يجوز خلاف أمره، فكان حكم ما شمله معنى الآية بعد الذي خصّ منها على الحكم الذي كان يلزم العباد فرضه بها لو لم يخصص منها شيء، لأن العلة فيما لم يخصص منها بعد الذي خصّ منها نظير العلة فيه قبل أن يخصّ منها شيء.
{وَلا فُسُوقَ}: اختلف أهل التأويل في معنى الفسوق التي نهى الله عنها في هذا الموضع؛
فقال بعضهم: هي المعاصي كلها. وقال آخرون: بل الفسوق في هذا الموضع ما عصي الله به في الإحرام مما نهى عنه فيه من قتل صيد وأخذ شعر وقلم ظفر، وما أشبه ذلك مما خصّ الله به الإحرام وأمر بالتجنب منه في خلال الإحرام. وقال آخرون: بل الفسوق في هذا الموضع: السباب. وقال آخرون: الفسوق: الذبح للأصنام. وقال آخرون: الفسوق: التنابز بالألقاب. وأولى الأقوال التي ذكرنا بتأويل الآية في ذلك، قول من قال: معنى قوله: "وَلا فُسُوقَ": النهي عن معصية الله في إصابة الصيد وفعل ما نهى الله المحرم عن فعله في حال إحرامه وذلك أن الله جل ثناؤه قال: "فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ" يعني بذلك فلا يرفث، ولا يفسق: أي لا يفعل ما نهاه الله عن فعله في حال إحرامه، ولا يخرج عن طاعة الله في إحرامه. وقد علمنا أن الله جل ثناؤه قد حرّم معاصيَه على كل أحد، محرما كان أو غير محرم، وكذلك حرّم التنابز بالألقاب في حال الإحرام وغيرها بقوله: "وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب" وحرم على المسلم سباب أخيه في كل حال فرض الحجّ أو لم يفرضه. فإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي نهى الله عنه العبد من الفسوق في حال إحرامه وفرضه الحجّ هو ما لم يكن فسوقا في حال إحلاله وقبل إحرامه بحجه كما أن الرفث الذي نهاه عنه في حال فرضه الحجّ، هو الذي كان له مطلقا قبل إحرامه لأنه لا معنى لأن يقال فيما قد حرّم الله على خلقه في كل الأحوال: لا يفعلنّ أحدكم في حال الإحرام ما هو حرام عليه فعله في كل حال، لأن خصوص حال الإحرام به لا وجه له وقد عمّ به جميع الأحوال من الإحلال والإحرام.
فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذي نهى عنه المحرم من الفسوق فخصّ به حال إحرامه، وقيل له: «إذا فرضت الحجّ فلا تفعله»، هو الذي كان له مطلقا قبل حال فرضه الحجّ، وذلك هو ما وصفنا وذكرنا أن الله جل ثناؤه خصّ بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه مما نهاه عنه من الطيب واللباس والحلق وقصّ الأظفار وقتل الصيد، وسائر ما خصّ الله بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه.
فتأويل الآية إذًا: فمن فرض الحجّ في أشهر الحجّ فأحرم فيهنّ. فلا يرفث عند النساء فيصرّح لهنّ بجماعهن، ولا يجامعهن، ولا يفسق بإتيان ما نهاه الله في حال إحرامه بحجه، من قتل صيد، وأخذ شعر، وقلم ظفر، وغير ذلك مما حرّم الله عليه فعله وهو محرم.
اختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: النهي عن أن يجادل المحرم أحدا.
ثم اختلف قائلو هذا القول، فقال بعضهم: نهى عن أن يجادل صاحبه حتى يغضبه... عن عبد الله: "وَلا جِدالَ فِي الحَجّ" قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
وقال آخرون منهم: الجدال في هذا الموضع معناه: السباب والمراء والخصومات والمنازعة.
وقال آخرون منهم: بل عنى بذلك خاصا من الجدال والمراء، وإنما عنى الاختلاف فيمن هو أتمّ حجّا من الحجّاج. وقال آخرون منهم: بل ذلك اختلاف كان يكون بينهم في اليوم الذي فيه الحجّ، فنهوا عن ذلك...يقول بعضهم: الحجّ اليوم، ويقول بعضهم: الحج غدا.
وقال آخرون: بل اختلافهم ذلك في أمر مواقف الحجّ أيهم المصيب موقف إبراهيم. وقال آخرون: بل قوله جل ثناؤه: "وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ" خبر من الله تعالى عن استقامة وقت الحجّ على ميقات واحد لا يتقدمه ولا يتأخره، وبطول فعل النسيء. وأولى هذه الأقوال في قوله "وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ" بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: قد بطل الجدال في الحجّ ووقته، واستقام أمره ووقته على وقت واحد، ومناسك متفقة غير مختلفة، ولا تنازع فيه ولا مراء وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أن وقت الحجّ أشهر معلومات، ثم نفى عن وقته الاختلاف الذي كانت الجاهلية في شركها تختلف فيه.
وإنما اخترنا هذا التأويل في ذلك ورأيناه أولى بالصواب مما خالفه لما قد قدمنا من البيان آنفا في تأويل قوله: "وَلا فُسُوقَ" أنه غير جائز أن يكون الله خصّ بالنهي عنه في تلك الحال إلا ما هو مطلق مباح في الحال التي يخالفها، وهي حال الإحلال وذلك أن حكم ما خصّ به من ذلك حكم حال الإحرام إن كان سواء فيه حال الإحرام وحال الإحلال، فلا وجه لخصوصه به حالاً دون حال، وقد عمّ به جميع الأحوال. وإذ كان ذلك كذلك، وكان لا معنى لقول القائل في تأويل قوله: وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ أن تأويله: لا تمار صاحبك حتى تغضبه، إلا أحد معنيين: إما أن يكون أراد لا تماره بباطل حتى تغضبه. فذلك ما لا وجه له، لأن الله عز وجل قد نهي عن المراء بالباطل في كل حال محرما كان المماري أو محلاّ، فلا وجه لخصوص حال الإحرام بالنهي عنه لاستواء حال الإحرام والإحلال في نهى الله عنه. أو يكون أراد: لا تماره بالحق، وذلك أيضا ما لا وجه له لأن المحرم لو رأى رجلاً يروم فاحشة كان الواجب عليه مراءه في دفعه عنها، أو رآه يحاول ظلمه والذهاب منه بحقّ له قد غصبه عليه كان عليه مراؤه فيه وجداله حتى يتخلصه منه.
والجدال والمراء لا يكون بين الناس إلا من أحد وجهين: إما من قبل ظلم، وإما من قبل حق، فإذا كان من أحد وجهيه غير جائز فعله بحال، ومن الوجه الاَخر غير جائز تركه بحال، فأيّ وجوهه التي خصّ بالنهي عنه حال الإحرام؟ وكذلك لا وجه لقول من تأوّل ذلك أنه بمعنى السباب، لأن الله تعالى ذكره قد نهى المؤمنين بعضهم عن سباب بعض على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام في كل حال، فقال صلى الله عليه وسلم: «سباب المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتالُهُ كُفْرٌ» فإذا كان المسلم عن سبّ المسلم منهيا في كل حال من أحواله، محرما كان أو غير محرم، فلا وجه لأن يقال: لا تسبه في حال الإحرام إذا أحرمت.
وفيما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر الذي:
حدثنا به محمد بن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «منْ حَجّ هَذَا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلْم يَفْسُقْ خَرَجَ مِثْلَ يَوْمَ وَلَدتَهْ أُمّهُ».
حدثني عليّ بن سهل، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجّ هَذَا البَيْتَ فَلمْ يَرْفُثْ وَلمْ يُفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمّهُ»،
دلالة واضحة على أن قوله: "وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ" بمعنى النفي عن الحجّ بأن يكون في وقته جدال ومراء دون النهي عن جدال الناس بينهم فيما يعنيهم من الأمور أو لا يعنيهم. وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من حجّ فلم يرفث ولم يفسق استحقّ من الله الكرامة ما وصف أنه استحقه بحجه تاركا للرفث والفسوق اللذين نهى الله الحاجّ عنهما في حجه من غير أن يضمّ إليهما الجدال.
فلو كان الجدال الذي ذكره الله في قوله: "وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ" مما نهاه الله عنه بهذه الآية، على نحو الذي تأوّل ذلك من تأوله من أنه المراء والخصومات أو السباب وما أشبه ذلك، لما كان صلى الله عليه وسلم ليخصّ باستحقاق الكرامة التي ذكر أنه يستحقها الحاج الذي وصف أمره باجتناب خلتين مما نهاه الله عنه في حجه دون الثالثة التي هي مقرونة بهما.
ولكن لما كان معنى الثالثة مخالفا معنى صاحبتيها في أنها خبر على المعنى الذي وصفنا، وأن الأخريين بمعنى النهي الذي أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن مجتنبهما في حجه مستوجب ما وصف من إكرام الله إياه مما أخبر أنه مكرمه به إذا كانتا بمعنى النهي، وكان المنتهي عنهما لله مطيعا بانتهائه عنهما، ترك ذكر الثالثة إذ لم تكن في معناهما، وكانت مخالفة سبيلها سبيلهما.
فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالقراءة من القراءات المخالفة بين إعراب الجدال وإعراب الرفث والفسوق، ليعلم سامع ذلك إذا كان من أهل الفهم باللغات أن الذي من أجله خولف بين إعرابيهما اختلاف معنييهما، وإن كان صوابا قراءة جميع ذلك باتفاق إعرابه على اختلاف معانيه، إذ كانت العرب قد تُتبع بعض الكلام بعضا بإعراب مع اختلاف المعاني، وخاصة في هذا النوع من الكلام.
فأعجب القراءات إليّ في ذلك إذ كان الأمر على ما وصفت، قراءة من قرأ «فَلا رَفَثٌ وَلا فُسُوقٌ وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ» برفع الرفث والفسوق وتنوينهما، وفتح الجدال بغير تنوين. وذلك هو قراءة جماعة البصريين وكثير من أهل مكة، منهم عبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء.
وأما قول من قال: معناه النهي عن اختلاف المختلفين في أتمهم حجا، والقائلين معناه: النهي عن قول القائل: غدا الحجّ، مخالفا به قول الاَخر: اليوم الحجّ، فقولٌ في حكايته الكفاية عن الاستشهاد على وهائه وضعفه، وذلك أنه قول لا تدرك صحته إلا بخبر مستفيض وخبر صادق يوجب العلم أن ذلك كان كذلك، فنزلت الآية بالنهي عنه. أو أن معنى ذلك في بعض معاني الجدال دون بعض، ولا خبر بذلك بالصفة التي وصفنا.
وأما دلالتنا على قول ما قلنا من أنه نفيٌ من الله جل وعز عن شهور الحج، فالاختلاف الذي كانت الجاهلية تختلف فيها بينها قبل كما وصفنا.
وأما دلالتنا على أن الجاهلية كانت تفعل ذلك فالخبر المستفيض في أهل الأخبار أن الجاهلية كانت تفعل ذلك مع دلالة قول الله تقدس اسمه: إنّمَا النّسيءُ زِيادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا يُحِلّونَهُ عاما ويُحَرّمُونَهُ عاما.
{وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ}: افعلوا أيها المؤمنون ما أمرتكم به في حجكم من إتمام مناسككم فيه، وأداء فرضكم الواجب عليكم في إحرامكم، وتجنب ما أمرتكم بتجنبه من الرفث والفسوق في حجكم لتستوجبوا به الثواب الجزيل، فإنكم مهما تفعلوا من ذلك وغيره من خير وعمل صالح ابتغاء مرضاتي وطلب ثوابي، فأنا به عالم ولجميعه محص حتى أوفيكم أجره وأجازيكم عليه، فإني لا تخفى عليّ خافية ولا ينكتم عني ما أردتم بأعمالكم، لأني مطلع على سرائركم وعالم بضمائر نفوسكم.
{وَتَزوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى}
ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يحجون بغير زاد، وكان بعضهم إذا أحرم رمى بما معه من الزاد واستأنف غيره من الأزودة، فأمر الله جل ثناؤه من لم يكن يتزوّد منهم بالتزوّد لسفره، ومن كان منهم ذا زاد أن يتحفظ بزاده فلا يرمي به... عن ابن عباس، قال: كانوا يحجون ولا يتزوّدون، فنزلت: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى.
عن إبراهيم، قال: كان ناس من الأعراب يحجون بغير زاد ويقولون: نتوكل على الله، فأنزل الله جل ثناؤه: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى.
عن مجاهد قال: كان أهل الاَفاق يخرجون إلى الحجّ يتوصلون بالناس بغير زاد، يقولون: نحن متكلون فأنزل الله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى.
عن ابن عباس قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال: كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة يقولون: نحجّ بيت الله ولا يطعمنا؟ فقال الله: تزوّدوا ما يكفّ وجوهكم عن الناس.
عن سعيد بن جبير: "وَتَزَوّدُوا" قال: السويق والدقيق والكعك.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير: "وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى" قال: الخُشْكنانج والسويق.
[عن] الشعبي "وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى" قال: هو الطعام، وكان يومئذٍ الطعام قليلاً. قال: قلت: وما الطعام؟ قال: التمر والسويق.
عن الضحاك قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى وخير زاد الدنيا المنفعة من اللباس والطعام والشراب.
عكرمة يقول في قوله: "وَتَزَودُوا" قال: هو السويق والدقيق.
فتأويل الآية إذا: فمن فرض في أشهر الحجّ الحجّ فأحرم فيهنّ فلا يرفثن ولا يفسقن، فإن أمر الحجّ قد استقام لكم، وعرفّكم ربكم ميقاته وحدوده. فاتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من أمر حجكم ومناسككم، فإنكم مهما تفعلوا من خير أمركم به أو ندبكم إليه يعلمه. وتزوّدوا من أقواتكم ما فيه بلاغكم إلى أداء فرض ربكم عليكم في حجكم ومناسككم، فإنه لا برّ لله جل ثناؤه في ترككم التزوّد لأنفسكم ومسألتكم الناس ولا في تضييع أقواتكم وإفسادها، ولكن البرّ في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم وفعل ما أمركم به، فإنه خير التزوّد، فمنه تزوّدوا.
عن الضحاك في قوله: "وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى" قال: والتقوى عمل بطاعة الله.
{وَاتّقُون يا أُولي الألْباب}: واتقون يا أَهل العقول والأفهام بأداء فرائضي عليكم التي أوجبتها عليكم في حجكم ومناسككم وغير ذلك من ديني الذي شرعته لكم، وخافوا عقابي باجتناب محارمي التي حرمتها عليكم تنجوا بذلك مما تخافون من غضبي عليكم وعقابي، وتدركوا ما تطلبون من الفوز بجناتي. وخصّ جل ذكره بالخطاب بذلك أولي الألباب، لأنهم أهل التمييز بين الحق والباطل، وأهل الفكر الصحيح والمعرفة بحقائق الأشياء التي بالعقول تدرك وبالألباب تفهم، ولم يجعل لغيرهم من أهل الجهل في الخطاب بذلك حظا، إذ كانوا أشباحا كالأنعام، وصورا كالبهائم، بل هم منها أضلّ سبيلاً. والألباب: جمع لبّ، وهو العقل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الحج أشهر معلومات}؛ يتوجه وجهين: أحدهما: أن لفعل الحج (أشهر معلومات) دليله قوله [تعالى]: (فمن فرض فيهن الحج) سماه حجا بأبعد مسبب الإلزام، فثبت أن ما بعد الإحرام حج. والوجه الثاني: أن للحج (أشهر معلومات) لا يدل فيها غيره، ثم أدخل فيها العمرة رخصة. دليله قوله [عليه السلام]:"دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وشبك بين أصابعه" [مسلم: 1241]؛ فيكون معناه: إن للحج أشهرا، أي لفعله (أشهر معلومات)، والله أعلم...
وقوله: (ولا جدال في الحج)؛ قيل: [الجدال]: المراء؛ وذلك أن العرب كانت تؤخر الأشهر الحرم، وتعجل؛ وفي ذلك نزل قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) [التوبة: 37]، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إن السنة قد استدارت كهيئتها يوم خلق السماوات والأرض، فعلى ذلك استدار وقت الحج إلى حيث جعل؛ لا يتقدم أبدا، ولا يتأخر، فلا تماروا فيه "[بنحوه البخاري: 4662]. وأشبه الأمور، والله أعلم، بتأويل الآية أن الله عز وجل أمر بحفظ اللسان والفرج في الإحرام عن كل ما يذكر من فسوق ومعصية ومجادلة ومخاصمة، وعن الرفث بالفعل والقول؛ لأنه يروى أن الفضل بن العباس كان روق النبي صلى الله عليه وسلم وكان الفتى يلاحظ النساء، فينظر إليهن، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه بيده من خلقه، فقال النبي "إن هذا يوم: من ملك سمعه وبصره ولسانه غفر له" [الطبراني في الكبير: 12974] وكما قال. وروي عنه أنه قال: "من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه" [البخاري: 1521]...
وقوله: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} ويجزه، ترغيب منه في كل خير. وقوله: {وتزودوا} قيل: تزودوا للحج والعمرة ما تكفون به وجوهكم عن المسألة، ولا تخرجوا بلا زاد لتكنوا عيالا على الناس.
ويحتمل أن يكون الأمر بالتزود للمعاد؛ يدل عليه قوله: {فإن خير الزاد التقوى}؛ يقول: إن تقوى الله خير من زاد الدنيا...
وقوله: {واتقون يا أولي الألباب}؛ يحتمل {واتقون} المعاصي والمناهي وكل فسق، ويحتمل على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: تزودوا يا أولي الألباب، واتقوني في المسألة من الناس...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{معلومات} معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم. وفيه أن الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه، وإنما جاء مقرّراً له...
{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله}: حث على الخير عقيب النهي عن الشر؛ وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق البرّ والتقوى؛ ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة. أو جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه، وينصره قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} أي اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن خير الزاد اتقاؤها...
{واتقون}: وخافوا عقابي {ياأولي الألباب} يعني أن قضية اللب تقوى الله، ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له...
وأما الجدال فهو فعال من المجادلة، وأصله من الجدل الذي من الفتل، يقال: زمام مجدول وجديل، أي مفتول، والجديل اسم الزمام لأنه لا يكون إلا مفتولا، وسميت المخاصمة مجادلة لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه، وذكر المفسرون وجوها في هذا الجدال.
فالأول: قال الحسن: هو الجدال الذي يخاف منه الخروج إلى السباب والتكذيب والتجهيل...
السابع: أنهم كانوا مختلفين في السنين فقيل لهم: لا جدال في الحج فإن الزمان استدار وعاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم عليه السلام، وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع:"ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" فهذا مجموع ما قاله المفسرون في هذا الباب.
وذكر القاضي كلاما حسنا في هذا الموضع فقال: قوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} يحتمل أن يكون خبرا وأن يكون نهيا كقوله: {لا ريب فيه} أي لا ترتابوا فيه، وظاهر اللفظ للخبر فإذا حملناه على الخبر كان معناه أن الحج لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال بل يفسد لأنه كالضد لها وهي مانعة من صحته، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى، إلا أن يراد بالرفث الجماع المفسد للحج، ويحمل الفسوق على الزنا لأنه يفسد الحج، ويحمل الجدال على الشك في الحج ووجوبه لأن ذلك يكون كفرا فلا يصح معه الحج وإنما حملنا هذه الألفاظ الثلاثة على هذه المعاني حتى يصح خبر الله بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج، فإن قيل: أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحج فاسدا ويجب على صاحبه المضي فيه، وإذا كان الحج باقيا معها لم يصدق الخبر بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج، قلنا: المراد من الآية حصول المضادة بين هذه الأشياء وبين الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء بدليل أنه يجب قضاؤها، والحجة الفاسدة التي يجب عليه المضي فيها شيء آخر سوى تلك الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء، وأما الجدال الحاصل بسبب الشك في وجوب الحج فظاهر أنه لا يبقى معه عمل الحج لأن ذلك كفر وعمل الحج مشروط بالإسلام فثبت أنا إذا حملنا اللفظ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق والجدال على ما ذكرناه، أما إذا حملناه على النهي وهو في الحقيقة عدول عن ظاهر اللفظ فقد يصح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش، وأن يراد بالفسوق جميع أنواعه، وبالجدال جميع أنواعه، لأن اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام فيكون النهي عنها نهيا عن جميع أقسامها، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية كالحث على الأخلاق الجميلة، والتمسك بالآداب الحسنة، والاحتراز عما يحبط ثواب الطاعات...
المسألة الثالثة: الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص، وهو قوله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة: قوة شهوانية بهيمية، وقوة غضبية سبعية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة، أعني الشهوانية، والغضبية، والوهمية، فقوله {فلا رفث} إشارة إلى قهر القوة الشهوانية، وقوله: {ولا فسوق} إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب، وقوله: {ولا جدال} إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأسمائه، وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم، والمخاصمة معهم في كل شيء، فلما كان منشأ الشر محصورا في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله، والانخراط في سلك الخواص من عباده، فلا يكون فيه هذه الأمور، وهذه أسرار نفسية هي المقصد الأقصى من هذه الآيات، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلا عنها، ومن الله التوفيق في كل الأمور...
{وما تفعلوا من خير يعلمه الله} وقد كان الأولى في الظاهر أن يقال: وما تفعلوا من شيء يعلمه الله، حتى يتناول كل ما تقدم من الخير والشر، إلا أنه تعالى خص الخير بأنه يعلمه الله لفوائد ولطائف:
أحدها: إذا علمتُ منك الخير ذكرتُه وشهرته، وإذا علمتُ منك الشر سترتُه وأخفيته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا، فكيف في العقبى...
وثالثها أن السلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع: كل ما تتحمله من أنواع المشقة والخدمة في حقي فأنا عالم به ومطلع عليه، كان هذا وعدا له بالثواب العظيم، ولو قال ذلك لعبده المذنب المتمرد كان توعدا بالعقاب الشديد، ولما كان الحق سبحانه أكرم الأكرمين لا جرم ذكر ما يدل على الوعد بالثواب، ولم يذكر ما يدل على الوعيد بالعقاب.
ورابعها: أن جبريل عليه السلام لما قال: ما الإحسان؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فههنا بين للعبد أنه يراه ويعلم جميع ما يفعله من الخيرات لتكون طاعة العبد للرب من الإحسان الذي هو أعلى درجات العبادة، فإن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه ليس بغافل عن أحواله كان أحرص على العمل وأكثر التذاذا به وأقل نفرة عنه
وخامسها: أن الخادم إذا علم اطلاع المخدوم على جميع أحواله وما يفعله كان جده واجتهاده في أداء الطاعات وفي الاحتراز عن المحظورات أشد مما إذا لم يكن كذلك، فلهذه الوجوه أتبع تعالى الأمر بالحج والنهي عن الرفث والفسوق والجدال بقوله: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله}...
أما قوله تعالى: {يا أولي الألباب} فاعلم أن لباب الشيء ولبه هو الخالص منه، ثم اختلفوا بعد ذلك،
فقال بعضهم: إنه اسم للعقل لأنه أشرف ما في الإنسان، والذي تميز به الإنسان عن البهائم وقرب من درجة الملائكة، واستعد به للتمييز بين خير الخيرين، وشر الشرين،
وقال آخرون: أنه في الأصل اسم للقلب الذي هو محل العقل، والقلب قد يجعل كناية عن العقل قال تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} فكذا ههنا جعل اللب كناية عن العقل، فقوله: {يا أولي الألباب} معناه: يا أولي العقول، وإطلاق اسم المحل على الحال مجاز مشهور، فإنه يقال لمن له غيرة وحمية: فلان له نفس، ولمن ليس له حمية: فلان لا نفس له فكذا ههنا.
فإن قيل: إذا كان لا يصح إلا خطاب العقلاء فما الفائدة في قوله: {يا أولي الألباب}. قلنا: معناه: إنكم لما كنتم من أولي الألباب كنتم متمكنين من معرفة هذه الأشياء والعمل بها فكان وجوبها عليكم أثبت وإعراضكم عنها أقبح... ولهذا قال تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضل} يعني الأنعام معذورة بسبب العجز، أما هؤلاء القادرون فكان إعراضهم أفحش، فلا جرم كانوا أضل...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}: قال ابن يونس: أكره للمحتاج الخروج للحج أو الغزو ويسأل الناس، لقوله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} نزلت في هؤلاء، أي: "خير الزاد ما وقاكم السؤال والسرقة"، وليس المراد التقوى المعهودة. (الذخيرة: 6/290)...
122- أي: الواقية لكم من الحاجة إلى السؤال والسرقة، فإنهم كانوا يسافرون إلى الجهاد والحج بغير زاد"، فربما بعضهم في إحدى المفسدتين المذكورتين؛ فأمرهم الله بالتزام العوائد، وحرم عليهم تركها، فإن المأمور به منهي عن ضده، بل أضداده. (الفروق: 4/273)...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فقال بعضهم: [تقديره] الحج حَجُّ أشهر معلومات، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها، وإن كان ذاك صحيحا...
والذين قالوا: الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي، معهم الصواب، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم، وإن كان في جميع السنة منهيًا عنه، إلا أنه في الأشهر الحرم آكَدُ؛ ولهذا قال: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، وقال في الحرم: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]. واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا: هو ارتكاب ما نُهي عنه في الإحرام، من قتل الصيد، وحَلْق الشعر، وقَلْم الأظفار، ونحو ذلك، كما تقدم عن ابن عمر. وما ذكرناه أولى، والله أعلم.
{فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج...}... فإن قلت لم أعيد لفظ الحجّ مظهرا، وهلا قيل: فمن فرضه فيهن؟ فأجاب عن ذلك بأنه لو قيل كذلك لكان فيه عود الضمير على اللفظ لا على المعنى... لأن الحج الأول مطلق يصدق بصورة فيتناول حج زيد وعمرو بالتعيين الواقع منهما وحجمها القابل لأن يفعلاه.
وقول الله جل جلاله: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} مقيد بحج كل واحدٍ واحدٍ بعينه، والشخص المعين حجه مقيد لا مطلق، فلذلك أعيد لفظ الحج مظهرا فيتناول الفرض والتطوع... قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله...}. إن قلت: المتقدم نهي وامتثاله بالترك كما أنّ امتثال الأمر بالفعل، فهلا عقب بأن يقال: وما تتركوا من شيء يَعْلَمَهُ اللهُ؟ قيل لابن عرفة: نقول إن الترك فعل؟ فقال: البحث على أنّه غير فعل. قال: وإنّما الجواب بما قال ابن الحاجب من أنّ نقيض الجلي (جلي)، ونقيض الخفي خفي فالإخبار بأن الله تعالى يعلم الفعل يستلزم معرفته نقيض ذلك وهو الترك وإنّما عدل على التنصيص على ذلك بالمطابقة إلى دلالة الالتزام ليفيد الكلام أمرين، وهو الحض على عدم الاقتصار على ترك ذلك فقط فيتضمن طلب تركه وطلب تعويضه بفعل الخير المحصل للثواب فإنه تعالى عالم بمن يترك ذلك ويفعل الخير فنبه على الترك والفعل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه وتعالى أن الحج موقت بالأهلة ولم يعين له وقتاً من شهور السنة وختم ذلك بالتفرقة في بعض أحكام الحج بسبب الأماكن تشوفت النفس إلى تعيين وقته وأنه هل هو كالمكان أو عام الحكم فقال {الحج} أي وقته {أشهر} فذكره بصيغة من جموع القلة الذي أدناه ثلاث وهي ثلاث بجر المنكسر: شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة العيد بدليل أنه يفوت بطلوع الفجر يوم النحر؛
ولما أبهم عين فقال: {معلومات} أي قبل نزول الشرع فأذن هذا أن الأمر بعد الشرع على ما كان عليه ولا شك أن في الإبهام ثم التعيين إجلالاً وإعظاماً للمحدث عنه...
ولما كان في الإنسان قوى أربع: شهوانية بهيمية، وغضبية سَبُعية و وهمية شيطانية تبعث مع مساعدة القوتين الأخريين على المنازعة والمغالبة في كل شيء، وعقلية ملكية؛ وكان المقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاث لأن منشأ الشرور كلها محصور فيها بالعقلية قال دالاً عليها محذراً منها مرتبة: {فلا رفث} أي مواجهة للنساء بشيء من أمور النكاح.
ولما كان الرفث هو داعياً إلى الوقاع الذي هو فسق بالخروج عن الإحرام الصحيح قال ضاماً إليه كل ما دخل في هذا الاسم: {ولا فسوق} قال الحرالي: هو الخروج عن إحاطة العلم والعقل والطبع...
ولما كان المراء قد يجر إلى الفسق بما يثير من الإحن وتوغير الصدور فكان فسقاً خاصاً عظيماً ضرره قال: {ولا جدال} أي مدافعة بالقول بفتل عن القصد كمدافعة الجلاد باليد أو السيف ولعله عبر بهذا المصدر الذي شأنه أن يكون مزيداً دون الجدل الذي معناه الدرء في الخصومة لأن ينصب النفي على المبالغة فيفهم العفو عن أصله لأنه لا يكاد يسلم منه أحد، وكذا الحال في الفسوق {في الحج} فصار الفسق واسطة بين أمرين جارين إليه والجدال لكونه قد يفسد ذات البين أعظمها خطراً ويجمع ما في الرفث من الشهوة وقد يكون فسقاً فقد اشتمل على قبائح الكل؛ فلذلك أجمع القراء السبعة على بنائه مع لا على الفتح دون ما قبله لأن البناء دال على نفي الماهية ونفيها موجب لنفي جميع أفرادها، وأما الرفع فإنما يدل على نفي فرد منكر من تلك الماهية وهو لا يوجب نفي جميع الأفراد، ولأن العرب كانوا يبنون الحج على النسيء ويتخالفون فيه في الموقف، فزال الجدال فيه بعد البيان بكل اعتبار من جهة الخدم والعيال وغيرهم والنسيء والموقف وغيرهما من حيث إنه قد علمت مشاعره وتقررت شرائعه وأحكمت شعائره وأوضحت جميع معالمه فارتفع النزاع أصلاً في أمره...
ولما كانت هذه المنفيات شراً وكان التقدير: فما فعلتم من هذه المنهيات على هذا الوجه الأبلغ عوقبتم عليه عطف عليه: {وما}.
قال الحرالي: ولما حمي من سوء معاملة الخلق مع الخلق عرض بأن يوضع موضع ذلك الإحسان فيقع في محل إخراج الأنفس أن يتودد إليها بإسداء الخير وهو الإحسان من خير الدنيا، ففي إعلامه تحريض على إحسان الحج بعضهم لبعض لما يجمع وفده من الضعيف والمنقطع فقال: وما {تفعلوا}...
أي يوجد لكم فعله في وقت من الأوقات {من خير} في الحج أو غيره بتوكل في تجرد أو تزود في تزهد أو غير ذلك من القول الحسن عوض الرفث، والبر والتقوى مكان الفسق، والأخلاق الجميلة واليسر والوفاق مكان الجدال {يعلمه الله} الذي له جميع صفات الكمال فيجازيكم عليه فهو أشد ترغيب و ترهيب ولما عمم في الحث على الخير على وجه شامل للتزود وتركه بعد التخصيص أشار إلى أن الخير هو الزاد على وجه يعم الحسي والمعنوي زيادة في الحث عليه إذ لا أضر من إعواز الزاد لأكثر -العباد فقال: {وتزودوا} أي التقوى لمعادكم الحاملة على التزود الحسي لمعاشكم الحامل على الزهد فيما في أيدي الناس، والمواساة لمحتاجهم الواقية للعبد من عذاب الله "اتقوا النار ولو بشق تمرة "وذلك هو ثمرة التقوى؛ والزاد هو متعة المسافر.
ثم علل ذلك بما أنتجه بقوله {فإن خير}، ويجوز أن يكون التقدير: وتزودوا واتقوا الله في تزودكم {فإن خير الزاد التقوى} وفي التجرد مداخل خلل في بعض نيات الملتبسين بالمتوكلين من الاتكال على الخلق، فأمر الكل بالتزود ستراً للصنفين، إذ كل جمع لا بد فيه من كلا الطرفين- قاله الحرالي و قال: وفي ضمنه تصنيفهم ثلاثة أصناف: متكل لا زاد معه فمعه خير الزادين، ومتمتع لم يتحقق تقواه فلا زاد له في الحقيقة، وجامع بين التقوى والمتعة فذلك على كمال السنة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: "[أعقلها] وتوكل" لأن ذلك أستر للطرفين؛
وحقيقة التقوى في أمر التزود النظر إلى الله تعالى في إقامة خلقه وأمره، قال بعض أهل المعرفة: من عوده الله سبحانه وتعالى دوام النظر إليه بالغيبة عما سواه فقد ملك الزاد فليذهب حيث شاء فقد استطاع سبيلاً...
ولما علم من ذلك أن التقدير: فأكثروا من الزاد مصحوباً بالتقوى وكان الإنسان محل النقصان فكان الإكثار حاملاً له في العادة على الطغيان إلاّ من عصم الله وقليل ما هم قال سبحانه وتعالى مؤكداً لأمر التقوى مشرفاً لها بالإضافة إلى نفسه الشريفة تنبيهاً على الإخلاص لأجل ذاته السنية لا بالنظر إلى شيء من رجاء أو خوف أو اتصاف بحج أو غيره عاطفاً على ما أرشد إلى تقديره السياق: {واتقون} أي في تقواكم بالتزود، وزاد الترغيب فيها بقوله: {يا أولي الألباب} أي العقول الصافية والأفهام النيرة الخالصة التي تجردت عن جميع العلائق الجسمانية فأبصرت جلالة التقوى فلزمتها...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}: قالوا إن هذا نزل في ردع أهل اليمن عن ترك التزود زعما أنه من مقتضى التوكل على الله...قال الأستاذ الإمام: وهو غير ظاهر من العبارة، بل المتبادر منها أن الزاد هو زاد الأعمال الصالحة وما تدخر من الخير والبر كما يرشد إليه التعليل في قوله: {فإن خير الزاد التقوى} والمعنى من التقوى معروف وهو ما به يتقى سخط الله، وليس ذلك إلا البر والتنزه عن المنكر، ولا يعلل بأن التقوى خير زاد إلا وهو يريد التزود منها...ولذلك أتمها بقوله {واتقون يا أولي الألباب} يعني ما كان له لب وعقل فليتقني فإنه يكون على نور من فائدة التقوى وأهلا للانتفاع بها [أقول] ويدخل في فعل الخير والطاعة الأخذ بالأسباب كالتزود، وتحامي وسائل الحاجة إلى السؤال المذموم والله أعلم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
و عندي أن مرمى القول الكريم والنهي عن كل قول يجعل اللسان غير نزه، وكل قول يؤدي إلى النزاع، والجدال يؤدي إلى الخصام، لأنهم اجتمعوا على مائدة الرحمان الروحية ليتعارفوا، وليتلاقوا، وليقوى اتحادهم، ويعتزوا بعزة الله، فيجب اجتناب كل ما يؤدي إلى النزاع والخصام...
إذن فالحياة في الحج غير طبيعية، وظروف الناس غير طبيعية، لذلك يحذرنا الحق من الدخول في جدل؛ لأنه ربما كان الضيق من تغيير نظام الحياة سبباً في إساءة معاملة الآخرين، والحق يريد أن يمنع هذا الضيق من أن يؤثر في علاقتنا بالآخرين. وقد أثبتت التجربة أن من يذهبون للحج في جماعة إما أن يعودوا متحابين جداً، وإما أعداء ألداء. ولذلك يطلب إلينا الحق أن يصبر كل إنسان على ما يراه من عادات غيره في أثناء الحج، وليحتسب خروجه عن عاداته وعن رتابة أموره وعن أنسه بأهله يحتسب ذلك عند الله، وليشتغل بأنس الله، وليتحمل في جانبه كل شيء، ويكفي أنه في بيت الله وفي ضيافته...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَاتَّقُونِ يا أُوْلِي الأَلْبَابِ}. وكان هذا النداء انطلاقة رائعة توحي للإنسان بأنَّ كلّ هذه القضايا هي من وحي العقل الذي لا يدعو إلاَّ إلى ما فيه الخير كلّ الخير في الدنيا والآخرة، ليستنفر الإنسان عقله في كلّ وقت، فلا يغيب عنه في أي مجال حتى لا تنهار حياته في لحظات الجنون...