السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} (67)

ولما ذكر تعالى أفعالهم وأقوالهم أتبع ذلك بذكر إنفاقهم وهو الصفة الخامسة بقوله تعالى : { والذين إذا أنفقوا } أي : للخلق أو الخالق في واجب أو مستحب أو مباح { لم يسرفوا } أي : لم يجاوزوا الحد في النفقة بالتبذير فيضيعوا الأموال في غير حقها { ولم يقتروا } أي : لم يضيقوا فيضيعوا الحقوق { وكان } أي : إنفاقهم { بين ذلك } أي : الإسراف والإقتار { قواماً } أي : وسطاً .

تنبيه : اسم كان ضمير يعود على الإنفاق المفهوم من قوله تعالى : أنفقوا وخبرها قواماً ، وبين ذلك معمول له ، وقيل : غير ذلك وذكر المفسرون في الإسراف والتقتير وجوهاً ؛ أحدها : قال الرازي وهو الأقوى وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقتير ، وبمثله أمر صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } ( الإسراء ، 29 ) إذ يقال : ما عال من اقتصد ، وسأل رجل بعض العلماء ما البناء الذي لا سرف فيه قال : ما سترك من الشمس وأكنك من المطر ، قال : فما الطعام الذي لا سرف فيه ؟ قال : ما سد الجوعة ، قال : فما اللباس الذي لا سرف فيه ؟ قال : ما ستر عورتك وأدفأك من البرد ، ثانيها : وهو قول ابن عباس : الإسراف النفقة في معصية الله تعالى ، والإقتار منع حق الله تعالى ، وقال مجاهد : لو أنفق أحد مثل جبل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله تعالى لم يكن سرفاً ، ولو أنفق صاعاً في معصية الله تعالى كان سرفاً ، وقال الحسن : لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عما ينبغي وأنشدوا :

ذهاب المال في حمد وخير *** ذهاب لا يقال له ذهاب

وسمع رجل رجلاً يقول : لا خير في الإسراف ، فقال : لا إسراف في الخير ، وعن عمر بن عبد العزيز أنه شكر عبد الملك بن مروان حين زوجه ابنته وأحسن إليه فقال : وصلت الرحم وفعلت وصنعت وجاء بكلام كثير حسن فقال ابن لعبد الملك إنما هو كلام أعده لهذا المقام ، فسكت عبد الملك ، فلما كان بعد أيام دخل عليه والابن حاضر فسأله عن نفقته وأحواله ، فقال : النفقة بين الشيئين ، فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية فقال لابنه : يا بني هذا أيضاً مما أعده ، وثالثها السرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع في الدنيا وإن كان من حلال ؛ لأنه يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء ، فكانت الصحابة لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم ويلبسون ما يستر عوراتهم ويقيهم من الحر والبرد ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله ، وقرأ نافع وابن عامر يقتروا بضم التحتية وكسر الفوقية من أقتر ، وابن كثير وأبو عمر بفتح التحتية وكسر الفوقية من أقتر ، وابن كثير وأبو عمر بفتح التحتية وكسر الفوقية والكوفيون بفتح التحتية وضم الفوقية .