اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} (67)

قوله : { والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } .

قرأ الكوفيون{[36641]} بفتح الياء وضم التاء من يَقْتُرُوا ، وابن كثير وأبو عمرو بالفتح والكسر ، ونافع وابن عامر بالضم والكسر من أقتر{[36642]} ، وعليه { وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ }{[36643]} [ البقرة : 236 ] وأنكر أبو حاتم أقْتَرَ ، وقال : لا يناسب هنا ، فإن أَقْتَرَ بمعنى افتقر ، ومنه { وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ }{[36644]} [ البقرة : 236 ] وردَّ عليه بأن الأصمعي وغيره حكوا أَقْتَرَ بمعنى ضَيَّقَ{[36645]} . وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء{[36646]} مشددة{[36647]} من قَتَّر بمعنى ضيَّق ، وكلها لغات{[36648]} ، والقَتْر والإقْتَار والتَّقْتير ( التضييق الذي هو نقيض ){[36649]} الإسراف ، والإسراف مجاوزة الحد في النفقة{[36650]} .

فصل

المراد من الآية القصد بين الغلو والتقصير ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط }{[36651]} [ الإسراء : 29 ] . وسأل ابن الورد{[36652]} بعض العلماء ما البناء الذي لا سَرَف فيه ؟ قال : ما سترك عن الشمس ، وأكنَّك من المطر . وقال له ما الطعام الذي لا سرف فيه ؟ فقال : ما سد الجوعة ، وقال له في اللباس : ما ستر عورتك وأدفأك من البرد{[36653]} .

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : الإسراف في النفقة في معصية الله تعالى ، والإقتار : منع حق الله تعالى{[36654]} .

قال مجاهد : لو أنفق الرجل مثل ( أبي ) {[36655]} قبيس ذهباً في طاعة الله لم يكن مسرفاً{[36656]} . وأنشدوا :

ذِهَابَ المَالِ في حَمْدٍ وَأَجْرٍ *** ذِهَابٌ لاَ يُقَالُ لَهُ ذِهَابُ{[36657]}

وقيل : السرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع وإن كان من حلال ، لأنه يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء{[36658]} .

قوله{[36659]} : { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } في اسم «كان » وجهان :

أشهرهما : أنه ضمير يعود على الإنفاق المفهوم من قوله «أَنْفَقُوا » . أي : وكان إِنْفَاقهم مستوياً قصداً لا إسرافاً ولا تقتيراً ، وفي خبرها وجهان :

أحدهما : هو «قَوَاماً » و «بَيْنَ ذَلِكَ » إما معمول له ، وإما ل «كان » عند من يرى إعمالها في الظرف ، وإما المحذوف على أنه حال من «قَوَاماً » ، ويجوز أن يكون { بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } ، خبرين ل «كان » عند من يرى ذلك ، وهم الجمهور خلافاً لابن درستويه{[36660]} .

والثاني : أن الخبر «بَيْنَ ذَلِكَ » و «قَوَاماً » حال مؤكدة{[36661]} .

والثاني من الوجهين الأولين : أن يكون اسمها «بَيْنَ ذَلِكَ » وبُنِيَ لإضافته إلى غير متمكنٍ ، و «قَوَاماً » خبرها قاله الفراء{[36662]} . قال الزمخشري : وهو من جهة الإعراب لا بأس به ( ولكنه من جهة المعنى ){[36663]} ليس بقوي ؛ لأن ما بين الإسراف والتقتير قَوامٌ لا محالة فليس في الخبر الذي هو مُعْتَمَدُ الفائدة فائدةٌ{[36664]} .

قال شهاب الدين : وهو يشبه قولك : كان سيِّد الجارية مالكها{[36665]} . قال ثعلب : القوام - بالفتح - ( العدل والاستقامة ، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر{[36666]} .

وقال الزمخشري : القوام ) {[36667]} العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ، وبالكسر ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص{[36668]} . وقرأ حسان بن عبد الرحمن{[36669]} «قِوَاماً » يكسر القاف{[36670]} ، فقيل : هما بمعنى{[36671]} ، وقيل : بالكسر اسم ما يقام به الشيء{[36672]} وقيل : بمعنى سداداً وملاكاً{[36673]} .


[36641]:وهم عاصم، وحمزة، والكسائي. السبعة (466).
[36642]:السبعة (466)، الكشف 2/147، النشر 2/334، الإتحاف (330).
[36643]:والاستشهاد بالآية على استعمال الفعل أقتر، فإنه جاء منه "المقتر" اسم فاعل منه. الكشف 2/147.
[36644]:والاستشهاد بالآية على استعمال الفعل أفتر، فإنه جاء منه "المقتر" اسم فاعل منه. الكشف 2/147.
[36645]:انظر القرطبي 13/74، البحر المحيط 6/514.
[36646]:في ب: الراء. وهو تحريف.
[36647]:المختصر (105).
[36648]:من قرأ بفتح الياء وكسر التاء أخذه من قتر يقتر مثل ضرب يضرب، ومن ضم التاء أخذه من قتر يقتر مثل خرج يخرج، ومن الياء وكسر التاء أخذه من أقتر يقتر. الحجة لابن خالويه (266). وفي اللسان (قتر): يقال: قتر وأقتر وقتر بمعنى واحد، وقتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا، أي ضيق عليهم في النفقة.
[36649]:ما بين القوسين في ب: بمعنى التضيق يقبض. وهو تحريف.
[36650]:انظر الكشاف 3/104، الفخر الرازي 24/109.
[36651]:[الإسراء: 29]. وانظر الفخر الرازي 24/109.
[36652]:لم أهتد إلى ترجمة له.
[36653]:انظر الفخر الرازي 24/109.
[36654]:المرجع السابق.
[36655]:أبي: تكملة من الفخر الرازي.
[36656]:انظر الفخر الرازي 24/109.
[36657]:البيت من بحر الوافر، ولم أهتد إلى توثيق له فيما اطلعت عليه من مصادر.
[36658]:انظر الفخر الرازي 24/109.
[36659]:قوله: سقط من ب.
[36660]:وذلك أن ابن درستويه لا يجوز تعدد خبر (كان) ووجهه أن هذه الأفعال شبهت بما يتعدى إلى واحد فلا يزاد على ذلك. انظر الكشاف 3/104، البيان 2/208، البحر المحيط 6/514، الهمع 1/114.
[36661]:انظر الكشاف 3/104، التبيان 2/991، البحر المحيط 6/514.
[36662]:قال الفراء: (وإن شئت جعلت "بين" في معنى رفع، كما تقول: كان دون هذا كافيا لك، تريد: أقل من هذا كان كافيا لك، وتجعل "وكان بين ذلك" كان الوسط من ذلك قواما) معاني القرآن 2/273.
[36663]:ما بين القوسين في الكشاف: ولكن المعنى.
[36664]:الكشاف 3/104.
[36665]:الدر المصون: 5/145.
[36666]:لم أعثر على ما قاله ثعلب في مجالسه، والفصيح، وهو في الفخر الرازي 24/110.
[36667]:ما بين القوسين سقط من ب.
[36668]:انظر الكشاف 3/104، بتصرف يسير.
[36669]:لعله حسان بن ثابت أبو عبد الرحمن، لأنه ليس في كتب تراجم القراء حسان بن عبد الرحمن راويا أو مرويا عنه.
[36670]:انظر المختصر (105)، المحتسب 2/125، تفسير ابن عطية 11/73، القرطبي 13/74، البحر المحيط 6/514.
[36671]:انظر القرطبي 13/74، البحر المحيط 6/514.
[36672]:انظر الكشاف 3/104.
[36673]:انظر تفسير ابن عطية 11/73.