المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} (67)

67- ومن سمات عباد الرحمن : الاعتدال في إنفاقهم المال على أنفسهم وأسرهم ، فهم لا يبذرون ولا يضيقون في النفقة ، بل نفقتهم وسط بين الأمرين .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} (67)

قوله تعالى : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } قرأ ابن كثير وأهل البصرة { يقتروا } بفتح الياء وكسر التاء ، وقرأ أهل المدينة وابن عامر بضم الياء وكسر التاء ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم التاء ، وكلها لغات صحيحة . يقال : أقتر وقتر بالتشديد ، وقتر يقتر . واختلفوا في معنى الإسراف والإقتار ، فقال بعضهم : الإسراف : النفقة في معصية الله وإن قلت : والإقتار : منع حق الله تعالى . وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج . وقال الحسن في هذه الآية لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عن فرائض الله . وقال قوم : الإسراف : مجاوزة الحد في الإنفاق ، حتى يدخل في حد التبذير ، والإقتار : التقصير عما لا بد منه ، وهذا معنى قول إبراهيم : لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف . { وكان بين ذلك قواماً } قصداً وسطاً بين الإسراف والإقتار ، حسنة بين السيئتين . قال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوباً للجمال ، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم ، ومن الثياب ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والقر . قال عمر بن الخطاب : كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} (67)

{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا } النفقات الواجبة والمستحبة { لَمْ يُسْرِفُوا } بأن يزيدوا على الحد فيدخلوا في قسم التبذير وإهمال الحقوق الواجبة ، { وَلَمْ يَقْتُرُوا } فيدخلوا في باب البخل والشح { وَكَانَ } إنفاقهم { بَيْنَ ذَلِكَ } بين الإسراف والتقتير { قَوَامًا } يبذلون في الواجبات من الزكوات والكفارات والنفقات الواجبة ، وفيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من غير ضرر ولا ضرار وهذا من عدلهم واقتصادهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} (67)

ثم بين - سبحانه - حالهم فى سلوكهم وفى معاشهم فقال - تعالى - : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ . . . } .

أى : أن من صفاتهم أنهم ملتزمون فى إنفاقهم التوسط ، فلا هم مسرفون ومتجاوزون للحدود التى شرعها الله - تعالى - ولا هم بخلاء فى نفقتهم إلى درجة التقتير والتضييق ، وإنما هم خيار عدول يعرفون أن خير الأمور أوسطها .

واسم الإشارة فى قوله - تعالى - : { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } يعود إلى المذكور من الإسراف والتقتير . والقوام : الشىء بين الشيئين . وقوام الرجل : قامته وحسن طوله وهيئته ، وهو : خبر لكان ، واسمها : مقدر فيها .

أى : وكان إنفاقهم " قواما " أى وسطا بين الإسراف والتقتير والتبذير والبخل ، فهم فى حياتهم نموذج يقتدى به فى القصد والاعتدال والتوازن . وذلك لأن الإسراف والتقتير كلاهما مفسد لحياة الأفراد والجماعات والأمم ، لأن الإسراف تضييع للمال فى غير محله . والتقتير إمساك له عن وجوهه المشروعة ، أما الوسط والاعتدال فى إنفاق المال ، فهو سمة من سمات العقلاء الذين على أكتفاهم تنهض الأمم ، وتسعد الأفراد والجماعات .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} (67)

وقوله : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } أي : ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة ، ولا بخلاء على أهْليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم ، بل عَدْلا خيارًا ، وخير الأمور أوسطها ، لا هذا ولا هذا ، { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } ، كَمَا قَالَ : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } [ الإسراء : 29 ] .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عصام{[21594]} بن خالد ، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني ، عن ضَمْرَة ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من فقه الرجل رفقه في معيشته " . ولم يخرجوه{[21595]} .

وقال [ الإمام ]{[21596]} أحمد أيضًا : حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنا سُكَين{[21597]} بن عبد العزيز العَبْدي ، حدثنا إبراهيم الهَجَري عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما عال من اقتصد " . ولم يخرجوه{[21598]} .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون{[21599]} حدثنا سعيد{[21600]} بن حكيم ، عن مسلم بن حبيب ، عن بلال - يعني العبسي - عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أحسن القصد في الغنى ، وأحسن القصد في الفقر ، وأحسن القصد في العبادة " ثم قال : لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه{[21601]} .

وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف .

وقال غيره : السرف النفقة في معصية الله .

وقال الحسن البصري : ليس النفقة في سبيل الله سرفا [ والله أعلم ]{[21602]} .


[21594]:- في أ : "عاصم".
[21595]:- المسند (5/194).
[21596]:- زيادة من أ.
[21597]:- في أ : "مسكين".
[21598]:- المسند (1/447) وقال الهيثمي في المجمع (10/252) "في إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف".
[21599]:- في ف ، أ : "إبراهيم بن محمد بن محمد بن ميمون".
[21600]:- في ، أ : "سعد".
[21601]:- مسند البزار برقم (3604) وقال الهيثمي في المجمع (10/252) : "رواه البزار عن سعيد بن حكيم عن مسلم بن حبيب ، ومسلم هذا لم أجد من ذكره إلا ابن حبان في ترجمة سعيد الراوي عنه ، وبقية رجاله ثقات".
[21602]:- زيادة من أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} (67)

{ والذين إذا انفقوا لم يسرفوا } لم يجاوزا حد الكرم . { ولم يقتروا } ولم يضيقوا تضييق الشحيح . وقيل الإسراف هو الإنفاق في المحارم والتقتير منع الواجب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع وابن عامر والكوفيون بضم الياء وكسر التاء من أقتر ، وقرئ بالتشديد والكل واحد . { وكان بين ذلك قواما } وسطا عدلا سمي به لاستقامة الطرفين كما سمي سواء لاستوائهما ، وقرئ بالكسر وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص وهو خير ثان أو حال مؤكدة ، ويجوز أن يكون الخبر بين ذلك لغوا ، وقيل إنه اسم{ كان } لكنه مبني لإضافته إلى غير متمكن وهو ضعيف لأنه بمعنى القوام فيكون كالإخبار بالشيء عن نفسه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} (67)

اختلف المفسرون في هذه الآية في الإنفاق ، فعبارة أكثرهم أن الذي لا يسرف هو المنفق في الطاعة ، وإن أسرف ، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قل إنفاقه ، وأن المقتر هو الذي يمنع حقاً عليه ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد ، وقال عون بن عبد الله بن عتبة «الإسراف » أن تنفق مال غيرك . ونحو هذه الأقوال التي هي غير مرتبطة بلفظ الآية ، وخلط الطاعة والمعصية بالإسراف والتقتير فيه نظر ، والوجه أن يقال أن النفقة في المعصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره ، وكذلك التعدي على مال الغير ، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك ، وإنما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات وفي المباحات ، فأدب الشرع فيها أن لا يفرط الإنسان حتى يضيع حقاً آخر أو عيالاً ونحو هذا وأن لا يضيق أيضاً ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح ، والحسن في ذلك هو القوام ، أي المعتدل ، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب أو ضد هذه الخصال ، وخير الأمور أوسطها ، ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يتصدق بجميع ماله لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين ومنع غيره من ذلك ، ونعم ما قال إبراهيم النخعي وهو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف ، وقال يزيد بن حبيب هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاماً للذة ، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة : ما نفقتك ؟ فقال له عمر الحسنة بين السيئتين ، ثم تلا الآية ، وقال عمر بن الخطاب كفى بالمرء سرفاً ألا يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله ، وفي سنن ابن ماجه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من السرف أن تأكل ما اشتهيته ) ، وقال الشاعر :

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم{[8877]}

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «يُقتِروا » بضم الياء وكسر التاء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد وحفص عن عاصم{[8878]} «يَقتِروا » بفتح الياء وكسر التاء ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضم الياء ، وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة وعاصم بخلاف ، وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وفتح التاء{[8879]} ، وقرأ أبو عمرو «والناس قَواماً » بفتح القاف ، أي معتدلاً{[8880]} ، وقرأ حسان بن عبد الرحمن بكسر القاف أي مبلغاً وسداداً وملاك حال ، و { قواماً } خبر { كان } واسمها مقدر أي الإنفاق ، وجوز الفراء أن يكون اسمها قوله { بين ذلك } .


[8877]:الغلو: الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه، قال في اللسان: "وخير الأمور أوساطها، و... كلا طرفي قصد الأمور ذميم" فاستشهد بالنصف الثاني على أن المراد الاعتدال في الأمور، وعدم مجاوزة الحد في الطرفين بالإفراط أو التفريط، وعلى هذا فالاقتصاد هو الاعتدال، أو هو ما بين الإسراف والتقتير، قال تعالى: {ومنهم مقتصد} أي بين الظالم والسابق، وقال: {واقصد في مشيك} وفي الحديث الشريف: (ما عال مقتصد ولا يعيل)، أي: ما افتقر من لا يسرف في الإنفاق ولا يقتر.
[8878]:الثابت في المصحف أن قراءة حفص عن عاصم [يقتروا] بفتح الياء وضم التاء، لا بكسرها، ونظن أن الخطأ من الناسخ.
[8879]:إذا راجعنا ذلك على ما في كتب القراءات نجد اختلافات متعددة، وحتى نأمن العثار والخطأ ننقل لك هنا ما أثبته الحافظ ابن الجزري في كتابه (النشر في القراءات العشر)، قال: "قرأ المدنيان وابن عامر بضم الياء وكسر التاء، وقرأ ابن كثير والبصريان بفتح الياء وكسر التاء، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم التاء". هذا والحجة لمن فتح الياء وكسر التاء أنه أخذه من قتر يقتر، مثل : ضرب يضرب، ومن ضم التاء أخذه من قتر يقتر، مثل: خرج يخرج، والحجة لمن ضم الياء وكسر التاء أنه أخذه من أقتر يقتر، وهما لغتان معناهما: قلة الإنفاق، قاله ابن خالويه في كتاب :"الحجة".
[8880]:في بعض النسخ: اعتدالا.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} (67)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا} في غير حق، {ولم يقتروا} يعني: ولم يمسكوا عن حق، {وكان بين ذلك قواما} يعني: بين الإسراف والإقتار مقتصدا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: والذين إذا أنفقوا أموالهم لم يسرفوا في إنفاقها.

ثم اختلف أهل التأويل في النفقة التي عناها الله في هذا الموضع، وما الإسراف فيها والإقتار؛

فقال بعضهم: الإسرافُ ما كان من نفقة في معصية الله، وإن قلّت. قال: وإياها عني الله، وسماها إسرافا، قالوا: والإقتار المنع من حقّ الله...

وقال آخرون: الإسرافُ هو أن تأكل مال غيرك بغير حقّ... والصواب من القول في ذلك، قول من قال: الإسراف في النفقة الذي عناه الله في هذا الموضع: ما جاوز الحدّ الذي أباحه الله لعباده إلى ما فوقه، والإقتار: ما قصر عما أمر الله به، والقوام: بين ذلك.

وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن المسرف والمقتر كذلك، ولو كان الإسراف والإقتار في النفقة مرخصا فيهما ما كانا مذمومين، ولا كان المسرف ولا المقتر مذموما، لأن ما أذن الله في فعله فغير مستحقّ فاعله الذمّ. فإن قال قائل: فهل لذلك من حدّ معروف تبينه لنا؟ قيل: نعم، ذلك مفهوم في كلّ شيء من المطاعم والمشارب والملابس والصدقة وأعمال البرّ وغير ذلك، نكره تطويل الكتاب بذكر كلّ نوع من ذلك مفصلاً، غير أن جملة ذلك هو ما بيّنا، وذلك نحو أكل آكل من الطعام فوق الشبع ما يضعف بدنه، وينهك قواه، ويشغله عن طاعة ربه، وأداء فرائضه، فذلك من السرف، وأن يترك الأكل وله إليه سبيل حتى يضعف ذلك جسمه، ويَنْهَك قواه، ويضعفه عن أداء فرائض ربه، فذلك من الإقتار، وبين ذلك القَوام على هذا النحو، كلّ ما جانس ما ذكرنا. فأما اتخاذ الثوب للجمال، يلبسه عند اجتماعه مع الناس، وحضوره المحافل والجمع والأعياد، دون ثوب مهنته، أو أكله من الطعام ما قوّاه على عبادة ربه، مما ارتفع عما قد يسدّ الجوع، مما هو دونه من الأغذية، غير أنه لا يعين البدن على القيام لله بالواجب معونته، فذلك خارج عن معنى الإسراف، بل ذلك من القَوام، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أمر ببعض ذلك، وحضّ على بعضه، كقوله: «ما عَلى أحَدِكُمْ لَوِ اتّخَذَ ثَوْبَيْنِ. ثَوْبا لِمِهْنَتِهِ، وَثَوْبا لِجُمْعَتِهِ وَعِيدِهِ» وكقوله: «إذَا أنْعَمَ اللّهُ عَلى عَبْدٍ نِعْمَةً أحَبّ أنْ يَرَى أثَرَهُ عَلَيْهِ»، وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد بيّناها في مواضعها.

وأما قوله:"وكانَ بينَ ذلكَ قَوَاما" فإنه النفقة بالعدل والمعروف، على ما قد بيّنا... والقوام في كلام العرب، بفتح القاف، وهو الشيء بين الشيئين. تقول للمرأة المعتدلة الخلق: إنها لحسنة القوام في اعتدالها... فمعنى الكلام: وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواما معتدلاً، لا مجاوزة عن حدّ الله، ولا تقصيرا عما فرضه الله، ولكن عدلاً بين ذلك على ما أباحه جلّ ثناؤه، وأذن فيه ورخص.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا}، قال بعضهم: {لم يسرفوا} في غير حق؛ كسبوا طيبا، وأنفقوا قصدا، وأعطوا فضلا، لا جحودا، واستيسروا. {ولم يقتروا} أي ولم يمسكوا عن الحق.

{وكان بين ذلك قوما} أي بين الإسراف والتقتير مقصدا.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

الإسرافُ أن تنفق في الهوى وفي نصيب النّفْس، فأمّا ما كان لله فليس فيه إسراف، والإقتارُ ما كان ادخاراً عن الله. فأمَّا التضييقُ على النَّفْس منعاً لها عن اتباع الشهوات ولتتعودَ الاجتراء باليسير فليس بالإقتار المذموم.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

اختلف المفسرون في هذه الآية في الإنفاق، فعبارة أكثرهم أن الذي لا يسرف هو المنفق في الطاعة، وإن أسرف، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قل إنفاقه، وأن المقتر هو الذي يمنع حقاً عليه، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد، وقال عون بن عبد الله بن عتبة «الإسراف» أن تنفق مال غيرك. ونحو هذه الأقوال التي هي غير مرتبطة بلفظ الآية، وخلط الطاعة والمعصية بالإسراف والتقتير فيه نظر، والوجه أن يقال أن النفقة في المعصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره، وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات وفي المباحات، فأدب الشرع فيها أن لا يفرط الإنسان حتى يضيع حقاً آخر أو عيالاً ونحو هذا وأن لا يضيق أيضاً ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي المعتدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوسطها، ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يتصدق بجميع ماله لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين ومنع غيره من ذلك،

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{والذين إذا أنفقوا} أي للخلق أو الخالق في واجب أو مستحب {لم يسرفوا} أي يجاوزوا الحد في النفقة بالتبذير، فيضيعوا الأموال في غير حقها فيكونوا إخوان الشياطين الذين هم من النار ففعلهم فعلها {ولم يقتروا} أي يضيقوا فيضيعوا الحقوق؛ ثم بين العدل بقوله: {وكان} أي إنفاقهم {بين ذلك} أي الفعل الذي يجب إبعاده. ولما علم أن ما بين الطرفين المذمومين يكون عدلاً، صرح به في قوله: {قواماً} أي عدلاً سواء بين الخلقين المذمومين: الإفراط والتفريط، تخلقاً بصفة قوله تعالى {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن نزل بقدر ما يشاء} [الشورى: 27] وهذه صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم و رضي عنهم -كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة، بل كانوا يأكلون ما يسد الجوعة، ويعين على العبادة، ويلبسون ما يستر العورة، ويكنّ من الحر والقر، قال عمر رضي الله عنه: كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله.

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :

وقدم نفي السرف على نفي التقتير؛ لأن الإسراف شرهما، ففيه مجاوزة الحدود، وضياع المال، وفي التقتير مفسدته مع بقاء المال فينفقه في الخير، وقد يبقى لغيره فينتفع به.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهم في حياتهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواما).. وهذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات؛ ويتجه إليها في التربية والتشريع، يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال. والمسلم -مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة- ليس حرا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء -كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان. إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير. فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع؛ والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. والإسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، وحبس الأموال يحدث أزمات ومثله إطلاقها بغير حساب. ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق. والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: (وكان بين ذلك قواما).

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمعنى: أنهم يضعون النفقات مواضعها الصالحة كما أمرهم الله فيدوم إنفاقهم وقد رغب الإسلام في العمل الذي يدوم عليه صاحبه، وليسير نظام الجماعة على كفاية دون تعريضه للتعطيل فإن الإسراف من شأنه استنفاد المال فلا يدوم الإنفاق، وأما الإقتار فمن شأنه إمساكُ المال فيُحرم من يستأهله.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وإن النص الكريم يفهم منه أمران:

أحدهما ألا ينفق في حرام قط، وألا يضن عن حلال موجود إلا تربية للنفس وتهذيبا، وفطما لها عن الشهوات، ولذا كان عمر رضي الله عنه يعد من يطلب كل ما يشتهي مسرفا، لأنه إذا حق الأمر لا يستطيع قدع نفسه عن شهواتها...

الأمر الثاني أن الإنفاق بين الإسراف والقتر يختلف باختلاف أحوال الأشخاص، فإذا كان الرجل كسوبا عليه أن ينفق في الحلال والجهاد بمقدار كسبه وطاقته ما دام ينفق في مطلوب، وما دام كسبه واسعا، ولقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم من أب بكر كل موفور ماله لأنه تاجر كسوب، يعرف مواضع الكسب والخسارة، ولم يقبله من غيره، وقد قال تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو… (219)} [البقرة]، أي السهل اللين الذي لا يجهد ذا المال إنفاقه ولا يصعب عليه.