البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} (67)

{ لم يسرفوا } ولم يقتروا .

قال أبو عبد الرحمن الجيلي : الإنفاق في غير طاعة إسراف ، والإمساك عن طاعة إقتار .

وقال معناه ابن عباس ومجاهد وابن زيد .

وسمع رجل رجلاً يقول : لا خير في الإسراف فقال : لا إسراف في الخير .

وقال عون بن عبد الله بن عتبة : الإسراف أن تنفق مال غيرك .

وقال النخعي : هو الذي لا يجيع ولا يُعَرِّي ولا ينفق نفقة يقول : الناس قد أسرف .

وقال يزيد بن أبي حبيب : هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاماً للّذة وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة : ما نفقتك ؟ قال له عمر : الحسنة بين السيئتين .

ثم تلا الآية .

والإسراف مجاوزة الحد في النفقة والقتر التضييق الذي هو نقيض الإسراف .

وعن أنس في سنن ابن ماجة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من السرف أن تأكل ما اشتهيته » وقال الشاعر :

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقال آخر

إذا المرء أعطى نفسه كلما اشتهت *** ولم ينهها تاقت إلى كل باطل

وساقت إليه الإثم والعار بالذي *** دعته إليه من حلاوة عاجل

وقال حاتم

إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله *** وفرج نالا منتهى الذم أجمعا

وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم : يقترون بفتح الياء وضم التاء ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع ، وابن عامر بضم الياء وكسر التاء مشددة وكلها لغات في التضييق .

وأنكر أبو حاتم لغة أقتر رباعياً هنا .

وقال أقتر إذا افتقر .

ومنه { وعلى المقتر قدره } وغاب عنه ما حكاه الأصمعي وغيره : من اقتر بمعنى ضيق ، والقوام الاعتدال بين الحالتين .

وقرأ حسان بن عبد الرحمن { قواماً } بالكسر .

فقيل : هما لغتان بمعنى واحد .

وقيل : بالكسر ما يقام به الشيء يقال : أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص .

وقيل : { قواماً } بالكسر مبلغاً وسداداً وملاك حال ، و { وبين ذلك } و { قواماً } يصح أن يكونا خبرين عند من يجيز تعداد خبر { كان } وأن يكون { بين } هو الخبر و { قواماً } حال مؤكدة ، وأن يكون { قواماً } خبراً و { بين ذلك } إما معمول لكان على مذهب من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف ، وأن يكون حالاً من { قواماً } لأنه لو تأخر لكان صفة ، وأجاز الفراء أن يكون { بين ذلك } اسم { كان } وبُني لإضافته إلى مبني كقوله { ومن خزي يومئذ } في قراءة من فتح الميم و { قواماً } الخبر .

قال الزمخشري : وهو من جهة الإعراب لا بأس به ، ولكن المعنى ليس بقوي لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة انتهى .

وصفهم تعالى بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير ، وبمثله خوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله { ولا تجعل يدك مغلولة } الآية .