66- ولو أننا فرضنا عليهم المشقة البالغة بأن أمرناهم بالجهاد المستمر ، وأن يُعرِّضوا أنفسهم للتلف ، أو ينفروا من ديارهم مجاهدين دائماً ، ما أطاع إلا عدد قليل ، ولكن الله - سبحانه وتعالى - لا يكلف إلا ما تحتمله الطاقة ، ولو أنهم فعلوا وقاموا بحقه لكان في ذلك خير الدنيا والآخرة لهم ، وهو يؤدي إلى تثبيت الإيمان ، والاستقرار والاطمئنان .
قوله تعالى : { ولو أنا كتبنا } أي : فرضنا وأوجبنا .
قوله تعالى : { عليهم أن اقتلوا أنفسكم } . كما أمرنا بني إسرائيل .
قوله تعالى : { أو اخرجوا من دياركم } ، كما أمرنا بني إسرائيل بالخروج من مصر .
قوله تعالى : { ما فعلوه } ، معناه : أنا ما كتبنا عليهم إلا طاعة الرسول ، والرضى بحكمه ، ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من ديارهم ما فعلوه .
قوله تعالى : { إلا قليل منهم } ، نزلت في ثابت بن قيس ، وهو من القليل الذي استثنى الله ، قال الحسن ومقاتل : لما نزلت هذه الآية قال عمر ، وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن مسعود ، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليل : والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن من أمتي لرجالاً الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي ) .
قرأ ابن عامر وأهل الشام : { إلا قليلاً } بالنصب على الاستثناء ، وكذلك هو في مصحف أهل الشام ، وقيل : فيه إضمار ، تقديره : إلا أن يكون قليلاً منهم ، وقرأ الآخرون ( قليل ) بالرفع على الضمير الفاعل في قوله : { فعلوه } تقديره : إلا نفر قليل فعلوه .
قوله تعالى : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } ، يؤمرون من طاعة الرسول والرضا بحكمه .
قوله تعالى : { لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً } ، تحقيقاً أو تصديقاً لإيمانهم .
{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا }
يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الأوامر الشاقة على النفوس من قتل النفوس والخروج من الديار لم يفعله إلا القليل منهم والنادر ، فليحمدوا ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم به من الأوامر التي تسهل على كل أحد ، ولا يشق فعلها ، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يلحظ العبد ضد ما هو فيه من المكروهات ، لتخف عليه العبادات ، ويزداد حمدًا وشكرًا لربه .
ثم أخبر أنهم لو فعلوا ما يوعظون به أي : ما وُظِّف عليهم في كل وقت بحسبه ، فبذلوا هممهم ، ووفروا نفوسهم للقيام به وتكميله ، ولم تطمح نفوسهم لما لم يصلوا إليه ، ولم يكونوا بصدده ، وهذا هو الذي ينبغي للعبد ، أن ينظر إلى الحالة التي يلزمه القيام بها فيكملها ، ثم يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى ما قدر له من العلم والعمل في أمر الدين والدنيا ، وهذا بخلاف من طمحت نفسه إلى أمر لم يصل إليه ولم يؤمر به بعد ، فإنه لا يكاد يصل إلى ذلك بسبب تفريق الهمة ، وحصول الكسل وعدم النشاط .
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله على الناس ، ورحمته بهم . فقال - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } .
والمراد بقوله { كَتَبْنَا } : فرضنا وأوجبنا .
والمراد ( بقتل النفس ) تعريضا للهلاك من غير أمل فى النجاة ، وقيل : المراد به تعريضها للقتل عن طريق الجهاد .
والمراد بالخروج من الديار : الهجرة فى سبيل الله ، والخروج من الأوطان إلى أماكن فيها إستجابة لأمر الله .
قال الفخر الرازى : الضمير فى قوله { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } فيه قولان :
الأول : وهو قول ابن عباس ومجاهد - أنه عائد إلى المنافقين ، وذلك لأنه - تعالى - كتب على بنى إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم ، وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم . فقال - تعالى - : ولو أنا كتبنا القتل والخروج عن الوطن عن هؤلاء المنافقين ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة ، وحينئذ يصعب الأمر عليهم ، وينكشف كفرهم ، فإذا مل نفعل ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة ، فليتركوا النفاق ، وليقبلوا الإِيمان على سبيل الإِخلاص . وهذا القول اختيار أبى بكر الأصم والقفال .
الثانى : أن المراد لو كتب الله على الناس ما ذكر لم يفعله إلا قليل منهم ، فلما لم يفعل - سبحانه - ذلك رحمة بعباده ، بل اكتفى بتكليفهم بالأمور السهلة ، فعليهم أن يقبلوا عليها بإخلاص حتى ينالوا خير الدارين .
وعلى هذا التقدير دخل تحت هذا الكلام المؤمن والمنافق .
وأما الضمير فى قوله { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } فهو مختص بالمنافقين ، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا .
وعلى هذا التقدير يجب أن يكون المراد بالقليل المؤمنين .
وعلى كلا التقديرين : فإن الآية الكريمة تدل على أن الله - تعالى - لم يكلف هذه الأمة إلا بما تستطيعه ، لأنه - سبحانه - لو كلف الناس جميعا بالتكاليف الشاقة ، لما استطاع أن يقوم بها إلا عدد قليل منهم ، وهذا الدين لم يجئ لهذا العدد القليل من الناس وإنما جاء للناس جميعا .
والمراد : أننا لم نكتب على الناس قتل أنفسهم أو خروجهم من ديارهم لأننا لو فعلنا ذلك لما استطاعه إلا عدد قليل منهم . وإنما الذى كتبناه عليهم هو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والخضوع لحكمه فى الظاهر والباطن والاستجابة لتوجيهاته فى السر والعلن .
فالمقصود من الآية الكريمة بيان لمظهر من مظاهر فضل الله على هذه الأمة ، ورحمته بها ، وتحريض الناس على الامتثال لشريعة الله - تعالى - .
والضمير فى قوله { مَّا فَعَلُوهُ } للمكتوب عليهم الشامل للقتل والخروج من الديار . لدلالة قوله { كَتَبْنَا } عليه .
وقوله " قليل " مرفوع على أنه بدل من الواو فى قوله { فَعَلُوهُ } والتقدير : ما فعله أحد إلا قليل منهم . وقرأه ابن عامر بالنصب على الاستثناء . والأول أولى ، لأنه استثناء من كلام تام غير موجب فيترجح الرفع .
قال ابن كثير : لما نزلت { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } . . . الآية . . قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذى عافانا . فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال : " إن من أمتى رجالا ، الإِيمان أثبت فى قلوبهم من الرواسى " .
وعن عامر بن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم " - أى : لو فرض ذلك لكان عبد الله بن مسعود من الذين يفعلونه .
" وعن شريح بن عبيد قال : لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، أشار بيده إلى عبد الله بن رواحة فقال : " لو أن الله كتب ذلك ، لكان هذا من أولئك القليل " " .
وقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } بيان للنتائج الطيبة التى تترتب على امتثالهم لأمر الله .
أى : ولو ثبت أن هؤلاء الذين أمرناهم بطاعتنا { أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } أى : ما أمرناهم به من اتباع لرسولنا صلى الله عليه وسلم وانقياد لحكمه ، لأنه الصادق المصدوق الذى لا ينطق عن الهوى . .
لو ثبت أنهم فلعوا ذلك لكان ما فعلوه { خَيْراً لَّهُمْ } فى دنياهم وآخرتهم . ولكان { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } لهم على الحق والصواب ، وأمنع لهم من الضلال .
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه ؛ لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر ، وهذا من علمه - تبارك وتعالى - بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ }
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثني إسحاق ، حدثنا أبو زهير{[7854]} عن إسماعيل ، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال : لما نزلت : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهْ إلا قَلِيلٌ [ مِنْهُمْ ]{[7855]} } الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي " {[7856]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن منير ، حدثنا روح ، حدثنا هشام ، عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } الآية . قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لو فعل ربنا لفعلنا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لَلإيمان{[7857]} أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي " .
وقال السدي : افتخر ثابت بن قيس بن شَمَّاس ورجل من اليهود ، فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا . فقال ثابت : والله لو كتب علينا : { أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } لقتلنا . فأنزل الله هذه الآية . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن غَيْلان ، حدثنا بشر بن السَّرِي ، حدثنا مصعب بن ثابت ، عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير ، قال : لما نزلت [ { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قال أبو بكر : يا رسول الله ، والله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت ، قال : " صدقت يا أبا بكر " .
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي عمر العَدَنيّ قال : سئل سفيان عن قوله ]{[7858]} { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم " .
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن عمرو ، عن شُرَيْح بن عُبَيْد قال : لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ]{[7859]} } الآية ، أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى عبد الله بن رَواحة ، فقال : " لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل " يعني : ابن رواحة .
ولهذا قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ } أي : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به ، وتركوا ما ينهون عنه { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } أي : من مخالفة الأمر وارتكاب النهي { وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } قال السدي : أي : وأشد تصديقا .
{ وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْكُمْ أن اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } : ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك المحتكمين إلى الطاغوت أن يقتلوا أنفسهم ، وأمرناهم بذلك ، أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها ما فعلوه ، يقول : ما قتلوا أنفسهم بأيديهم ، ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا عنها إلى الله ورسوله طاعة لله ولرسوله ، إلا قليل منهم .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } هم يهود يعني : والعرب كما أمر أصحاب موسى عليه السلام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ } كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر لم يفعلوا إلا قليل منهم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِياركُمْ ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ } افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود ، فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم ، فقتلنا أنفسنا ! فقال ثابت : والله لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا ! فأنزل الله في هذا : { وَلَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيتا } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن إسماعيل ، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال : لما نزلت : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ } قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا ! فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «إنّ مِنْ أُمّتِي لَرِجالاً الإيمَانُ أثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الجِبالِ الرّوَاسِي » .
واختلف أهل العربية في وجه الرفع في قوله : { إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ } فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنه رفع «قليل » لأنه جعل بدلاً من الأسماء المضمرة في قوله : { ما فَعَلُوهُ } لأن الفعل لهم . وقال بعض نحويي الكوفة : إنما رفع على نية التكرير ، كأن معناه : ما فعلوه ما فعله إلا قليل منهم ، كما قال عمرو بن معد يكرب :
وكُلّ أخٍ مُفارِقُهُ أخُوهُ ***لَعَمْرُ أبيكَ إلاّ الفَرْقَدَانَ
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : رفع «القليل » بالمعنى الذي دلّ عليه قوله : { ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ } وذلك أن معنى الكلام : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعله إلا قليل منهم . فقيل : «ما فعلوه » على الخبر عن الذين مضى ذكرهم في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } ، ثم استثنى القليل ، فرُفع بالمعنى الذي ذكرنا ، إذ كان الفعل منفيّا عنه . وهي في مصاحف أهل الشام : «ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ » . وإذا قرىء كذلك ، فلا مردّ به على قارئه في إعرابه ، لأنه المعروف في كلام العرب ، إذ كان الفعل مشغولاً بما فيه كناية من قد جرى ذكره ، ثم استثني منهم القليل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيتا } .
يعني جلّ ثناؤه بذلك : ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويصدّون عنك صدودا ، { فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ } يعني : ما يذكرون به من طاعة الله والانتهاء إلى أمره ، { لَكَانَ خَيْرا لهم } في عاجل دنياهم وآجل معادهم ، { وأشَدّ تَثْبِيتا } وأثبت لهم في أمورهم ، وأقوم لهم عليها . وذلك أن المنافق يعمل على شكّ ، فعمله يذهب باطلاً ، وغناؤه يضمحلّ فيصير هباء ، وهو بشكه يعمل على وناء وضعف ، ولو عمل على بصيرة لاكتسب بعمله أجرا ولكان له عند الله ذخرا وكان على عمله الذي يعمل أقوى لنفسه وأشدّ تثبيتا لإيمانه بوعد الله على طاعته وعمله الذي يعمله . ولذلك قال من قال : معنى قوله : { وأشَدّ تَثْبِيتا } : تصديقا . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيتا } قال : تصديقا ، لأنه إذا كان مصدّقا كان لنفسه أشدّ تثبيتا ولعزمه فيه أشدّ تصحيحا .
وهو نظير قوله جلّ ثناؤه : { وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضَاةِ اللّهِ وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } وقد أتينا على بيان ذلك في موضعه بما فيه كفاية من إعادته .
{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } تعرضوا بها للقتل في الجهاد ، أو اقتلوها كما قتل بنو إسرائيل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمرنا . { أو اخرجوا من دياركم } خروجهم حين استتيبوا من عبادة العجل ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب أن اقتلوا بكسر النون على أصل التحريك ، أو اخرجوا بضم الواو للاتباع والتشبيه بواو الجمع في نحو قوله تعالى : { ولا تنسووا الفضل } وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل والباقون بضمهما إجراء لهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل . { ما فعلوه إلا قليل منهم } إلا أناس قليل وهم المخلصون . لما بين أن إيمانهم لا يتم إلا بأن يسلموا حق التسليم ، نبه على قصور أكثرهم ووهن إسلامهم ، والضمير للمكتوب ودل عليه كتبنا ، أو لأحد مصدري الفعلين -وقرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء أو على إلا فعلا قليلا . { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم مطاوعته طوعا ورغبة . { لكان خيرا لهم } في عاجلهم وآجلهم . { وأشد تثبيتا } في دينهم لأنه أشد لتحصيل العلم ونفي الشك أو تثبيتا لثواب أعمالهم ونصبه على التمييز . والآية أيضا مما نزلت في شأن المنافق اليهودي . وقيل إنها والتي قبلها نزلتا في حاطب بن أبي بلتعة خاصم زبيرا في شراج من الجرة كانا يسقيان بها النخل ، فقال عليه الصلاة والسلام : " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فقال حاطب : لأن كان ابن عمتك . فقال عليه الصلاة والسلام أسق يا زبير ثم احبس الماء إلى الجدر واستوف حقك ، ثم أرسله إلى جارك " .
و { كتبنا } معناه فرضنا ، و { اقتلوا أنفسكم } معناه ليقتل بعضكم بعضاً ، وقد تقدم نظيره في البقرة ، وضم النون من { أن } وكسرها جائز ، وكذلك الواو من { أو أخرجوا } وبضمها قرأ ابن عامر ونافع وابن كثير والكسائي ، وبكسرها قرأ حمزة وعاصم ، وكسر أبو عمرو النون وضم الواو ، و { قليل } رفع على البدل من الضمير في { فعلوه } ، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب «إلا قليلاً » ، وذلك جائز أجرى النفي مجرى الإيجاب .
وسبب الآية على ما حكي : أن اليهود قالوا لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليه السلام : ما رأينا أسخف من هؤلاء ، يؤمنون بمحمد ويتبعونه ، ويطؤون عقبه ، ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا ، وبلغ القتل فينا سبعين ألفاً فقال ثابت بن قيس : لو كتب ذلك علينا لفعلناه ، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين ، وأنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه ، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون ، كثابت وغيره ، وكذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ثابت بن قيس وعمار وابن مسعود من القليل . وشركهم في ضمير { منهم } لما كان المنافقون والمؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام وظواهر الشريعة ، وقال أبو إسحاق السبيعي : لما نزلت { ولو أنا كتبنا عليهم } الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «إن من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي »{[4139]} وذكر مكي أن الرجل هو أبو بكر الصديق ، وذكر النقاش : أنه عمر بن الخطاب ، وذكر عن أبي بكر أنه قال : لو كتب علينا لبدأت بنفسي وبأهل بيتي وقوله تعالى : { ولو أنهم فعلوا } أي لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيراً لهم ، و { تثبيتاً } معناه : يقيناً وتصديقاً ونحوهذا ، أي يثبتهم الله .
لم يظهر وجه اتّصاله بما قبله ليعطف عليه ، لأنّ ما ذكر هنا ليس أولى بالحكم من المذكور قبله ، أي ليس أولى بالامتثال حتّى يقال : لو أنّا كلّفناهم بالرضا بما هو دون قطع الحقوق لما رضوا ، بل المفروض هنا أشدّ على النفوس ممّا عصوا فيه . فقال جماعة من المفسّرين : وجه اتّصالها أنّ المنافق لمّا لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم وأراد التحاكم إلى الطاغوت ، وقالت اليهود : ما أسخف هؤلاء يؤمنون بمحمّد ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمَرنَا نبيئُنا بقتل أنفسنا ففعلنْا وبلغت القتلى منّا سبعين ألفاً ؛ فقال ثابت بن قيس بن شماس : لو كتب ذلك علينا لفعلنا ، فنزلت هذه الآية تصديقاً لثابت بن قيس ، ولا يخفى بعده عن السياق لأنّه لو كان كذلك لما قيل { ما فعلوه إلاّ قليل منهم } بل قيل : لفعله فريق منهم . وقال الفخر : هي توبيخ للمنافقين ، أي لو شدّدنا عليهم التكليف لما كان من العجب ظهور عنادهم ، ولكنّا رحمناهم بتكليفهم اليسر فليْتركوا العناد . وهي على هذا الوجه تصلح لأن تكون تحريضاً للمؤمنين على امتثال الرسول وانتفاء الحرج عنهم من أحكامه ، فإنّه لم يكلّفهم إلاّ اليسر ، كلّ هذا محمول على أنّ المراد بقتل النفوس أن يقتل أحد نفسه بنفسه .
وعندي أنّ ذكر ذلك هنا من براعة المقطع تهيئة لانتقال الكلام إلى التحريض على الجهاد الآتي في قوله : { يأيّها الذين آمنوا خذوا حذركم } [ النساء : 71 ] وأنّ المراد ب { اقتلوا أنفسكم } : ليقتل بعضكم بعضاً فإنّ المؤمنين يقاتلون قومهم وأقاربهم من المشركين في الجهاد المأمور به بدليل قوله : { ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به } الآية . والمراد بالخروج من الديار الهجرة ، أي كتبنا عليهم هجرة من المدينة ، وفي هذا تنويه بالمهاجرين والمجاهدين .
وقرأ الجمهور { إلاّ قليل } بالرفع على البدل من الواو في { ما فعلوه } على الاستثناء . وقرأه ابن عامر بالنصب على أحد وجهي الاستثناء من الكلام المنفي .
ومعنى { ما يوعظون به } علم من قوله : { فأعرض عنهم وعظهم } [ النساء : 63 ] ، أي ما يؤمرون به أمر تحذير وترقيق ، أي مضمون ما يوعظون لأنّ الوعظ هو الكلام والأمر ، والمفعول هو المأمور به ، أي لو فعلوا كلّ ما يبلّغهم الرسول ، ومن ذلك الجهاد والهجرة . وكونُه خيراً أنّ فيه خير الدنيا لأنّ الله يعلم وهم لا يعلمون .
ومعنى كونه { أشدّ تثبيتاً } يحتمل أنّه التثبيت على الإيمان وبذلك فسّروه ويحتمل عندي أنّه أشدّ تثبيتاً لهم ، أي لبقائهم بين أعدائهم ولعزّتهم وحياتهم الحقيقية فإنّهم إنّما يكرهون القتال استبقاء لأنفسهم ، ويكرهون المهاجرة حبّاً لأوطانهم ، فعلّمهم الله أنّ الجهاد والتغرب فيه أو في غيره أشدّ تثبيتاً لهم ، لأنّه يذود عنهم أعداءهم ، كما قال الحصين بن الحُمَام :
تأخَّرْتُ أسْتَبْقِي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياةً مثلَ أن أتقدّما
وممّا دلّ على أنّ المراد بالخير خير الدنيا ، وبالتثبيت التثبيت فيها ، قوله عاطفاً عليه { وإذن لآتيناهُم من لَدُنَّا أجراً عظيماً } .